قالَ لهُ أهلُ القريةِ الغاضبينَ : لقد نفدَ صبرُنا , وفقدنا طاقاتِنا لابدَّ لنا أن نغادرَهذهِ القريةَ الفقيرة.
وصاحَ الجميعُ : الرحيل , الرحيل ، الرحيل ..
بشيءٍ من الحزنِ تكلَّمَ الرجلُ الصالحُ : بالصبرِ تهونُ الشدائدُ وتهونُ المصاعبُ ولا يمكنُ أنْ تتخلّوا عن قريتكم في وقتِ الشدّةِ وهي التي أطعمتكم وجمعتْ شملكم على المحبةِ والطيبة..
في صباحِ اليومِ الثاني جهزُّوا العرباتِ التي تحركتْ بعيدةً عن القريةِ حاملةً معها أهلها اليائسينَ الذينَ اتفقوا على الرحيلِ إلى بلادٍ أو قرى أخرى .
لِرفضِهِ التخلي عن القريةِ بقيَ الرجلُ الصالحُ وحيداً حزيناً في القرية , لكنَّهُ في نفسِ الوقتِ لمْ يدع الحزنَ يتغلبُ عليه لذا دأبَ بكلِّ همةٍ ونشاط على حفرِ بئرِ ماء.. ..بعدَ أيامٍ طويلةٍ تمكَّنَ الحكيمُ من حفرِ بئرٍ وإخراجِ المياهِ من باطنِ الأرض وحفرِ السواقي لغرضِ توزيعِ المياهِ بالتساوي على البساتين والمزارع .
معَ مُرورِ الأيامِ والأشهرِ عادت الحياةُ الجميلةُ إلى القريةِ وأصبحتْ أكثرَ تألقاً وبهاءاً فأثمرتْ أشجارُها وجرت المياهُ العذبةُ في سواقيها إلى درجةٍ أنْ ذاعَ صيتُها بينَ الناسِ والقرى والبلادِ المجاورةِ فأخذتْ أعدادٌ كبيرةٌ من الناسِ والتجارِ من مختلفِ البلدانِ تقفُ عندَها لشراءِ محاصيلها المتنوعةِ من خضراوات وفاكهةٍ لذيذة.. كلُّ هذا بفضلِ اللهِ سبحانه وتعالى ثمَّ بفضلِ همةِ وعزيمةِ الحكيمِ الصبورِ الوفيِّ الذي لمْ يتخلَّ عن أرضِهِ أبداً متحملاً كلَّ المصاعبِ والمشقاتِ لوحدِهِ.
عندما سمعَ أهلُ القريةِ المهاجرينَ بِقصةِ قريةِ الحكيمِ قرّرُوا السفرَ إليها قاصدينَ العملَ والعيشَ فيها لِكونِها المكانَ الأنسبَ لهم .
في طريقِ السفرِ تفاجأ أهلُ القريةِ أنَّ الطرقَ والمسالكَ المؤديةَ إلى قريةِ الحكيمِ هِيَ نفسُ الطرقِ التي تشيرُ إلى قريتهم الأصلية . وحينَ وصولِهم اندهشوا كيفَ أصبحتْ قريتُهم الجافةُ قريةً خضراءَ يانعةً مزهوةً بأشجارِها ومحاصيلِها ومياهِها الوفيرةِ.. حينها أحسُّوا بِخطئهم وندمِهم على تركِ القريةِ لرجلٍ واحدٍ يعمِّرُها ويكافحُ من أجلِ بقائها، على العكسِ منهم وهُمْ كثرةٌ لكنَّهم تخلّوا عنها . ذهبُوا إلى بابِ الحكيمِ يطرقونَهُ ورؤوسُهم منحنيةٌ إلى الأرضِ يقولونَ لَهُ : سامحنا أيها الرجلُ الطيِّبُ لقد اخطأنا بحقِّكَ وبحقِّ أرضِنا .. إننا نادمون.. اننا نادمون . خرجَ إليهم الحكيمُ برأفةٍ ورقةٍ وقالَ لهم أمامَ عتبةِ الباب : لاحاجةَ بي إلى ندمكم . هذِهِ أرضكم وهذهِ بيوتكم تنتظركم أغسلوا ندمكم بترابِ الأرضِ واعملوا على تعميرها والحفاظِ عليها والحرصِ على حمايتها من الأخطارِ والكوارث ..
فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون