ط
مسابقة القصة

ملخص رواية ( المنفيون) مسابقة الرواية بقلم / نعيمة بن دحمان . الجزائر

• الإسم: نعيمة بن دحمان
• شهرتها:رحيل العلي بن دحمان
• البلد : االجمهورية الجزائرية
• لينك حساب الفايس : https://www.facebook.com/rahile.ben.333

• نوع المشاركة: الرّواية الطّويلة ) ملخّص الرّواية (
• العنوان : المنفيّون.
ملخّص رواية المنفيّون
جاءها الصّوت من كلّ مكان بعد أن ضلّلها صداه؛ فصارت تتلفّت إلى كلّ الإتّجاهات في حيرة..إنّها تعلم الآن أنّ خطبا ما قد وقع ولكنّها لا تفقه شيئا ممّا سمعته..عاد الصّوت ؛ فإستدرات ” حوريّة ” إلى شقيقتها تسألها:ــ هذا صوت ” محند ” ولكن ماذا يقول؟
كانت قد ملأت القربة بالماء وعبّأتها على ظهرها بكلّ يسر مستندة إلى سطح القرميد الّذي يغطّي المنهل..إنّها لم تتجاوز الثّانية والعشرين ربيعا..لم يتسنّ للأخت المنكبّة على ملء قربتها هي أيضا الإجابة بعد أن صار ” محند ” ذي الخمسة أعوام على مقربة من أمّه..وقف على الصّخرة الّتي تحجب القرية عن منبع الماء وصاح قائلا:ــ يمّااا..عسكر الغزاة إدّاو باباااا..
إمتقع وجه الأمّ وإنقبض قلبها ، وإنطلقت ــ تتبعها شقيقتها ــ تركض نحو القرية متمسّكة بالقربة ولم تفكّر ولو لثانية في التّخلّي عنّها..لا أعلم لماذا يقع كلّ منبع ماء في منطقتنا في مكان سحيق أسفل المنحدرات إنّها تطلّ كملكة أمازيغية عذراء على سهول شاسعة تبدأ من خلالها ما نسمّيه بالقبائل الصّغرى، وكأنّ قساوة الحياة لم تكن كافية على ” حوريّة ” ومثيلاتها لتجعل من كلّ عمل يقمن به جهدا عضليا جبّارا بينما أنا الّتي أشعر بالإعياء لمجرّد حمل قارورتي ماء لوضعهما بالثّلاّجة..أنا حقا مريضة وأترقّب زائرا من تلك الجزيرة البعيدة طال إنتظاري له؛ أخشى ألاّ يصل قبل وفاتي، و”حوريّة” كانت يومها تحمل القربة وصغيرها ” جلّول” الّذي لم يتبقّ على ولادته سوى شهران..نسيت المسكينة في غمرة الفاجعة أنّها تحمل أثقالها ؛فركضت حافية القدمين تتسلّق المرتفع بخفّة الفراشة..وأيّ فراشة!..عندما بلغت مشارف الدّيار كان زوجها قد غادر يتعثّر في سلاسل كبّلت يديه مع مجموعة من رجال آخرين أجبرهم الإعياء على اللّجوء إلى القرية ومعالجة جروح أصيبوا بها بالمعارك الطّاحنة الّتي كانت تدور بالسّهل.. جرّتهم البغال وتقاذفتهم بنادق الجنود المسنّنة بسكاكين حادّة ، ومضوا عبر الدّروب الوعرة الّتي شهدت ميلادهم وطفولتهم السّعيدة الّتي لم يشوّش عليها سوى الأنباء الّتي كانت ترد إليهم منذرة بإقتراب الغزاة من حدودهم.. وكان هؤلاء يمرّون فوق الجثث ليصلوا إلى أماكن أخرى لم يكونوا بعد قد بسطوا سيطرتهم عليها. .هناك من كان يسير ويلتفت إلى الوراء مودّعا؛ يداخله شعور جامح بالبكاء المتصاعد من الأعماق لكنّه يقاومه فالرّجال لا يبكون؛ وإنّما يتألّمون في صمت ويتحمّلون في جلد المصائب أو يثورون غير آبهين للموت الّذي يترصّدهم..خرجوا يتبعون مصيرهم بكامل زيّهم ؛ فهل كان الوقت كافيا ليلبسوا” البرنوس الأبيض” و”القندورة” فوق السّروال القطني المحتشم والسّروال العربي العريض؟..حتّى العمامة كانت ضرورية على الرّأس كخمار المرأة الّتي تخجل من الخروج حاسرة الرّأس مظهرة فتنتها للشّباب المترقّب لكلّ فسحة يحظى فيها بهكذا مشهد .
إنّه العام 1873 للميلاد..إخترق صوت “حوريّة” ستار السّحاب الكثيف في تلك الصّبيحة الخريفية..نادت على ” علي” بكلّ ما ملكته من طاقة :ـــ عليييي..يا علييي…آه يا علييي
رمت بالقربة جانبا وأمسكت بيد ” محند” وحيدها، وأرادت أن تركض مجدّدا لعلّها تلحق بالقافلة العسكريّة فلربّما لم يبتعدوا كثيرا..لكنّ ألما حادا مفاجئا جعلها تتكوّر حول نفسها وعبثا حاولت..تسلّل خيطان رفيعان من الدّماء..زاحما بياض فخذيها وأكملا مسيرتهما حتّى إستقرّا على التّراب والعشب فوقعت على ركبتيها خائرة القوى.
