“ليلة البوح”
عن كتاب : ‘كلام الأبكم’
للباحث : المصطفى شكدالي
كتبها للمسرح: أحمد بلخضير
الشذرة الأولى
لوحة كوريغرافية
(أصوات الرياح مصحوبة بأنين..و آهات..الأبكم..إيقاعات الجسد..و الروح..(
صوت الأبكم :
(الأبكم وحديث الخلوة)
الأبكم :
(الأبكم يتعرى استعدادا لطقس الإغتسال)
الأبكم :
الصوت:
الأبكم : فهمت ….
الصوت: الكلمات التي تنفذ إلى الأعماق أصلها يسكنه الصمت .
الأبكم : فهمت ..
الصوت: النسيم هو استراحة الريح بعد الهزيم….
الأبكم : فهمت .. فياروحي كوني الآن برقة النسيم وهفيفه … ليس تمة عقاب أقصى على المرء
من أن يعيش في بمفرده …الجنة من دونهم على هذه الأرض غير ممكنة.
كم أنتم في حاجة إلى من يلمع مراياكم الداخلية لتظهر لكم فيها وجوهكم ممزوجة بوجوه الآخرين.. كم أنتم في حاجة إلى من يقرع طبول الحرب بدواخلكم .. كم أنتم في حاجة إلى جيش من المعاول لتحطيم أوهامكم…
كم أنتم في حاجة إلى الإغتسال بثراب الأرض ليطهركم من أوساخ انفسكم …أنتم في حاجة إلى زلزال عنيف يقلب الأرض فوق رؤوسكم…
(رعشة البرد تصيب الأبكم يتدثر بملابسه… الأبكم يلملم ملابسه ويخرج وكأنه يسحب الزرقة من وراءه )
الأبكم :
(ظلام)
الشذرة الثانية
( الأبكم على سريره يصارع الحلم )
الصوت :
الأبكم : أيها الصوت الهامس في عتمة هذا الليل أتزيغ بي عن نفسي…؟
أتدفع بي إلى متاهات بلا حدود..؟
أتدفع بي إلى عالم سميك من الغربة والإغتراب..؟
الصوت :في المنفى أيها الأبكم، للصمت سريرة لا يمكن للمنفي أن يبوح بها،لا يمكنه فعل شيء
آخر سوى التبرك بإشارات غابرة…
الأبكم : غثيان ينتابني عندما استحضر في كل لحضه أن للوطن في الصمت ذكريات ومع كل ذكرى تتصاعد
تنهيدة توحي بالخلاص.
الصوت : ليس الصمت إلا كلاما يميله حنين الغربة، فهل ستنشد من بحر الشوق والاشتياق
زابورا من الاناشيد الميتة؟…لن يكون نصيبي إن فعلت هذا إلا العودة بخيبة أمل وقلب
مكلوم…… فلن تنهار الأوثان بأناشيد ميتة…
كم كان عليك أيها الأبكم أن تقطع من محطات ودوائر لتصل بك خطواتك المثقلة إلى كوكب
غابت فوقه الشمس فغاب معها بريقك.
لقد أصبحت الآن مجردا من كل ظل يحفظ لك سرا وترامت من حولك في كل زاوية مرايا
تعكس انكساراتك المتعددة…..لا أراك إلا جبانا عاجزا عن مصافحة نفسه والتوحد بها، حتى
وإن كنت بالأمس القريب تمشي معاكسا لتلك الوجوه الصفراء وكانت تتبع خطواتك وتقتفي
أثارك تلك الكائنات النحاسية وهي تقوم بدورياتها لحراسة المدينة من عبث الشعراء وأفكار
الهامش.
(الأبكم يجوب المدينة بغطائه المهترئ)
الأبكم : كنت على حافة الطريق…كنت أمعن النظر فيما حولي…فأرى الناس مع بداية كل مساء
يدخلون المقاهي والحانات أفواجا….أفواجا…. كنت أعلم علم اليقين أن الليل قد افتضت
بكارته وأن النهار سيأخذ من الألوان.. الأسود…
صوت
الأبكم :
(يعود إلى محرابه يجـهـــــش الأبكــــــــم بالبكــــــاء)
الأبكم : هل أصبح شاهدا… أم شهيدا في هذه الليلة المعتمة ؟.. الآن وقد توحد الحدث بالذاكرة تحضرني صورة
واحدة فقط : الهامش الطويل…وغياب الكلمات…الآن وقد توحد الحدث بالذاكرة سأطلق العنان لكل
الكلام الذي ظل سجينا بداخلي…
(يرمي الأبكم بأوراقه في كل الإتجاهات)
صوت الأبكم: أرسله كلاما أبكما لينتج شذرات عن كل تلك القضايا التي كانت مصادرة..
أرسله كلاما أبكما عن كل تلك اللحظات التي كنت أجوب فيها المدينة باحثا عن نتف من المعنى أرسله
كلاما أبكما عن تلك اللحظات التي كان فيها ظلك يقتفي خطواتك حتى إذا جاء الليل انطوى وذهب إلى
مستقره، أرسله كلاما أبكما يحكي عن كل تلك الكلاب التي كانت تؤثث صمت الليل، وعن كل تلك
الوجوه المصابة بالصدئ وبعبث السنين ومكر الزمن…
الشذرة الثالثة
(الأصـــــــوات تتعـــــــالــــى)
(الأبكم يجمع أوراقه المتناثرة)
ص1: ليس من ينطق يتكلم، فالنطق خاصية الإنسان أما الكلام فهو للبعض فقط.
ص2 ادراكنا لأسباب شقائنا قد يقودنا لتحقيق سعادتنا ……..
ص3 يرتدون المقدس لاقتراف المدنس ……..
ص4 يتعدى الجسد ليغطي تشوهات الفكر……….
ص5 الأجدر بنا أن نقول “الكلاب تسير و القافلة تنبح……”
ص6 الأمل هو ألم معكوس بصيغه المستقبل و الانتظار…………
ص7 سقطت الوجوه وظلت الأقنعة ثابتة……….
ص8 خطيرة هي الحاضرة التي لا تنتج المعنى………
ص9 آلات ذكية لاستعمالات غبية……….
ص10 لا تنتظر ألا يتخلى عنك من تخلى عنه ضميره…….
ص11 من كثرة لغة الخشب تحولت أفواه أصحابها إلى معامل للنجارة……….
( تختلط الأصوات وتتداخل الأسئلة)
(ظلام )
الشذرة الرابعة
( الضوء يخترق نافذة الأبكم )
الأبكم وسط حزم الجرائد…
(إيقاعات على أنين الأبكم الذي يسبق الكتابة…)
الأبكم إلى من لايهمه الأمر… أكتب إليك عن أولئك الذين ضاق بهم المجال فساحوا في الأرض بحثا عن فضاءات أرحب، أولئك الذين تحول الأمل بداخلهم إلى ألم من طول الانتظار فأضحت وجوههم متشابهة كقصدير مصاب بالصدأ بفعل نحت الزمان ومكره،أولئك الذين إذا ماتوا ظلت غصتهم حية في قلوب أشباههم يحملونها كما تحمل الأم جنينها، نمصه تولد وتتوالد معهم من رحيل .. إلى رحيل ومن جيل إلى جيل……
لقد حاولت أن أكتب لك شيئا جميلا لكنني لا أملك من الأقلام إلا مشراطا لذلك كانت كلماتي تشبه الجراح العميقة أو ندوبا كتلك التي تشوه الوجوه الجميلة.
(يتصاعد أنين الأبكم)
صوت
الأبكم:
(إشارات ضوئية توحي بإعتقال الأبكم)
(ظلام)
الشذرة الخامسة
صوت من المقرف حقا أن يتعلم الذباب صناعة العسل…..والمقزز أكثر أن تجد من يتلذذ بأكله، لكل هؤلاء
الأبكم: أريد أن أقول : إن النحل لم يفرط في إنتاج العسل لكنه احتمى بالجبل هروب من جحافل الذباب الذي
استوطن البطاح….وبلاد الانبطاح…فمن أراد عسل النحل فليصعد الجبل ومن أراد عسل الذباب فلينبطح مع
المنبطحين…. (الأبكم و كرسي الإستنطاق)
الصوت الإسم؟
النسب؟
(الأبكم ولا رد فعل)
لا أظنك واع بالتهم الموجهة إليك.
(الأبكم يدخل في هستيرية الضحك يشده المحقق بعصبية من شعره يرن الهاتف)
الصوت تنظيم تجمعات…توزيع المنشورات…التحريض على الفتنة…و الإخلال بالنظام العام
(ظلام يصاحبه أنين الأبكم وألم الإستنطاق)
الصوت ما معنى أيها الأبكم أن تغرد خارج السرب ؟
الأبكم لا يمكنك أن تستوعب معنى التغريد خارج السرب إذا لم تسعفك قدارتك الذهنية على التحول من منطق
الزواحف إلى منطق الطير… في الأعالي فقط يمكنك أن تستوعب كنه التغريد خارج السرب….أن تغرد
خارج السرب معناه أنك اكتشفت أن السرب لا يغرد وإنما يقلد….
أن تغرد خارج السرب معناه أنك تبحث عن صدى لطيور تغرد بدورها خارج السرب لتكتمل سمفونيتك
بلون الإختلاف…
الشاعر ما قول الأبكم في ذلك الذي يحلم ولا يحقق حلمه؟
الأبكم إذا حققت حلمك فهو باطل….أن تحلم وتسعى لتحقيق حلمك معناه أنك لم تخرج بعد من دائرة الممكن، أروع
الأحلام هي تلك التي تكتبها بلغة الغائب … لا بلغة الشاهد، عليك فقط أن تركن إليها لتأخذك في عوالمها
حيث لا مكان لسؤال متى وأين ستتحقق؟
عليك فقط أن تتحقق أنت من خلال أحلامك، لا أن ترغب في تحقيقها.
الصوت أتقول شعرا ؟
الأبكم لا سيدتي منذ أصبح الشعر في زمن الشعير توقفت عن المحاولة، لا أحسن القوافي وليست لي مجاديف
لأركب بحور الشعر…كلماتي يا سيدتي لا تشبه القصائد في شيء، كلماتي لا تحمل كنهها إيقاعات
فهي من شدة علتها تخرج مني كالمعاول….إنها فقط تنبت مسامير من النحاس الخالص في حدائق
النسيان…..أصبحت كلماتي مسمارية لا تصلح إلا لتغرس في نعوش الموتى…
الصوت أية لغة تسكنك ؟
الأبكم اللغة التي تسكنني هي التي أسكن إليها لأكون الفاعل المرفوع….تسكنني لغة واحدة فقط هي لغة
الممنوع من الصرف وكل الضمائر فيها متصلة لا منفصلة، مستنيرة….لا مستترة…..
الصوت نحن في حاجة لمن يقول لنا كيف نحن؟ وكيف يجب علينا أن نكون؟
الأبكم ماذا عسى لأبكم صائم عن كلام الناطقين أن يقول؟ عم تريدونني أن أكلمكم؟ أنا لا أحسن الكلام الذي
يرضي أهواءكم، لم أتعلم من الكلام إلا ذلك الذي يظل بكما بين الكلمات المنطوقة .
لست فقيها لأحدثكم عما يجوز وما لايجوز لست مصلحا لأقوم بكلماتي اعوجاجكم…..لن تستقر كلماتي في
أذهانكم وانتم ملتصقين بهذا الحائط خفية عن أنظارالمراقبة. كلماتي من شدة خفته يتبخرنحو العلو كلما نطقت به.
إنكم في حاجة لأجنحة للتحليق وملاحقته والمسك بمعانيه..
الصوت ما معنى أن تكون بوهيميا في هذا الزمان الأحدب؟
الأبكم أن تكون بوهيميا معناه أنك قمت بإستئصال معدتك واكتفيت بالهواء لتغدي روحك التواقة للطيران هذا هو قدرك
أيها البوهيمي عليك أن تتعلم التحليق بعيدا نحو الأفق حيث الهواء وزرقة السماء…
إياك أن تذرف دمعا وأنت تحلق فالدموع في زمننا الأحدب من إختصاص التماسيح…
الصوت ضاع ما تبقى من المعنى أيها الأبكم.
الأبكم هكذا هو حال الباحثين عن المعنى في الليل الأبرص ينكشف الكنه على ضفاف مستقر النهار يدفن اللامعنى،
لا تحزن ففي اللامعنى يكمن المعنى… لا تحزن سينتشر البهاق فوق رقعة الليل ويصبح ليلنا ناصع البياض،
فليذهب النهار إلى الجحيم.
الصوت لماذا أنت غائب باستمرار؟ لماذا تمارس سياسة الكرسي الفارغ؟
الأبكم عندما كنت حاضرا غاب الكرسي و من شدة ألم الوقوف تعلمت المشي، فليبق الكرسي فارغا ما دمت
متحركا ….
الصوت لماذا تضع الناس في سلة واحدة؟
الأبكم عذرا فكل السلال التي أتوفر عليها مثقوبة لذلك فهم يتساقطون في كل مرة ….
الصوت ماقولك في قضية حقوق الإنسان؟
الأبكم أنا لا أحسن الكلام إلا في عقوق الإنسان…إنها مشكلة عقوق قبل
أن تكون حقوق…
الصوت كيف للأبكم الفيلسوف أن يكون متيما بالمسرح؟
الأبكم وحدهما الفلسفة والمسرح لهما صفة الأبوة فالمسرح أبو
الفنون…والفلسفة أم العلوم….
الصوت يقولون أن مشكلة تعلمينا تكمن في ضعف التوجيه
الأبكم بل مشكلة تعليمنا تكمن في توجيه الضعف الذي يحول الفشل الدراسي إلى نجاح انتخابي.
)أصوات متداخلة(
الأصوات ما الفلسفة أيها الأبكم ؟
الأبكم الفلسفة يا ولدي كالهواء وعلى الإنسان أن يستنشقها مع كل
تنهيدة ومع كل غصة…وقد تتحول من هواء إلى ريح عاتية تأخذ
معها كل الحدود و القيود…الفلسفة يا بني فعل أبدي…صرخة
أزلية في وجه بؤس العالم، هي كالحمى القرمزية إذا سكنت
أحدهم تصبح معدية….لا تشغل بالك يا بني واذهب هناك بعيدا
إنها لا تأتي إلا بعيدا عن الغوغاء والدهماء..
(يرتفع أنين الأبكم ) (ظلام)
انتهت