قراءة جماليّة مسافاتية في النص الموسوم ( أستفيقُ من ليلِ شعركِ الشتائيِّ الطويلْ)
للشاعر حكيم جليل الصبّاغ
بقلم : مسلم الطعان
مسافة إستهلالية…
النص الشعري المعاصر هو خطاب مسافاتيّ بإمتياز، عندما يكون مستفِزاً لإكتشاف البنية العميقة للمسافة الجماليةAesthetic Distance التي يتركها مبدع النص كبؤرة إختبار لقارئه الذي يشرع، عند القراءة، بشحذ أدوات وعيه الجماليّ ليكتشف أكثر فأكثر الطبقات أو المسافات الأخرى للنص، بمعنى آخر إن القارئ الجماليّ الواعي الذي يصل إلى تخوم المسافة الجماليّة Aesthetic Distance للنص سيجد بأن النص ينطوي على مسافات جمالية أخرى مترسبة أو مختفية في قيعانِ اللاوعي لديه، وفي اللحظة الجمالية لإكتشافها يصبح النص، بصرف النظر عن طوله أو قصره، عبارة عن جسد مسافاتي أو مجموعة مسافات Cluster of Distances. عندما يكتشف القارئ الجماليّ مسافاتية النص يشعر بأنَّ أصابع لعبة الحواسGame of Senses هي من يقرع أجراس شِعريّة الوعي الجماليّ لديه، وهنا تتضح لديه الأبعاد المسافاتية للنص، حيث كل حاسة تكون مقترنة بمسافة تتماهى معها جماليّاً، فالحاسة البصرية تصبح مسافة بصرية تضطلع بمهمة الإشتغال الصوّري في مخيلة الشاعر أو أي مبدع آخر للنص الأدبي ، والحاسة السمعية تصبح مسافة سمعية ذات مهمة صوتية تجذب أذن خالق النص أو القارئ-المتلقي، وكذلك الأمر ينطبق على الحواس الأخرى وكأنها في مهمة تبادلية مع المسافة، وعلى هذا الأساس تصبح المسافة مسافات ويصبح النص الإبداعي خطاباً جماليّاً يكتب ويقرأ بأدواتٍ مسافاتية.
مسافة النص….
شعر: حكيم جليل الصبّاغ
أستفيقُ من ليل شعركِ الشتائي الطويل
على نسائم صبح خدكِ الأسيل
أتنفسُ ضياءكِ العذبَ، يبدأ قلبي في فضائهِ تمارينَ الحب
ثم, ألقي برغبتي الظامئة الى مابعد حدود الذوبان…
في حدائقِ عينيكِ، وأرتقبُ الغروبَ المحمّر..
في شفتيكِ: قاربي جرحينِ في سماء…
من ذا الذي يخرجني من دوران الأرض،
ان أعلنتِ : حبي على مسامع الفصول…؟!
مسافة التماهي أو التناص مع النص:
مسافة إستفزاز الكاتب بوصفه قارئاً جماليّاًAesthetic Reader.
سنة تمر وسنة تمر وما زلت يا حكيم الجرح الشعري تنزف لغتك الرومانسية العذبة والتي تطوف دوما في محراب نزيف العشق..هكذا يصرخ دم شعريتك في أروقة الوجدان..أيُ تطوافٍ رومانسيّ عذب هذا الذي يسيلُ من ينبوع يراعك صوراً في غاية الدهشة تجعلُ المتلقي يشاركك لذّة التطواف والاستفاقة من ليل شعرها الشتائي الطويل ويرتلُ معك طقوس الحب حينما تهبُ نسائمُ الوجد من صبح خدّ فاتنتك الأسيل…ولولا استفزاز نسائم الصبح تلك القادمة من خدّ معشوقتك الحلمية لما استفقت يا صديقي..أعرفك جيداً تعشقُ النوم السرمدي تحت ظلال ليل الشعر الشتائيّ الطويل…!
أنت تحيلنا الآن الى مسافات الليل الشتائيّ الطويل.
كم كان ليل الشتاء طويلا..ننام ونحلم ونستيقظ وليل الشتاء طويل للغاية…الآن يا صديقي تغير كل شيئ…يبدو أن فاتنتك قد سرقت طول ليل الشتاء وأضافته لشَعرها فتغيرت موسيقى الفصول…!
وعندما تدق أصابع المسافة النقدية Critical Distance بوّابة الوعي الجماليّ تنفتح أمامنا مسافات القراءة مسافةً تلو أخرى:
مسافة أولى…: عندما يصبح الضياء هواء…!!
أيّة صورةٍ مدهشة تفغرُ لها أفواهُ مسافاتِ التأويل حينما يقولُ الشاعر:
(أتنفسُ ضياءكِ العذبَ
يبدأُ قلبي في فضائهِ
تمارينَ الحب)
أية صورةٍ مسافاتية تلك التي ينسجها الشاعر لتستفز مخيلتنا لنتخيل كيف يحدث هذا؟ كيف يتنفسُ الواحدُ منا ضياءَ حبيبته…؟ ضياء الحب أصبح هواءً عذبا ً نتنفسه ونتماهى معه في زمن نكون بأمس الحاجة الى هذا الفعل المسافاتيّ..لقد أصابنا القرف من نتانة ليل حياتنا الذي ربما لا يشبه ليل شعر حبيبة الشاعر، ذلك الشعر الشتائيّ الطويل. مسافة الشِعرية هنا مدهشة حقاً وهي تصور أسمى وأرقى حالات العشق التي يتنفس فيها العاشق ضياء معشوقته.ثمة تبادل مسافاتيّ Distantiative Mutuality هنا ما بين الضياء ، وتلك لعمري، دهشة مسافاتيّة لا يتقن نسيجها الا أصابع روح الشاعر المتصوّف-العاشق الذي يرتدي جبة العشق وطاقية السحر المسافاتيّ، تلك الروح المتسامية التي عاقرت خمرة الشِعرية و تشرّبت مساماتها بألحان وايقاعات لغة الشعر.