ما هذه العاصفة الهوجاء الّتي إقتحمت هذا المكان الجبلي الآمن فإجتثّت خيرة أبنائه وأخذتهم إلى وجهة غير معلومة؟..وتركت خلفها شيوخا لا حول لهم ولا قوّة..هاهم يكبّرون ويرفعون الأيدي إلى الله بالتّضرّع متشفّعين بالرّسول وبالأولياء الصّالحين..بينما علا العويل والزّغاريد حول الصّبية و” محند” الّذي إنتصب وسط السّاحة كطائر هائم لا يعرف وجهته..غرقت “حوريّة” في بركة من الدّماء ، فإحتملتها النّساء إلى صحن الدّار، وأعددن حجرتها لإستقبال المولود الجديد الّذي طال إنتظاره..لقد هجر “علي” أسرته وقريته لأجلها وقدما للعيش معا بقريتها ؛ فما ذنبها أنّها لم تنجب مبكّرا مثل الأخريات يحملن من أوّل ليلة تنتهك فيها طفولتهنّ؟..دخل عليها ” علي ” وعمرها لم يتعدّ الإثني عشر عاما وعرف كيف يجعل من ليلتهما الأولى معا موعدا غراميا لروحين فتيّتين لم تعرفا من الحبّ سوى ما كان منذ تلك اللّيلة الخالدة في قلبيهما . فالحبّ كان حينها عفيفا ويتحوّل سريعا إلى عشق فريد من نوعه يولّده الحرمان فيتحوّل العاشق فجأة إلى شاعر وعازف للنّاي ومغنّ يصف معشوقته ويبثّ أشواقه في الحلّ والتّرحال إن لم ينل مبتغاه..وبعد أعوام أنجبت ” محند ” الصّبي الجميل النّبيه ؛ فأقيمت الولائم وإحتفل به جدّه لأمّه كما يجب وذبحت القرابين من الماشية عند ضريح الوليّ الصّالح ورفعت الأكفّ بالدّعاء له بوافر الصّحة والصّلاح وطول العمر..ثمّ نالت فرصتها الثّانية في الإستمتاع بحالة الحبّ المترعة بالسّعادة مع ” عليّ ” الشّاب الّذي لم يتجاوز بعد عقده الثّالث لتحمل منه أخيرا بعد طول ترقّب من الأهل لتكتمل حياتهما الغنيّة بمشاعر الألفة ويثبت الإثنان لذلك المجتمع الظّالم أنّ الحبّ ينجب حبّا دائما .
بينما تمدّدت ” حوريّة” في الفراش تنادي على “علي” زوجها وحبيبها..بقي “محند” متسمّرا في مكانه متسلّحا بذاكرة فتيّة تسجّل كلّ شيء وكلّ ما يحدث وترسله إلى ذلك العقل المختبئ وراء الإدراك.
تردّد صدى العويل المتعالي من حناجر نساء القرية في الأفق ،لم تتحمّله الجبال المحيطة وهربت منه مياه الوادي تسابق ريح الخريف، وإكتسح إنشادهنّ المتفجّع للمأسورين حقول الزّيتون والبساتين وبيادر كانت تنتظر موسم الحرث والبذار ،فصفّقت الطّيور ضاربة بأجنحتها ،وحلّقت عاليا بعد أن أرعبها هذا الغناء الفريد من نوعه..ما الّذي تغيّر؟..ألم تكن المعارك مستعرة في السّهل هناك منذ أن إنتصب الشّيخ ” عبد الكريم ” بقامته الفارعة وبجسده القويّ الضّخم وسط ساحة السّوق يخطب في جموع الشّعب وقد رمى بعصاه بعيدا قائلا:ــ سنرمي المعتدين خارج أرضنا كما رميت عصاي..
فهلّلت الجموع بحماسة وكبّرت..رمى شيخ الزّاوية الرّحمانية بعصاه الّتي شحذت همم الرّجال وجعلتهم يتسلّحون بالعزيمة للإنتصار على جنود الإحتلال وحمل السّلاح معهم جنبا إلى جنب مع القائد الثّوري”رزقي” ؛فلماذا بقيت تلك الطّغمة ؟ولم تلق خارج حدودنا أو تغرق في البحر الّذي قدمت منه؟. ها هي تأخذ أبناءنا ،وتحرق الزّرع والحرث وتتصرّف بمنطق الإرهاب لتقتل كلّ رغبة في التّحرّرمنها.. عاد ” علي” ليلة أمس منهك القوى، نام ليلته مبكّرا ليلتقط أنفاسه ولم تحظ زوجته العاشقة سوى ببضع كلمات منه..قال لها وهو يغمرها بقبلات نمّت عن حرقة شبّت داخله:
ــ أنا الذّراع الأيمن للشّيخ ” الحوّاس” شقيق القائد “رزقي”.لذا لا أستطيع التّغيّب لأكثر من ساعات عن موقعي ولولا الإشتياق إليك وإلى ” محند” لما عدت قبل أن ننتصر أو أقضي في ساحة المعركة شهيدا.
إرتجف قلبها عند سماعها لكلمة الإستشهاد ولكنّها حافظت على رباطة جأشها وإبتسامتها حتّى لا تحبط من عزيمته وتشعره بالقلق عليها وعلى محند.وضع يده بحنوّ على بطنها البارزة وقال لها مداعبا:
ــ ماذا ستنجبين لنا هذه المرّة “حوريّة” الغالية؟..نريد مزيدا من المقاتلين ولا بأس إن كانت فتاة نجيبة مثل أمّها..تلاعب الرّجال بالسّيف وتتقن التّصويب بالبندقية..
لم تكن تنصت لكلماته فحسب بل كانت تبتلعها كقطعة من الشّهد الأبيض، تستزيد منه ولا يصيبها بالتّخمة
لم يخبرها عن الهزائم الّتي منيت بها المقاومة الشّعبية وبات ليلته يجترّ غصّة إستشهاد القائد “رزقي”. لم تكن تعلم أنّه ما جاء سوى ليودّعها فلعلّه يستشهد هو أيضا بدوره بعد أن بات باقي الثّوار يجترّون السّم الزّعاف على يد الغزاة المدجّجين بأحدث الأسلحة وتفوّقوا أحيانا عليهم في العدد، من دون أن ننسى حجم الخيانات الّتي قضت على كلّ أمل في الإنتصار..تركته مستسلما لنوم عميق ونزلت ما أن أصبح النّهار إلى منبع الماء لتجلب له ما يغتسل به وينعش جسده المتعب ؛ ليخلو إليها ولو لبعض الوقت قبل أن يغادر لكنّ الأيدي الآثمة سبقتها إليه ولعلّها لن تراه بعدها ؛ فكلّ من وقع في قبضة المعتدين كان مصيره الإعدام..ها هي “حوريّة” تندب حبيبها ، تمزّق فستانها المزركش بألوان الحقول والبساتين، وترمي بمنديل رأسها بعيدا وقد غرقت في بركة من الدّماء..سرعان ما خارت قواها بعد أن خاضت معركتها مع آلام المخاض..أحاطت بها الدّاية وأمّها تحاولان توليدها بينما إنفردت جدائل شعرها الأشقر الطّويل على الوسادة وغمرت الدّموع الغزيرة وجها لم يفسد ذلك الحزن العنيف تقاطيعه الفاتنة..إنّها إبنة الجبل، الطّويلة، الشّقراء ،عالية الجبين، إصطبغت عيناها بخضرة العشب النّدي، وتلبّدت وجنتاها بتورّد لا يزول..سمع “محند” العاكف عند باب الدّار بكاء خافتا، كان مصدره الجسد الهشّ الضّعيف ل”جلّول” الّذي ولد في شهره السّابع.. راحت الدّاية تحمد الله وتبارك لحوريّة وتمسح على جبينها ووجهها بمنديل أحمر مزيلة كلّ أثر لآلام النّفاس كما كان الإعتقاد سائدا حينها ولا يزال.. لكنّها أدركت أنّ ” حوريّة ” أغمضت عينيها ولم تفتحهما منذ ذلك اليوم..نفي “علي” بعد محاكمة سريعة إلى جزيرة “مجهولة” ، ونفي معه رجال كثيرون وكما كان الذّراع الأيمن ل”الحوّاس” في المعارك ؛كان رفيقه في رحلة عذاب طويلة..حملتهم السّفن إلى جزيرة عذراء تفتقد لأبسط مقوّمات الحياة، وكان ذلك بمثابة العقاب الرّادع لكلّ تمرّد قادم..هكذا بدل أن يرموا بهم خارج حدودهم بادروا هم بإجتثاث الثّوار والرّمي بهم إلى ما وراء البحر..أرى أنّ الشّيخ “عبد الكريم” كان أوفرهم حظا فرغم التّعذيب الوحشيّ الّذي تعرّض له إلاّ أنّه أستشهد وحظي ثرى الأرض الطّيبة بدمائه..شفوا غليلهم منه قبل أن يتركوه يمضي في درب ممهّدة إتّشحت بالإخضرار باسطا أساريره لحظة لقائه بمن سبقوه من الرّفاق.
هل تتوه الأرواح الصّاعدة إلى السّماء حين تلقي نظرة للأسفل فلا تعرف موطن أجسادها بعد ذلك؟ “الشّيخ عبد الكريم” حيّ يرزق الآن ولكنّ أرواح المنفيّين هامت على غير هدى منذ وطئت الأقدام البائسة شاطىء تلك الجزيرة المأهولة بالنّفوس المعذّبة الّتي فاق التّنكيل بها حدّ الوصف.
أقفرت الحياة من “حوريّة” و”علي” فجأة وأضحى “محند” وحيدا ؛يقضي سائر يومه هائما على وجهه في الحقول والتّلال والجبال المحيطة..غادره الخوف من المجهول منذ ذلك اليوم المشؤوم فتغلغل بقدميه الصّغيرتين الحافيّتين مستكشفا أسرار الأماكن النّائية عن الأعين..صار الجبل مع الوقت ملاذه وصومعته حيث ترهبن بحبّ وفكر نادرين في ذلك الزّمن..وعندما ينصب اللّيل خيمته على الأنحاء ينزل منه مجبرا كي لا يناله عقاب جدّه وجدّته فيلقاه “جلّول” الصّغير بالأحضان.
شبّ “محند” في عرف القرية وصار جديرا بالرّجولة لكنّه كان فتى متمرّدا ثائرا؛ لا يروقه الإلتزام. إستولى المستعمّر على أرضهم منذ أعوام وتحوّل جدّه إلى “خمّاس” كسائر القرويين الّذين سُلبت أراضيهم بدورهم وسُلّمت للقادمين من وراء البحر..كان يجلب في آخر النّهار حفنة القمح وما يسدّ رمقهم بالكاد ..تفنّن هؤلاء الّذين كانوا لوقت قريب أسيادا في إبتكار أنواع من الغذاء تليق بالخوان وزاحموا قطعان الماشية والبقر في جزّ الأعشاب البرّية وطبخها فلم يعد للنّوع أو الشّكل من معنى طالما ملئت البطون الخاوية.
إستيقظ الجدّ ذات يوم لصلاة الفجر فلم يجد “محند” بجانب شقيقه على الحصيرة..لم يشغل باله لبعض الوقت فلربّما خرج الفتى لقضاء حاجته..وعندما صلّى وخلا إلى نفسه يتجهّز للخروج إلى الحقل داخله شعورغريب بأنّ الفتى لن يعود..وعند تلك اللّحظة فقط إنتفض غاضبا ومتخوّفا من صحّة حدسه ، فهل يهون على حفيده هو وجدّته ليغادر ويتركهما يحترقان خوفا عليه بعد فاجعة فقدان أمّه وأبيه؟.
لم تكن شمس خريف تلك الصّبيحة حزينة كفاية لهذا الجدّ الّذي فتح الباب الخشبي الكبير بيدين مرتجفتين وقلب متوجّس ليجد خيول “العملاء” تملأ ساحة القرية وأنحاءها ــ هؤلاء المواطنون الموالون للغزاة والّذين كانوا في أحيان عديدة أكثر قسوة على إخوانهم ــ.. يقتحمون البيوت الحجرية ذات القرميد الأحمر ويخرجون الرّجال والشّباب ثمّ يفتّشونها بينما إنكمشت النّساء والفتيات جانبا مستترات مخافة جلب إنتباه أحدهم إليهنّ..إنّه زمن سفكت فيه الدّماء وسلبت فيه الأرواح ونفي فيه الأبناء إلى ما وراء البحر ليأخذ مكانهم أناس آخرون إنتشروا كالفطر في كلّ الأنحاء..إنّه زمن إغتصاب القلوب والأجساد.لا مناص من حذر يحفظ الشّرف والكرامة لتلك المرأة أو الفتاة.
دفعوا به بعيدا ليجد نفسه مع حشد من شيوخ ورجال القرية ودخلوا بيته يفتّشون عن شيء لا يعلمه هؤلاء الواقفون في حيرة ..وعندما إنتهت حملة التّفتيش قام ” القايد” حاكم المنطقة المنصّب من قبل المعتدين برفع عقيرته قائلا:ــ هناك من قام بالسّطو على مزرعة ” مسيو ميشال” ليلة أمس فساق الماشية وأخذ القمح والشّعير وأحرق ما تبقّى بالمخزن..فهل هناك من يعرف شيئا؟
إلتفت الجميع لبعضهم البعض مذهولين ؛ فمن لديه الجرأة على إرتكاب فعل كهذا؟..تذكّر الجدّ حفيده “محند ” وفكّر في نفسه : ــ هل يمكن أن يشارك حفيده في عمل كهذا؟..ثمّ أين هو؟..هل رحل حقا؟
لام نفسه لحظتها على قسوته عليه ولكن سرعان ما برّر قسوته بخوفه الشّديد عليه..قال في نفسه مخاطبا طيف حفيده: ــ أين أنت الآن يا ولدي..ربّي يسترك يا ولدي..
قطع صوت ” القايد ” عليه حبل تفكيره وهو يسأله:ــ أين ” محند ” يا ” سي الطّيب الدّحماني ” ؟
أجفل الشّيخ ولم يجد ما يقول وهو حقا لا يعلم بمكان وسبب غياب حفيده..قال في هدوء:
ــ غادر في الصّباح الباكر لزيارة أعمامه..وأنت تعلم يا ” سي القايد” أنّهم يقيمون في قرية أخرى..
حدّق “القايد” فيه مطوّلا وهو يدور حوله بفرسه وقد بدا غير مصدّق ثمّ قال :
ــ سنرسل من يسأل عنه هناك..فكما ترى الكلّ حاضر هنا ولا ينقص سوى ” محند”..هل يتجرّأ حفيدك على إقتراف جريمة كهذه؟وأنت تعلم أنّنا لا نتسامح مع الخونة والمجرمين؟ ولعلّه يريد اللّحاق بأبيه المنفي؟ّ
كان” القايد” إسم يحظى به الحاكم بإسم الغزاة على المناطق البعيدة والقرى النّائية الّتي يصعب على إدارة الإحتلال الوقوف على شؤونها فكان بمثابة ممثّل للدّولة المحتلّة هناك.
ما أن أخلي سبيل الجدّ ” سي الطّيب ” حتّى هرع إلى بيته شأنه شأن الآخرين ليطمئنّ على سلامة أهله وسارع في حذر إلى المخزن الّذي كان مليئا بالقمح قبل الإحتلال فلم يعثر على بندقية” علي” ولا على سيفه ؛ فأيقن أنّ ” محند ” رحل حقا وأنّه هو من سطا على مزرعة المعمّر “مسيو ميشال”.