مسافة ثانية….
أية رغبةٍ تلك التي تتجاوز حدود لذّة الجسد وتأخذ الشاعر مبحرا ً في قاربه الحلميّ الذي لم ينكسر أمام قبح صخور الزمن وأمواج قسوتهِ العاتية إذ يلقي بتراتيل روحه وهواجس دفئه الشعريّ في حدائق عينيّ معشوقته وهو يخاطبها قائلاً :
( ألقي برغبتي الظامئة
الى ما بعد حدود الذوبان
في حدائق عينيكِ)
هذه الحدائق الهاربة دوما من عين الواقع من يأت بها الى ضفاف الحلم سوى جمر الشاعر الذي لا يعرف لغة الإنطفاء. الشاعر الذي لم يزل جمره الشعري يغنّي في مواقد الروح أغنياتهِ العِذاب.
مسافة ثالثة:
أيةُ مخيّلةٍ مسافاتية تلك التي يمتلكها الشاعر الذي سبر أغوار البراءة الأولى و خبر أسرار العشق الفراتيّ المقدس؟! أيةُ مسافة جماليّة جعلنا الشاعر ندلف إلى كهوفها العميقة لنبصر ونشعر هناك بجماليّات لعبة الحواسGame of Senses التي تمنح لغة أصابع الحلم إيقاعها المسافاتيّ وتجعلها تسيلُ إحساسا مدهشا؟! وهكذا فإن مسافة الأسئلة الجماليّة تتسع وتتسع أكثر فأكثر لتصبح مسافاتٍ و مسافات لدى القارئ- المتلّقي الذي يبحث عن ضالته في الإجابة، كلما غاص بعيداً في قيعانِ النصّ، و هنا تسحره براعة الشاعر الجماليّة إذ يبرع برسمِ تلك الصورة العذبة والصادمة مسافاتيّاً حين يقول:
(وأرتقبُ الغروبَ المحمرّ…
في شفتيكِ:
قاربيّ جرحينِ في سماء….)
يشتغل الشاعر هنا على صياغة صورة شعرية في غاية الدهشة حيث أن إرتقاب الغروب المحمّر في شفتي محبوبته يشي بحدثٍ مسافاتيّ.كم من المسافات التي نتخيلها ونحن نقف متأملين هذا المشهد الدراميّ بتصويره المتقن والمتموّسق مع إيقاعيّة نسيجه اللغوي، وكأن المسافة الجمالية هنا تخبرنا بأن الشاعر قد أوعز َ لفنان سرياليّ حبيس أن ينطلق من قمقم أوجاعه ليقدم لنا لوحة تشكيلية تنمّ عن اشتغالٍ رومانسيّ رغم سرياليته التي تنطق مسافاتها بلسانٍ عذبٍ في غاية السحر والروعة.أي تأملٍ مسافاتيّ مدهش هذا الذي ترسم فرشاة مبدعه المسافاتيّ تلك الصورة الشعرية الصادمة التي يتحول بها الغروب المحمّر في شفتي حبيبته الى: ( قاربيّ جرحين في سماء)؟! أروع ما في الخطاب الشعري المعاصر أن يكون مثيرا ً للأسئلة الجماليّة التي تخلق مسافاتها قارئاً جماليّاً Aesthetic Reader بإمتياز.
مسافة رابعة:
ثمة مسافتان تقترنان ببعضهما أو تعلنان زواجهما الكاثوليكي عندما تتبادلان نخب إيقاعيّة السؤال بشقيه الفلسفي والشعريّ في آن:
(من ذا الذي يخرجني
من دورانِ الأرضِ
ان أعلنتِ :
حبيّ على مسامع الفصول…؟!)
أيّ حب هذا الذي يجعل الشاعر- العاشق متشبثاً بمسافات فردوسه الأرضي ولا يريد مغادرة (دوران الأرض) وكأن حبال جاذبيتها ليست ذات مسافة طبيعية كما نعرفه عن فلسفة الجاذبية، وإنما هي حبال عشقه لمعشوقته بشرط أن تعلن حبه ( على مسامع الفصول).
مسافة الخاتمة:
ان تجربة حكيم جليل الصبّاغ الشعرية تجربة تستحقُ أكثر من قراءة لاشك لأنها تجربة مسافاتية تأخذ قارئها الى مسافات ضفافٍ متنوعة..وأزعم بأن تلك السطور هي مجرد رد على استفزاز شعريّ يداعبُ به يراعُ احساس الشاعر حكيم الصباغ جسد أحلامنا ويجعلنا نطوف في محراب شِعريته الثرية ومخيلته الخصبة على الدوام ونرددُ معه ايقاعات رحلتهِ الحلمية تلك علَّنا نسمع إعلان الحب المسافاتي الذي ينتظره وننتظره وتنتظرهُ بشغفٍ رومانسيّ (مسامعُ الفصول)، فالحب في شعرية حكيم جليل الصبّاغ مسافة ذات طقوسية مقدّسة تقودنا إلى الغوص بعيداً بحثاً عن أجراس شعرية الوعي الجماليّPoetics of Aesthetic Consciousness التي تجعلنا ندرك بأن مسافةَ الحب هي عالم من المسافات مترامية الأطراف.