مرّت الأيّام ثقيلة على الأسرة فلم يظهر أيّ خبر عن الحفيد منذ ذلك اليوم المشؤوم الّذي جعل فيه الحاكم العسكري القرويين يدفعون ثمن جريمة لم تقترفها أيديهم فرفع الأتاوات عليهم وألزمهم بأخذ أحد الشّباب مكان الجاني الحقيقي حيث نفي بدوره إلى ما وراء البحر..لقد كانت الجزيرة تبنى بسواعد السّجناء المنفيّين، بعد أن كانت مستعمرة ميّتة خالية من الحياة ، يُرمى بها المعارضون السّياسيون وأصحاب السّوابق وحتّى النّساء المحكوم عليهنّ كما تُرمى النّفايات، وهاهم الثّوار الحقيقيون يطؤون أرضها ليزرعوا فيها الحياة الّتي تركوها وراءهم ويعيشوا مرغمين في عالم لم يكونوا ليتخيّلوا وجوده حتّى في حكايات الجدّات الخرافية.
وصل نشيج ذلك الشّاب البريء في أغنيته مع أمواج البحر الهادرة ،وأصوات الصّيادين والبحّارة المسافرة عبر الأثير، وتناقلتها الرّكبان إلى أن وصلت إلى أسماع أمّه المكلومة..فإزدادت حسرتها وتضاعفت أحزانها وصارت ترى وحيدها في كلّ شاب تصادفه أو تسأل عنه في كلّ الإتّجاهات والأماكن..فقدت سلامها الدّاخلي حين فقدته ،سكنت الحقل والوادي فلم تعد تخشى وحوش البراري ما دام البشر أكثر وحشية منها..غادرها عقلها ما أن غادرت سفينة المنفيّين الميناء المشؤوم..
كان مطلع الأغنية يقول: قولو لأمّي ما تبكيش..ولدك راح وما يولّيش..يا المنفي
قولو لأمّي ما تبكيش..ربّي راهو ما يخلّيهش..يا المنفي
تعاقبت اللّيالي بيضاء على الجدّ ، لم يذق فيها طعم الزّاد ، يخرج مذهولا عن واقع مرّ ليفكّر في واقع آخر أمرّ. قال لعجوزه والحيرة لا تغادره بنبرة مليئة بالأسى:
ــ هل سيبتلينا الله في ” محند ” أيضا ؟ بعد أن كدنا نتعوّد على فجيعتنا في “حوريّة” و”علي”؟..لم تنجبي لي غير البنتين ولكنّني قنوع راض برزق أرسله لي الله..لكن كما ترين أنا أفقد الآن حفيدي الّذي كنت أراه الولد الّذي لم أرزقه.
أطرق برأسه وقد غالبه البكاء لكنّه تماسك أمامها فلا يليق بالرّجال البكاء..أمّا هي فقبعت في ركنها كالعادة وراء المنسج تداعب بأناملها خيوط الصّوف في صمت..وندّت عنها تنهيدة طويلة قالت من خلالها كلّ شيء..أردف قائلا:ــ سأحمي ” جلّول ” من نفسه ومن الآخرين أيضا ..فهوالرّجل الّذي تبقّى لدينا.. “محند” الآن بحكم الميّت فما هي سوى مسألة أيّام وربّما شهور..سيأتينا خبر مقتله أو القبض عليه حتما..أتساءل الآن كيف سأحمي “جلّول” ودماء أبيه وأخيه تجري في عروقه..ليرحمنا الله..
دُقّت الأبواب ذات ليلة في وقت متأخّر؛ الواحد تلو الآخر فخرج أصحابها ليجدوا رأس الغنم وكيسي القمح والشّعير في الإنتظار عند العتبة..شعر القرويّون بالخوف لكنّ الفقر يتحدّى هذا الأخير أحيانا ويجعل صاحبه يغامر لأجل لقمة تسدّ رمقه ورمق عياله..رحّبوا بالهديّة المجهولة الصّاحب وأخفى كلّ واحد سرّه عن الآخرين مخافة العواقب..نسوا ” محند ” مع مرور الوقت إلاّ جدّه الّذي تآكله الخوف عليه..تمّ السّطو على مزرعة ” مسيو ريمون ” بعد شهر من الحادثة الأولى وأختطفت إبنته الشّقراء “برنادت” ذات الخمسة عشر عاما..وإتّضح أنّ لإختفاء ” محند ” ربّما علاقة بذلك بعد أن عاد الرّسول قائلا أنّ أعمامه لم يروه قط ولم يعرفوه..بات التّساؤل الأهمّ هو : من هؤلاء الخارجون عن قانون الغزاة والّذين يقدمون على هكذا فعل ولا يخشون العواقب؟
تساءل ” محند ” وهو يرى “برنادت ” تنتحب منزوية في ركن من المغارة الّتي إتّخذها مأوى له :
ــ ما الّذي دهاني حتّى جئت بهذه المصيبة معي ..ولكن كان يجب أن أتصرّف بسرعة ليلتها بعد أن فاجأتني في حظيرة المواشي وكانت ستبدأ بالصّياح لتوقظ الحرّاس وأباها الحقير..والآن..هل أقتلها؟أم أعيدها إلى أهلها؟ أم أبادلها بما هو أثمن؟..
توقّف به التّفكير مليا عند فكرة : ماهو أثمن..وأيقن أنّها أثمن ما حصل عليه منذ تحوّل إلى الرّجل الخارج عن القانون بنظر المعتدين ..إسترق النّظر إلى ذلك الوجه المعفّر بالتّراب والمغرق في بركة من الدّموع؛فأعجبه وقرّر أن يحتفظ بها..كانت الفتاة تتوسّل إليه بعربية متكسّرة تارة وباللّغة القبائلية متكسّرة أيضا تارة أخرى كي يطلق سراحها ممّا جعله يتلذّذ ويضحك بشدّة من هذا السّيل العذب من الكلمات الّتي يغدق بها لسانها..لقد وجد أخيرا أنيسا يزيل عنه وحشة الوحدة والجبل..هو أيضا كان جذّابا بشكل ليس بالهيّن فما كان عليه سوى أن يستحمّ ويغسل ثيابه الرّثة أو يغيّرها بأخرى تناسب هذا الجسد القويّ المفتول العضلات..إنتبه فجأة إلى أنّه لم يسرق من قبل سوى ما يؤكل فلم يعر مظهره إهتماما حتّى غنم ب”برنادت ” الجميلة من ضمن غنائمه..قرّر الإستحمام في مياه الوادي رغم برودتها الشّديدة فالشّتاء الآن على الأبواب..عمد إلى جزمته المصنوعة من جلد البقر والّتي كان يربطها إلى أعلى السّاق بحبل رفيع بعد أن يلفّ الجلد حول قدميه من الأسفل حتّى الأعلى فنزعها وركنها جانبا بعيدا حتّى لا تزكم رائحتها النّتنة أنف الفتاة..إنتصب كالصّقر يحجب الشّمس عن مدخل المغارة وفكّر مليا في موضوع الإستحمام..فمن المستحيل أن تبقى برنادت وحيدة هنا مخافة الذّئاب أو الخنازير..لذا قرّر سحبها معه إلى أسفل الوادي حيث شدّ وثاقها لاحقا إلى جذع شجرة قبالته ، وغطس في المياه الباردة بعد أن غسل ثيابه وتركها تجفّ على أغصان الأشجار..في الحقيقة لم يكن يلبس سوى سروالا يربطه بحبل حول خاصرته وكنزة كثرت بها الثّقوب وبرنوسا تحوّل إلى اللّون البنّي بعد أن طاله القدم والعفن.. لسعته برودة الماء وشعر بجسده يحترق ولكنّه تحمّل لأجل نظرة إعجاب من العينين النجلاوتين اللّتين أغمضتهما الفتاة في إنتظار أن ينتهي هذا المشهد العنيف بالنّسبة لها..مضت الأيّام هادئة مع ” محند ” بعد أن قضى كعادته ليلة كاملة يروح ويجئ من الجبل جارّا الفتاة وراءه يفرّق رؤوس الماشية على الأهالي ومثقلا بغلتيه بأكياس القمح والشّعير..كانت العينان العسليّتان تتوسّلان وتنظران في كلّ الإتّجاهات لعلّها تبصر أحدهم فيحرّرها من قبضته..كمّم ذلك الثّغر العذب آسفا مخافة أن يصدر منها صوت يثير إنتباه أحدهم..وعندما عادا إلى الوكر ؛ كان التّعب قد أخذ منه مأخذه..فكّر الشّاب في أنّه من المستحيل أن يستمرّ على هذه الحال فلابدّ له من مساعدين ولابدّ له من الزّواج من هذه الفتنة الّتي لم يعد يقوى على الإبتعاد عنها..إنّه يحدّق فيها مطوّلا فيراها كالقطّة ؛تحتاج لمن يغدق عليها بحنانه فتأنس إليه وتحبّه..إنّه لا يأمن سوى لجدّه رغم قسوته عليه..أمضى ليال طويلة يفكّر في حلّ لمشكلته وقرّر أن يجمع حوله شبابا مثله لا يؤمنون بقانون الإستعمار والخونة ويؤمنون بأفكاره فهو يحقّق العدالة على طريقته وينفّذ قانونه هو..تعوّد على وجود ” برنادت ” ورأى منها متوجّسا بعض الهدوء والطّمأنينة له..تساءل بينه وبين نفسه :
ــ هل من الممكن أن تختار البقاء معي لو خيّرتها بيني وبين والدها الحقير؟..إنّي أراها تبتسم عندما أحدّثها ولا تغادر مكانها لو غلبني النّعاس فغفوت..
ثمّ يستسلم للأمر الواقع بأنّ الفتاة تفتقد لأبسط وسائل العيش معه وأدرك أنّه ربّما لن ينجو لو بقيت معه فالدّنيا مقلوبة رأسا على عقب لأجل العثور عليها..لم يصلوا إلى حيث هو لصعوبة المسلك وإرتفاعه عن الأرض..لكنّ ” العملاء ” الخونة يعرفون مسالك المنطقة وسيجعلهم الحرص على العثور على الفتاة يغامرون بالدّخول إلى وكره ؛ فماذا عساه فاعل حينها؟..قضى ساعات طويلة يحدّثها عن طفولته وعن أمّه وأبيه اللّذان غادرا عالمه في نفس اليوم عندما كان طفلا..حدّثها عن الحقول والبساتين الّتي كان جدّه يملكها قبل أن يغتصبها الإحتلال ويسلّمها للمعمّر القادم من وراء البحر.كانت تنصت..هذا ما كانت تفعله. قال لها في هدوء يغلّفه الأسى والحزن ذات ليلة:ــ هل ما زلت تريدين العودة إلى أسرتك يا ” برنادت” ؟
كانت كمن لم تصدّق ما تسمعه فإتّسعت حدقتا عينيها ودمعتا رغم الإبتسامة الواسعة الّتي توشّح بها وجهها الملائكي لاحقا..أشارت برأسها علامة على الإيجاب ممّا جعل صدره يصغر فجأة ويضيق على قلبه اليتيم المتخم بالأحزان..ثمّ عادت وأشارت برأسها بالنّفي فلم يصدّق ما رآه منها وشعر بقلبه ينطّ من صدره ؛ فإقترب خطوات يطلب منها المزيد من التّوضيح فأشاحت برأسها الصّغير عنه حياء وخفرا.
خرج مسرعا من المغارة مخافة أن يفقد السّيطرة على حوّاسه فيرتكب الفعل الممنوع معها وهي لم تصبح زوجته بعد ، وأنتظر هبوط اللّيل وإمتطى حصان جدّه الّذي كان قد أخذه في إحدى اللّيالي من مربطه وركبت بدورها خلفه..قطعا المسالك سعيدين يضحكان في همس بينما أحكمت ذراعيها حول خصره مسندة رأسها الصّغير على كتفه..ثمّ صمت “محند” فجأة وغاص في لجّة من التّفكير العاصف داخل عقله وبدأ يشعر بالضّيق ووخز الضّمير..لم يعودا يسمعان غير وقع حوافر الحصان وحفيف أوراق الشّجر..تركا الجبل خلفهما وصارا وسط الحقول الّتي كانت ذات يوم لأصحابها الّذين ورثوها بدورهم عن آبائهم وأجدادهم..تساءل بينه وبين نفسه:ــ ما الّذي يحدث لي؟..كيف نسيت الهدف الّذي خرجت لأجله؟..هل الحبّ معناه أن نتخلّى عن أهدافنا السّامية ونكتفي بسعادة مشاركة أنثى أحبّها القلب حياتنا؟..”برنادت” ليست أمّي الّتي أحبّها أبي البطل.هي إبنة معمّر قدم مع الغازي المحتلّ..فكيف يتيه قلبي وكيف أرخيت له الحبل حتّى وقع في غرامها غير آبه لما هو أهمّ من عشق فتاة..كم أنت تعيس الحظّ يا محند…
ها هي القرية تلوح له بعد أن إقتربا من الأكواخ الحديثة العهد لفقراء أجبروا على العمل لدى والد الفتاة وآخرين أمثاله..لم يتخلّ عن حذره فنزلا عن الحصان هامسا له في أذنه بشيء مبهم بينما كانت الحبيبة تحدّق فيه مبهورة بكلّ ما يصدر منه..سألته بصوت خافت جعل قشعريرة تسري في جسده وتدمي قلبه:
ــ ماذا قلت للحصان؟..أنت حتّى لم تربطه لجذع الشّجرة..
ردّ عليها بنبرة حزينة:ــ أوصيته بالهدوء وطمأنته بأنّي لن أطيل الغياب عنه..
قالت ضاحكة:ــ كان يجب أن تقول له بأنّنا لن نطيل الغياب عنه..
إلتزم الصّمت بينما أحكمت قبضتها على ذراعه وتبعته..تسلّلا بهدوء إلى الجامع..دخلا من بابه الخلفي حيث يقيم الإمام وأسرته.دقّ الباب بيد واثقة كعادته وكم كان وقع المفاجأة عظيما على الإمام المسنّ. إتّسعت حدقتاه وهو يرى الفتاة تدلف إلى الدّار خلف الشّاب..أدخلهما وأغلق الباب وفرائصه ترتعد ولكنّ محند طمأنه قائلا:
ــ سأترك معك “برنادت” سيدي الشّيخ لتسلّمها لوالدها من الغد..أقسم لك أنّي لم أقربها منذ أخذتها.
غادر الشّاب الجامع والقرية تاركا فتاته في بيت الإمام..وجد الحصان هادئا في إنتظاره فإمتطاه ومضيا إلى حال سبيلهما..لعلّ الحصان أيضا كان حزينا لفراق برنادت.ذاع خبر عودة إبنة المعمّر إلى القرية سالمة من غير دفع فدية لأجل ذلك.وذاع صيت محند في الأنحاء فتغنّت بأمجاده النّساء وتحوّل إلى فارس أحلام كلّ فتاة..بينما قضى الأيّام والشّهور يجمع حوله أنصارا لقضيّته وتضاعفت عمليّاته الّتي حارت لها عقول جنود الإحتلال والعملاء فقد كان كالزّئبق مستحيل الإمساك أواللّحاق به. تحوّل الجبل إلى مرتع للثّوار وشبعت بطون الفقراء..كبر في عيون الكثيرين وصار محطّ الإعجاب وكم كان الأمر غير عادي حين قرّر بعض أبناء الخونة نزع برنوس العمالة للعدوّ وإعتماد سلوكه فحملوا معهم ما إستطاعوا من السّلاح ولاحقوا الحلم النّبيل معه..في تلك الأثناء لم ينس محند برنادت ولا أصدقاؤه فكانوا يلحّون عليه بتغيير عرينهم مخافة أن تتذكّر الفتاة وتشي بالمكان للسّلطات الإستعمارية لكنّه رفض قائلا لهم:
ــ أنا أعرفها جيّدا ولا أخشى على نفسي أو على قضيّتنا منها..
ذات ليلة بينما توسّط البدر السّماء وهبّت الرّيح باردة معلنة عن ليلة شتويّة مثلجة ؛ تسلّل طيف ناعم بين الدّروب الوعرة المؤدّية للجبل وقبل أن ينتصف الطّريق أوقفها أحد الثّوار وحملها على ظهره مكمّمة الفم إلى قائده محند الّذي ما أن شاهدها حتّى قفز من مكانه غير مصدّق،ثار المكان وماج فقد خشي الجميع من مكيدة مدبّرة للقبض عليهم أو قتلهم ،لكنّ الفتاة إستفاضت في البوح بحبّها وإشتياقها لمحند وكان لابدّ من عقد قرانهما هناك بعد أن تأكّد لهم أنّها هربت لأجل هذا الفارس ..قضى العريسان ليلة العمرعلى فراش لم ينتبها لقسوته ، تحفّهما سعادة المحبّين..أطفآ نارالمغارة ــ بيتهما ــ فلم يكونا بحاجة للدّفء ما داما يهبانه لبعضهما البعض وقد إضطرم في قلبيهما. وككلّ الحكايات لابدّ من الخيانة ولابدّ من الغدرحين ييأس العدوّ من المواجهة فيقع البطل في قبضة الغازي بسبب أحد المندسّين وسط الثّوار مقابل نقود وقطعة أرض..وجاء الصّباح بعد أيّام بما لم يكن في الحسبان..إستيقظ الحبيبان على أصوات الخيول وعساكر المعتدين قد أحكمت حصارها على الجبل والمغارة فلم تترك الوقت الكافي للشّاب كي يلتقط بندقيته ويدافع عن نفسه هو والآخرون فوقع البعض قتلى بينما فرّ البقيّة عبر المسالك الوعرة. وجد نفسه أسيرا بينما إستلم ” مسيو ريمون ” إبنته وهي في حالة هياج..تعرّض ” محند ” للتّعذيب وحكم عليه بالنّفي كوالده إلى الجزيرة المجهولة..وبقيت عروسه حبيسة منزل والدها بعد أن حملت منه وأنجبت ولدا أصرّت رغم المعارضة الشّديدة لأسرتها على تسميته ” محند” .
كم كان مصير تلك الأسرة حزينا وقاسيا شأنها شأن غالبية المقهورين في تلك البلاد..لم يلتق “محند” جدّه وجدّته قط منذ ترك يد أخيه بعد أن قبّلها ومسح عليها بحبّ وقد تركت الحصيرة أخاديدها الرّفيعة على ظهرها..دخل “جلّول” إلى الكتّاب ومن ثمّ أرسله جدّه إلى المدرسة الدّاخلية حيث نبغ وأذهل مدرّسيه. تجاوز حاجز اللّغة وأمعن في إتقانها ، ونبغ في دراسته..لم ينس ذلك الطّيف القوي العضلات الّذي كان يلقاه كلّ مساء ليعانقه ويرفعه عاليا نحو السّماء قائلا له ضاحكا:
ــ هكذا أريدك عاليا في السّماء..تشرئبّ إليك الأعناق كي تراك..
لم يفهم الصّبي وقتها لكنّه مع مرور الأعوام فهم ما كان يرمي إليه شقيقه ” محند ” فحرص على العمل ليحقّق آمال الأخ المنفي..توقّفت عمليّات النّفي إلى تلك الجزيرة مع بدايات القرن العشرين ولم ينس أحد هؤلاء المخطوفين من بيئتهم وأسرهم ليزرعهم المحتلّ في مكان كان لهم الفضل في جعل الحياة تدبّ فيه وتنتعش ..توفّي الجدّان وإنخرط ” جلّول” في العمل السّياسي والثّقافي مؤمنا بأنّ الكلمة سلاح والحفاظ على الهويّة درع يحمي الكفاح لأجل الإستقلال كيفما كانت أشكال هذا الكفاح..
أنا حفيدة ” جلّول ” المناضل الّذي أفنى حياته مستميتا في الدّفاع عن حقّ الحياة المكفول لأصحاب الارض حسب ما تنصّ عليه شرائع الإنسانية والقوانين الدّولية بعد أن صار من ألمع المحامين في عصره..ها أنا بهذا العمر المتقدّم والمرض الّذي لا يسمح لي بالأمل الكثير أنتظر زائري..وأتساءل منذ وصلتني الرّسالة على بريدي الإلكتروني منذ أيّام :
ــ هل من الممكن أن يكون “محند” قد إلتقى والده في تلك الجزيرة الملعونة؟..ومن الّذي تزوّج منهما لينجب أولادا ؟أم أنّ كلاهما تزوّج رغم تلك الظّروف القاسية لأنال في الأخير شرف زيارة الحفيد الّذي أخبرني بدوره أنّه من الجيل الرّابع لأسرتي المجيدة المجاهدة؟…ترفّق بي أيّها الوقت فإنّي أرنو بعيني الحنين إلى سفينة المنفى تعيد إليّ بعضا من الأرحام.
النّهاية

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى