اسم المشارك: عمراني عبد العزيز
الدولة: الجزائر
اسم الشهرة: السلطان
الاتصال: +213553976486
الفايسبوك: https://www.facebook.com/xoamrani3/
https://www.facebook.com/xoamrani
المقدمة:
مشاهد حول واقع العرب الأليم، خراب ودمار في كل مكان، عائلات لا تجد ما تأكل، نساء ورجال مشردين في الشارع، آفات اجتماعية وقضايا اغتصاب، انتحار ومخدرات تروج في المدارس الإعدادية، أشخاص همهم الوحيد أن يعيشوا حياتك الخاصة، نصفنا يموت بسبب العين والسحر، بلدان لا يعيش فيها إلا التافهون والأنذال.
الأذان يعلوا على مسامعنا ولا أحد يهتم.
ما محلنا من الإعراب كعرب وما محل الإسلام منا.
في دولة من هذه الدول العربية واقف أحدهم في تلك الزاوية، متكئ على جدار في الحي الذي يسكن فيه، فتاة داخل سيارتها الفخمة تمر من أمامه، أطفال يجرون وراءها وهم فرحون، طفل حافي القدمين يجري وهو ماسك سرواله الكبير حتى لا يسقط عنه، كل شيء هنا يجعلك تفكر في الهجرة بعدما كنت تفكر في الانتحار.
في تلك الأزقة الضيقة التي تعجّ بالصخب والوجوه العابسة، وُلد حلم الهروب من الواقع الذي سحق أرواحهم. “عزيز” لم يكن وحيدا في هذا الحلم، كان معه رفاق دربه صلاح وحليم، كل واحد منهم حمل داخله أملا بائسا بأن يلقى حياة جديدة في مكان ما بعيدا عن الفقر والظلم الذي طالهم. لكن ما لم يكن يعلمه “عزيز” أن تلك الرحلة لن تكون سوى مغامرة مريرة تحمل في طياتها خيبات متلاحقة من تركيا إلى فرنسا مشيا على الأقدام..
في خريف 2023، حينما كانت الرياح تحمل برودة الأيام الأولى من الشتاء، وصلت مجموعة “عزيز” إلى مطار إسطنبول. كانت السماء ملبدة بالغيوم، والجو مليئا بروائح القهوة التركية والمأكولات المحلية، حيث تتجلى روح المدينة في كل زاوية.
استقبلهم مطار إسطنبول بجحيم من النشاط. المسافرون يتجولون في كل الاتجاهات، بينما أضواء المطار تتلألأ كنجوم في السماء. لكن رغم كل ذلك، كان “عزيز” ورفاقه يشعرون بالوحدة. كان لديهم أحلام كبيرة، ولكن تلك الأحلام كانت محاطة بخوف من المجهول.
استقروا في حي شعبي يدعى “أوسكودار”، حيث كانت الشوارع ضيقة ومزدحمة. المباني كانت قديمة ومتهالكة، والأسواق تعج بالباعة المتجولين. كانوا يعيشون في غرفة صغيرة معا في شقة قديمة، حيث كانت جدران الغرفة تحمل قصصا من حياة سابقة.
وهكذا بدأت الرحلة من تركيا إلى اليونان، إذ دخلوا مدينة إدرنة عبر طرق مهجورة، سيرا على الأقدام في ليالٍ مظلمة، حيث كان البرد يعانق أجسادهم المنهكة. عند وصولهم ، عملوا في ورشات غير قانونية، وناموا في مستودعات فارغة، يتقاسمون الحلم نفسه، لكن الصعوبات كانت أكبر من طموحاتهم. حليم، الأكثر حكمة، كان دائما يفكر بخطة، بينما كان صلاح يعيش على أحلام النساء الأوروبيات والحياة المرفهة.
بعد عدة أشهر من العمل الشاق، قرروا أن الوقت قد حان للانتقال إلى المرحلة التالية: عبور الحدود التركية إلى اليونان.
في أوائل شتاء 2024، وبعد أيامٍ طويلة من السير على الأقدام، وصل “عزيز” ورفاقه إلى الحدود التركية-اليونانية. كانت السماء ملبدة بالغيوم، والبرد القارس يضرب أجسادهم. الشمس كانت تغيب خلف التلال، تاركة خلفها ظلالا طويلة تكسو الأراضي المحيطة بهم، فيما كانوا يتسللون عبر الحدود التركية نحو اليونان تحت جنح الظلام.
عندما اقتربوا من السياج الحدودي، وقف الجميع للحظة كأنهم يتنفسون الصمت ذاته. عزيز، الذي كان يتقدم المجموعة، أشار بيده للجميع بالهدوء التام. كان السياج شاهقا، تعلوه الأسلاك الشائكة التي تعكس خيوطا فضية في ضوء القمر الخافت. كانت الأرض المحيطة بالسياج مغطاة بأوراق جافة تصدر صوتا خافتا عند السير فوقها، وكأنها تُشيع المتسللين.
جلس حليم بجانب السياج، يُلقي نظرة فاحصة على الوضع. أخذ مصباحا صغيرا، غطى ضوءه بقطعة قماش ليصبح خافتا، وبدأ يفحص الأسلاك الشائكة. لم تكن هناك أي فجوة واضحة، لكن حليم ابتسم تلك الابتسامة المطمئنة، التي اعتاد الجميع رؤيتها عندما تخطر له خطة.
“صلاح، أمسك بالجاكيت القديم وأعطني إياه”، همس حليم.
دون جدال، أعطاه صلاح جاكيتا مهترئا كان يرتديه فوق ملابسه. قام حليم بلف الجاكيت على الجزء العلوي من السياج حيث كانت الأسلاك الشائكة، ثم أخرج من حقيبته قطعة صغيرة من القماش السميك واستخدمها لتغطية أيديهم أثناء التسلق.
“واحد تلو الآخر، لا تُحدثوا صوتا”، همس حليم بصوت واثق لكنه حازم.
كان التسلق بطيئا وحذرا. الرياح التي كانت تعصف من حولهم كادت تُسقط عزيز، لكنه تشبث بالسياج بقوة. حينما نزل الجانب الآخر، جلس على الأرض بضع لحظات، يلتقط أنفاسه. التفت ليجد حليم بجانبه، يراقب الآخرين وهم يعبرون.
لكن فجأة، شُوهد شعاع ضوء بعيد يتحرك باتجاههم. كانت دورية الشرطة الحدودية. أشار عزيز بيديه بسرعة للجميع بأن ينخفضوا إلى الأرض.
اختبأوا خلف شجيرات صغيرة لا تكاد تحجبهم بالكامل. كان الصمت سيد اللحظة، ولم يُسمع سوى صوت الأنفاس المضطربة والقلوب التي تكاد تقفز من الصدور.
مرت الدورية على بعد أمتار فقط منهم. رجلان يرتديان معاطف ثقيلة ويحملان مصابيح قوية، كانا يتحدثان بلغة لم يفهموها. عندما ابتعدوا، تنفس الجميع الصعداء، لكنهم عرفوا أن الخطر لم ينتهِ بعد.
على الجانب اليوناني، لم يكن الوصول إلى الأمان كما تخيلوه. كانت الأرض مغطاة بطبقة سميكة من الوحل، وكل خطوة كانت تغرس أقدامهم أكثر في الأرض. البرد كان قاسيا، وأجسادهم المُنهكة كانت ترتعش.
أين نذهب الآن؟ تساءل صلاح بصوت مليء باليأس.
ثم أجاب حليم بثبات: نحن لن نتوقف هنا. هناك مستودع قديم ذكره أحد المهربين. يجب أن نجد طريقنا إليه قبل طلوع الفجر،
كانت الرحلة عبر الغابة أشبه بكابوس. أصوات الطيور الليلية والرياح التي تصدم أغصان الأشجار كانت تزيد من شعورهم بالرهبة. أحيانا كانوا يسمعون أصواتا بعيدة، وكأنها صرخات مكتومة، لم يعرفوا إن كانت حقيقية أم مجرد أوهام.
عندما وصلوا إلى المستودع المهجور، كان عبارة عن مبنى متهدم بأبواب مكسورة ونوافذ مهشمة. لم يكن ملاذا مريحا، لكنه كان ملاذا.
أشعلوا نارا صغيرة للتدفئة، رغم خوفهم من أن يجذب الدخان الأنظار. جلسوا حول النار، عيونهم مليئة بالإرهاق. فتح حليم حقيبته وأخرج قطع خبز جافة وبعض المكسرات.
تكلم حليم : لن أقول لكم إن القادم أسهل، لكننا قطعنا نصف الطريق. الباقي يعتمد على صبرنا وشجاعتنا.
في تلك اللحظة، شعر عزيز بمزيج غريب من الخوف والأمل. نظر إلى وجوه رفاقه، ورأى في عيونهم التعب والحلم والتمسك بالحياة. كان يعلم أن هذه الرحلة ستغيرهم للأبد.
استمروا في السير لأيام، عبر غابات كثيفة ممتدة في شمال اليونان، غابات مظلمة وموحشة تعجّ بالأشجار العالية. كانوا يتحركون بخطوات متثاقلة، أقدامهم متورمة وملابسهم ممزقة، يحملون على ظهورهم بقايا طعام جمعوها على عجل. حاولوا أن يتجنبوا المدن الكبرى، خوفا من أن يتم القبض عليهم.
في تلك الغابات، كانت اللحظات المرعبة تتكرر، أصوات الحيوانات المفترسة، الرياح التي تهز الأشجار، وحتى بعض الصيادين المحليين الذين كانوا يمرون بالقرب منهم..
بعد عدة أيام من السير، وصلوا إلى قرية صغيرة مهجورة على أطراف الحدود. كانت القرية تبدو وكأنها نُسيت منذ سنوات طويلة، المنازل خالية والجدران مشققة، والشوارع لا أثر فيها للبشر. وجدوا ملاذا مؤقتا في أحد المنازل المهجورة، حيث ناموا على الأرض المغطاة بالغبار، يستخدمون بعض الملابس القديمة التي وجدوها كمفارش.
في هذه القرية المهجورة، استغلوا الهدوء لتقييم خطتهم التالية. كانوا بحاجة إلى الوصول إلى مدينة قريبة ليجدوا طريقا يساعدهم على الاستمرار. ومع ذلك، لم تكن المخاطر قد انتهت.
في إحدى الليالي، وبينما كانوا يحاولون التسلل عبر الطريق المؤدي إلى مدينة “أليكساندروبولي” الساحلية، انكشف أمرهم من قبل دورية شرطة يونانية. اشتعلت الأضواء الزرقاء والحمراء في الظلام، وصوت صافرات الشرطة دوت في الهواء. لم يكن لديهم وقت للتفكير، بدأوا في الركض عبر الغابات في اتجاهات مختلفة، محاولين الهرب من القبض عليهم.
كان الركض في الظلام مرهقا، وكانت الأشجار تعرقل طريقهم في كل خطوة. تعثّر “عزيز” وسقط أرضا، لكنه استمر في الركض رغم الآلام التي انتشرت في جسده. كانوا يشعرون وكأنهم فئران تجري في متاهة بلا مخرج. بعد ساعات طويلة من الهروب، تمكنوا من الابتعاد عن الشرطة، لكن قلوبهم كانت لا تزال تدق بشدة.
وصلوا في النهاية إلى “أليكساندروبولي”، كانت المدينة تنبض بالحياة: الصيادون يخرجون قواربهم في الصباح الباكر، والمقاهي تملأ الشوارع بأصوات الزبائن وضحكاتهم. لكن بالنسبة لهم، كانت المدينة مليئة بالخطر. الشرطة كانت تراقب جميع من لا يحمل أوراقا قانونية.
بعد تجربة مريرة في اليونان، كانت الرحلة تتجه نحو ألبانيا. في ربيع 2024، حيث بدأت حرارة الشمس تزداد يوما بعد يوم، انطلق “عزيز” ورفاقه مجددا، متجهين نحو الشمال عبر الحدود اليونانية-الألبانية. كانت الرياح الجبلية الجافة تضرب وجوههم، والطريق أمامهم مليء بالتضاريس الوعرة والطرق الجبلية.
الطبيعة الجبلية التي تفصل بين اليونان وألبانيا كانت عقبة كبيرة أمامهم. لم يكن عبور الحدود سهلا كما توقعوا، فالجبال التي تفصل بين البلدين كانت مليئة بالأشواك والصخور الوعرة. كان الجو باردا في الليل وحارا في النهار، الأمر الذي جعل الرحلة أكثر قسوة. أقدامهم كانت متعبة وتورمت من السير الطويل، وكانوا يعتمدون على دلائل محلية للابتعاد عن دوريات الحدود.
عندما وضع “عزيز” ورفاقه أقدامهم في قرية “كورجا”، شعروا بأنهم دخلوا عالما مختلفا. الهواء الجبلي البارد كان يحمل نكهة غريبة من الصفاء، لكن القرية نفسها كانت شاهدة على حياة قاسية. المنازل المتداعية والجدران المتشققة كانت تتحدث عن معاناة سكانها، فيما كانت الطرقات الضيقة ملتوية كأنها تحاول إخفاء أسرار المكان.
في منزل مهجور عند أطراف القرية، وجدوا مأوى. سقف المنزل كان مائلا للسقوط، والجدران تغطيها الشقوق التي تسمح للرياح الباردة بالتسلل إلى الداخل. استخدموا بعض الأخشاب القديمة لإشعال نار صغيرة، وكانت تلك النار مصدرهم الوحيد للدفء والإنارة.
“هنا، على الأقل لن نجد كلاب الحراسة أو أصوات الدوريات”، قال حليم وهو ينظر نحو الجبال المحيطة.
في أحد الأيام، وبينما كانوا يتنقلون عبر إحدى القرى الجبلية القريبة، رأوا مجموعة من الصيادين يحملون بنادق قديمة وأقفاص مليئة بالطيور. كان الصيادون يرتدون ملابس سميكة، ووجوههم كانت متجعدة من تأثير الطقس القاسي.
حاول “صلاح” التواصل معهم ببعض الكلمات الإنجليزية، لكنه سرعان ما لجأ إلى الإشارات. بدا أن الصيادين فهموا أنهم مهاجرون يحاولون عبور البلاد، لكن بدلا من الإبلاغ عنهم، أعطوهم رغيفي خبز وبعض الجبن.
“الناس هنا أكثر إنسانية مما توقعت”، تمتم صلاح، وهو يمضغ قطعة من الجبن بشهية.
رغم كرم الصيادين، لم يكن الأمان مضمونا، فكل خطوة كانوا يتخذونها كانت محفوفة بالمخاطر.
في إحدى الليالي، أثناء عبورهم غابة كثيفة، سمعوا أصوات خطوات متسارعة وأضواء كشافات تتحرك بين الأشجار.
“إنها الشرطة!” همس عزيز وهو يشير إلى رفاقه للاختباء.
تسللوا إلى داخل غابة أكثر كثافة، يجلسون بين جذور شجرة عملاقة حابسين أنفاسهم. كان الظلام مخيما، لكن كل حركة صغيرة كانت تُسمع بوضوح. كان صوت أوراق الشجر المتحركة بفعل الرياح يبدو كأنه خيانة، قد تكشف موقعهم.
مرت دقائق كأنها ساعات، إلى أن تلاشت الأصوات والأضواء. حينها، زحفوا ببطء نحو اتجاه آخر، متجنبين الطريق الذي سلكته الدورية.
استقروا لعدة أسابيع في القرى الصغيرة المنتشرة بين الجبال الألبانية. كانت تلك القرى تعيش على هامش الزمن، حيث لا كهرباء منتظمة ولا مياه جارية. السكان المحليون كانوا يعتاشون على الزراعة البسيطة وتربية الماشية.
الحياة بين المهاجرين كانت محفوفة بالتوتر. نقص الطعام والماء كان سببا رئيسيا للشجارات اليومية. في إحدى الليالي، بينما كان “عزيز” نائما على قطعة قماش بالية، شعر بيد خفيفة تفتش حقيبته الصغيرة.
“ماذا تفعل؟!” صرخ عزيز وهو ينهض بسرعة.
لكنه وجد الحقيبة قد اختفت بين الزحام. لم تكن الحقيبة تحتوي على الكثير، لكنها كانت تحمل ذكريات مهمة: صورة عائلية صغيرة وبعض الأوراق التي يحتفظ بها منذ بداية الرحلة.
“حتى بيننا، لا يوجد أمان”، قال صلاح بغضب.
بعد تلك الحادثة، بدأ عزيز يشعر بأن هذه الرحلة ليست فقط اختبارا للجسد، بل اختبارا للعقل والروح. كان كل يوم يمر يشبه معركة جديدة، حيث عليهم مواجهة الخوف، الجوع، والخيانة.
“ربما هذه الحياة لا تترك لنا خيارا سوى أن نصبح وحوشا لنبقى أحياء”، قال حليم وهو ينظر إلى النجوم في ليلة باردة.
لكن “عزيز” رد عليه بصوت مليء بالإصرار:
“لا، نحن من نختار كيف نعيش. حتى في أسوأ الظروف، يجب أن نحافظ على ما يجعلنا بشرا.”
في إحدى القرى، تعرفوا على مجموعة من المهاجرين الآخرين. بدت ملامحهم متعبة، وعيونهم تحمل قصصا من المعاناة والضياع. بينهم رجل سوري كان يروي قصصا عن تهريب المهاجرين عبر الحدود الشمالية، لكنه كان دائما يحذرهم من الخيانة والغدر.
بعد أسابيع من التنقل عبر ألبانيا، وصل “عزيز” ورفاقه إلى مشارف الجبل الأسود في أواخر الربيع، في شهر ماي 2024. كان المشهد الأول للجبل الأسود يبدو كلوحة طبيعية مذهلة، الجبال الشاهقة تكسوها الغابات الكثيفة، والأنهار الجارية تعكس زرقة السماء الصافية.
لكن هذه الطبيعة الخلابة لم تكن إلا ستارا يخفي وراءه صعوبات لا تُحصى.
بدأت المجموعة رحلتها عبر سلسلة من المرتفعات. كان السير على المسارات الوعرة يتطلب قوة جسدية وعزيمة حديدية. الصخور الحادة كانت تقطع الأحذية البالية، فيما كانت الحصى تنزلق تحت أقدامهم مع كل خطوة.
“صلاح”، وهو ينظر إلى المنحدرات العميقة تحتهم، قال بسخرية:
“إذا لم تُمسك بنا الشرطة، فربما تسقطنا هذه الجبال.”
الطعام كان شحيحا، والماء كان يُجمع من الينابيع الجبلية الصغيرة. في إحدى الليالي، بينما كانوا يخيمون بين الأشجار، سمعوا عواء الذئاب من بعيد. كان الصوت يرتفع مع الرياح الباردة، مما أثار الرعب في قلوبهم.
قال “عزيز” وهو يشد غطاءه البالي:
“هذا المكان يبدو وكأنه يريد أن يلتهمنا.”
الحدود بين ألبانيا والجبل الأسود لم تكن مجرد خط مرسوم، بل كانت تحديا مميتا. الدروب الجبلية كانت ضيقة ومليئة بالأشواك، والدوريات كانت تحرس المنطقة بشكل متقطع. في إحدى الليالي، اضطروا إلى عبور وادٍ عميق باستخدام جسر خشبي قديم ومتهالك.
قال “حليم” وهو ينظر إلى الجسر:
“إذا انهار هذا الجسر، سنصبح قصة أخرى ترويها الجبال.”
عبروا الجسر واحدا تلو الآخر، كل خطوة كانت مغامرة بحد ذاتها. عند وصولهم إلى الجانب الآخر، جلسوا لالتقاط أنفاسهم، لكن التعب والخوف كانا يثقلان عليهم.
أول محطة لهم في الجبل الأسود كانت قرية “روجا”، وهي قرية صغيرة على الحدود الألبانية. عند وصولهم، كانت القرية شبه مهجورة، مجرد بضع منازل حجرية وشوارع ضيقة. كانت المنازل قديمة وبنيت بطريقة تعكس الطابع البلقاني التقليدي. الهواء كان نقيا، ولكن البرد كان يخترق عظامهم في تلك المرتفعات. السماء كانت ملبدة بالغيوم في أغلب الأيام، وكأنها تعكس حالتهم النفسية المثقلة بالهموم.
بدأت رحلتهم سيرا على الأقدام عبر الجبال الممتدة التي تفصل بين القرى الصغيرة في الجبل الأسود. كانت الصخور الضخمة والشلالات الصغيرة تملأ المشهد، وكان التنقل بين الطرق الوعرة يحتاج إلى قوة وصبر.
في إحدى المرات، وأثناء تسلقهم أحد التلال شديدة الانحدار، فقد “صلاح” توازنه وكاد أن يسقط في وادٍ عميق لولا أن “حليم” تمكن من الإمساك به في اللحظة الأخيرة. تلك اللحظات أكدت لهم أن الرحلة لم تكن مجرد اختبار لقدرتهم على التحمل الجسدي، بل اختبار لقوة الإرادة والصداقة.
أثناء عبورهم إحدى الغابات الكثيفة في الجبل الأسود، كان اليوم يبدو قاتما، والغيوم بدأت تتلبد في السماء، معلنة عن عاصفة قادمة. كان “عزيز” ورفاقه يشعرون بالإرهاق الشديد، وأصوات الرياح كانت تعصف حولهم، مما زاد من توترهم.
بينما كانوا يبحثون عن مأوى يحتمون به من المطر، اكتشفوا كوخا خشبيا قديما يقع على حافة الغابة. بدا الكوخ مهجورا منذ سنوات، لكنهم لم يكن لديهم خيار سوى الاحتماء فيه. كانت الأمطار تنهمر بغزارة، والبرق يضيء السماء بين الحين والآخر، مشكلا مشهدا مخيفا.
بعد عبورهم سلسلة جبال مرتفعة، وصلوا إلى قرية صغيرة تُدعى “نيكشيتش”. كان السكان المحليون في هذه القرية مختلفين عما واجهوه في ألبانيا. القرويون كانوا يعاملونهم بفضول ممزوج بشيء من الحذر. رغم ذلك، تمكن “حليم”، الذي كان يتقن بعض العبارات بالإنجليزية، من التحدث إلى أحد الفلاحين المحليين.
أخبرهم الفلاح عن الطرق الجبلية الآمنة التي يمكنهم سلكها، وحذرهم من الدوريات الحدودية التي كانت تراقب المنطقة بعناية. في تلك القرية، عملوا لبضعة أيام في حقول الذرة والفواكه، حيث كانوا يحصلون على القليل من الطعام والماء مقابل جهدهم الشاق.
في إحدى الليالي، بينما كانوا يعبرون منطقة وعرة مليئة بالأحراش الجبلية، سمعوا أصوات سيارات قادمة من بعيد. كانوا على مقربة من مدينة “بودغوريتسا”، عاصمة الجبل الأسود، وكانت الدوريات الحدودية نشطة في تلك المنطقة. كان الهروب أمرا حتميا، فاختبأوا في كهوف صغيرة موجودة بين الصخور الضخمة.
بينما كانوا في مخبأهم، اقتربت أصوات الشرطة أكثر. الأضواء كانت تلمع بين الأشجار، وكأنها تبحث عن أي حركة مشبوهة. ظلوا بلا حراك، قلوبهم تخفق بشدة، يتبادلون النظرات في صمت مطبق. كان الرعب يملأ أعينهم. وبعد دقائق بدت وكأنها ساعات، مرت الدوريات دون أن تلاحظ وجودهم.
في الجبل الأسود، بدأت قوتهم تتلاشى تدريجيا. كانوا يعتمدون على الطعام الذي يعثرون عليه في القرى النائية أو من خلال بعض المساعدات التي يتلقونها من الفلاحين المحليين. لكن الطعام كان دائما شحيحا، والجوع بدأ ينهش فيهم ببطء.
في إحدى الليالي، وبينما كانوا يبحثون عن مكان للنوم، وجدوا كهفا صغيرا بين الجبال. رغم البرودة، قرروا الاحتماء فيه. جلسوا حول النار، يتقاسمون قطعا صغيرة من الخبز اليابس. كانت الوجوه شاحبة، والعيون مليئة بالتعب واليأس. بدأ “عزيز” يفكر في مدى صعوبة الرحلة، وكيف أن الحلم بالوصول إلى أوروبا بدأ يتلاشى شيئا فشيئا.
بعد أسابيع من الكفاح في الجبل الأسود، قرروا أن الوقت قد حان للمغادرة. الطريق نحو البوسنة والهرسك كان محفوفا بالمخاطر، لكنهم لم يعودوا يحتملون البقاء في هذا الوضع. كان قرارهم بالمغادرة مليئا بالخوف والشك، لكنهم كانوا يعلمون أن البقاء يعني الهلاك.
في صباح يوم بارد، جمعوا ما تبقى لديهم من متاع وانطلقوا نحو الحدود مع البوسنة. كان الشعور باليأس يثقل خطواتهم، لكنهم كانوا مصممين على متابعة رحلتهم مهما كلف الأمر. كل خطوة نحو البوسنة كانت تبدو كأنها خطوة نحو المجهول، لكنهم لم يكن لديهم خيار آخر.
بدأت مغامرتهم في البوسنة في منتصف صيف عام 2024. كانت البوسنة محطة صعبة، لا تشبه أية محطة سابقة في رحلتهم، فالتضاريس كانت موحشة، والظروف المناخية قاسية مع حرارة الصيف الشديدة نهارا، والبرد القارص ليلا. الحدود بين الجبل الأسود والبوسنة كانت هادئة نسبيا، لكنهم كانوا يعلمون أن ما ينتظرهم في الداخل هو عالم آخر من التحديات.
عندما وصلوا إلى البوسنة، كان من الصعب العثور على مأوى مناسب. في البداية، ناموا في العراء تحت الأشجار الكثيفة، لكن بعد بضعة أيام، وصلوا إلى أحد المخيمات المخصصة للمهاجرين. كان المخيم مكتظا بالمهاجرين من مختلف الجنسيات، من بينهم أفغان، سوريون، مغاربة، باكستانيون، وغيرهم.
المخيم الذي أقاموا فيه كان يقع بالقرب من مدينة بيهاتش، وهو أحد المخيمات الشهيرة التي كانت تستقبل آلاف المهاجرين العالقين. عند دخولهم إلى المخيم، استقبلتهم روائح كريهة، فقد كان المخيم مزدحما بالناس، ومعظمهم يعانون من نقص في الطعام والماء والرعاية الطبية. كان المشهد صادما. الأطفال يلعبون في الوحل، والنساء يجلسن بوجوه شاحبة بجانب الخيام، في انتظار توزيع الطعام.
في هذا المخيم، عاش “عزيز” ورفاقه لعدة أسابيع. كان الطعام الذي يتلقونه قليلا جدا، وكان عليهم الوقوف في طوابير طويلة للحصول على قطعة خبز أو وجبة صغيرة. لم تكن هناك خدمات صحية تذكر، وكان الجميع عرضة للأمراض، خصوصا في ظل الظروف الصعبة التي عاشوها. لم يكن هناك مكان للراحة النفسية أو الجسدية، بل كان كل شيء يدور حول البقاء على قيد الحياة ليوم آخر.
في المخيم، كانت هناك شجارات يومية بين المهاجرين بسبب نقص الطعام والماء. كان الجوع واليأس يدفع الناس إلى التصرف بشكل عدواني، حيث كانت تُسرق الحاجيات الشخصية باستمرار، والمهاجرون يتصارعون على كل ما يمكنهم الحصول عليه. في إحدى الليالي، شاهد “عزيز” شجارا كبيرا بين مجموعتين من المهاجرين حول توزيع الطعام. كانت المشاجرة عنيفة، واستُخدمت فيها العصي والحجارة. تلك اللحظات جعلت “عزيز” يدرك أن الرحلة لم تكن فقط عن الهروب من الجوع والفقر، بل أيضا عن البقاء في عالم قاسٍ لا يرحم.
لم يكن قرار مغادرة المخيم سهلا، لكنه كان حتميا. أدرك “عزيز” ورفاقه أن البقاء يعني الاستسلام لحياة بلا كرامة ولا أمل. عندما أخبرهم المهاجر المغربي عن الطريق عبر النهر، ترددوا للحظات، لكن سرعان ما طغى إيمانهم بأن المخاطرة كانت السبيل الوحيد للمضي قدما.
قضوا الأيام القليلة التالية يجمعون ما يمكنهم استخدامه لصنع طوافات بدائية. كانت الإطارات المهملة متناثرة حول المخيم، ومع بعض الحبال وقطع الخشب المهترئة، صنعوا طوافات بالكاد تحمل وزنهم. كل منهم كان يعرف أن تلك الطوافات قد تكون مصيدة موت، لكنهم لم يكن لديهم خيار آخر.
جاءت الليلة الموعودة، ليلة حالكة السواد، لا يُرى فيها شيء سوى وميض النجوم الباهت. كانت الرياح باردة رغم أننا في أوائل الصيف. وقفوا عند ضفة النهر، ينظرون إلى المياه الداكنة التي كانت تصدر صوتا مرعبا مع كل موجة.
قال حليم بحزم “إذا لم نجرّب الآن، فلن نغادر أبدا”
تسللوا إلى الطوافات بصمت، يدفعونها ببطء إلى المياه المتلاطمة. كان “عزيز” جالسا مع “حليم” و”صلاح” على طوافة بالكاد تستقر فوق الأمواج. بدأوا بالتجديف باستخدام عصي خشبية، يحاولون مواجهة التيار القوي الذي كاد يقلب الطوافة في كل لحظة.
الصمت كان ثقيلا، يكسره فقط صوت المياه الجارية وصدى تنفسهم المرتجف. لكن فجأة، أطلق صلاح صرخة:
“أمسكوا بي!”
فقد توازنه وسقط في المياه الباردة. ارتفع صوت الموج بينما كان صلاح يضرب المياه بذراعيه في محاولة يائسة للتشبث بالطوافة. أمسك “عزيز” بعصا طويلة، مدّها نحو صلاح الذي كاد التيار يجرفه بعيدا.
“لا تتركها! أمسك جيدا!” صرخ حليم.
بعد دقائق بدت كدهر، تمكنوا من سحب صلاح إلى الطوافة. كان جسده يرتجف بشكل لا يمكن السيطرة عليه، ووجهه شاحبا كأنه رأى الموت بعينيه.
“لن أتخلى عنكم مرة أخرى”، تمتم صلاح بصوت متقطع، محاولا السيطرة على أنفاسه المتسارعة.
عندما وصلوا إلى ضفة النهر المقابلة، انحنى الجميع على الأرض، يلتقطون أنفاسهم. كانت أجسادهم مبتلة وباردة، لكنهم شعروا بإنجاز صغير وسط الظلام الكبير. لم يكن الوقت للراحة، فالحدود الكرواتية كانت قريبة، والشرطة كانت معروفة بقسوتها مع المهاجرين.
اختبأوا بين الأحراش الكثيفة، يحاولون دراسة المكان قبل أن يتسللوا. كانت المنطقة مليئة بالحواجز والأسلاك الشائكة. دوريات الشرطة لم تكن تتوقف، والكلاب البوليسية تضاعف من إحساسهم بالخطر.
“علينا أن ننتظر حتى تصبح المنطقة هادئة”، قال حليم وهو ينظر نحو الأفق المظلم.
لكن الهدوء لم يدم طويلا. فجأة، سمعوا نباح الكلاب يقترب وصيحات الشرطة. كانوا قد اكتُشفوا.
ركضوا بين الأشجار محاولين الهرب، لكن الأضواء الكاشفة كانت تلاحقهم. سقط “عزيز” على الأرض بعد أن تعثر بجذع شجرة، وفي لحظات كان الحراس الكرواتيون يقفون فوقه.
“قف! لا تتحرك!” صرخ أحدهم بلغة لم يفهمها، لكن لغة السلاح المصوّب نحوه كانت واضحة.
اقتيدوا جميعا إلى شاحنة صغيرة. جلسوا في الداخل، مقيدين بالأصفاد، بينما قلوبهم مثقلة بالخوف. كان وجه “صلاح” مليئا بالكدمات بعد أن تعرض للضرب أثناء القبض عليه، وعيناه تحملان نظرة فارغة كأنها فقدت كل أمل.
وصلوا إلى مركز احتجاز مؤقت، وهو مبنى بارد ذو جدران معدنية رطبة. أُلقي بهم في غرفة مزدحمة بالمهاجرين الآخرين. بعضهم كانوا مراهقين، والبعض الآخر رجالا في الأربعينات من العمر، لكن القاسم المشترك بينهم كان العيون التي فقدت البريق.
جلس “عزيز” في زاوية الغرفة، ينظر إلى حليم وصلاح الذين بالكاد يستطيعان الجلوس من الإرهاق.
“لماذا يبدو الطريق دائما مظلما؟” تساءل صلاح بصوت خافت.
“لأنه الظلام الذي يسبق النور،” أجابه حليم، محاولا زرع الأمل رغم انكساره الداخلي.
في الصباح نُقل عبد العزيز للاستجواب ولم يكن له أي خيار سوى الانتظار بينما يتعرض للضرب المبرح، تم استجوابه وادعى كذبا أنه سوري لعلهم يعفون عنه، لكن كذبه لم ينطلِ عليهم. صفعات الشرطة الكرواتية على وجهه كانت كفيلة بأن تُفقده السمع مؤقتا، بينما الصراخ في وجهه بأكثر من لغة تركه بلا حول ولا قوة.
داخل جدران السجن في كرواتيا، لم تعد الأيام تختلف عن الليالي. كان الظلام هو السائد، سواء في سماء المكان أو في قلوب أولئك المحتجزين. الجدران الرمادية العالية، التي تكسوها الرطوبة، كانت شاهدة على صرخات تعذيب وصدى أوجاع مكتومة. الهواء داخل الزنازين كان ثقيلا، ممتلئا برائحة العفن والعرق والخوف.
في كل صباح، يأتي الحراس، وجوههم باردة كالصخر، يحملون العصي التي اعتادت تكسير الأجساد كما لو كانت هواية. كانوا يسحبون المحتجزين عشوائيا إلى غرف صغيرة أطلقوا عليها “غرف الاستجواب”، لكنها في الحقيقة كانت غرفا للتعذيب. الأصوات القادمة من تلك الغرف كانت تجعل الآخرين يرتجفون في زنازينهم، منتظرين دورهم، بينما يرددون أدعية أو أحلاما بالهرب.
كان “عزيز” يقبع في زاوية مظلمة من زنزانة صغيرة مع رفاقه. كان الجوع يقرص معدته، لكن البرد كان عدوهم الأكبر.
لم يكن التعذيب جسديا فقط، كان النفسي أشد قسوة. كانوا يُجبرون على الوقوف لساعات طويلة في طابور لتناول وجبة بائسة: قطعة خبز يابسة وكأس ماء فاتر. أحيانا، لم يصلهم شيء لأن الكمية نفدت قبل دورهم، وكان عليهم مواجهة الجوع حتى اليوم التالي.
كان السجن مليئا بالوجوه اليائسة. بعض المحتجزين جلسوا في زوايا زنازينهم، يحدقون في الفراغ وكأنهم يبحثون عن مخرج خفي. البعض الآخر كانوا يهمسون بقصصهم، محاولين الحفاظ على إنسانيتهم وسط هذا الجحيم.
بعد أسابيع من العذاب، جاء القرار المفاجئ: الإفراج. لكن الخلاص لم يكن كما توقعوا. أُرسلوا إلى مخيم مكتظ بالمهاجرين، أشبه بسجن مفتوح. كانت الأرض موحلة والخيام مهترئة. لم يكن هناك مياه نظيفة، والطوابير للحصول على الطعام كانت أطول من الطوابير في السجن.
في المخيم، لم يكن الأمان موجودا. الشجارات بين المهاجرين كانت تحدث يوميا، حيث يتقاتل البعض على قطعة خبز أو بطانية. ووسط هذا الفوضى، سرق أحدهم حقيبة صلاح التي كانت تحتوي على ما تبقى لهم من مال.
في إحدى الليالي، بينما كان عزيز جالسا قرب نار صغيرة أشعلها مع حليم، اقترب منهم رجل مغربي في منتصف الثلاثينات. جلس بجانبهم بصمت، قبل أن يبدأ الحديث عن رحلته المأساوية.
“تعرفون؟ كنت أظن أن المهربين أملنا الوحيد، لكنهم مجرد ذئاب بشرية. دفعت كل ما أملك لأحدهم، لكن في منتصف الطريق، هددنا بالسلاح وأخذ أموالنا. تركنا في غابة نواجه الموت وحدنا. بعضنا لم ينجُ”.
كانت كلماته كالمطرقة التي تهوي على رؤوسهم، تُذكرهم بأن المعاناة لم تنتهِ، بل ربما هي في بدايتها.
كان المخيم مكانا يقتل الأمل في النفوس. المهاجرون هناك كانوا خليطا من الجنسيات والأعمار، لكن القاسم المشترك بينهم كان الحزن واليأس. حاول “عزيز” أن يتمسك بأي فكرة للهروب، لكن الخوف من الفشل كان يعيق كل خطة.
جلس ذات ليلة يتأمل السماء الملبدة بالغيوم، يتذكر كلمات والدته:
“حين تضيق عليك الأرض يا بني، تذكر أن النجاة تبدأ من الداخل.”
بعد عدة محاولات فاشلة، تمكنوا من الفرار من المخيم، وبدأوا رحلتهم باتجاه سلوفينيا. عبروا الجبال الشاهقة مرة أخرى، متجنبين الدوريات التي كانت تلاحقهم كالأشباح. وصلوا إلى سلوفينيا، وقد أنهكتهم الرحلة إلى حد جعلهم غير قادرين على الاحتفال بما حققوه.
بعد أيام فقط وصلوا إلى إيطاليا التي كانت تمثل الحلم الذي لطالما انتظره “عزيز” ورفاقه، لكنها في الوقت نفسه كانت بداية النهاية بالنسبة لصداقتهم ومسيرتهم المشتركة. وصلوا إليها في أوائل الخريف. إيطاليا بالنسبة لهم لم تكن فقط محطة جديدة، بل كانت بوابة إلى الغرب الأوروبي، بوابة إلى حياة طالما حلموا بها.
إيطاليا كانت النقطة التي تباينت فيها الأحلام والطموحات بين الرفاق. صلاح، الذي كان يعيش على حلم النساء الأوروبيات والحياة الراقية، وجد ما كان يبحث عنه هنا. في أحد المقاهي الصغيرة في بلدة إيطالية، تعرف صلاح على امرأة إيطالية جذابة كانت تجلس مع صديقاتها. بعد عدة لقاءات، بدأت العلاقة تتوطد بينهما، ووعدته بمساعدته على البقاء في إيطاليا بطريقة قانونية. بالنسبة لصلاح، كانت تلك فرصته الذهبية.
في لحظة غير متوقعة، قرر صلاح الانفصال عن رفاقه. جمع أمتعته القليلة وواجه “عزيز” و”حليم” في إحدى الليالي. قال لهم: “هذه فرصتي، سأبقى هنا. سأبدأ حياة جديدة، يجب أن تفهموا.” حاول “عزيز” إقناعه بأنهم جاؤوا معا ويجب أن يستمروا معا، لكن صلاح كان قد اتخذ قراره. بالنسبة له، الحلم قد تحقق. غادر صلاح البلدة دون أن ينظر إلى الوراء، تاركا وراءه رفاق الدرب الذين قاسمهم الجوع والخوف.
بعد رحيل صلاح، تركت الخيبة أثرا عميقا في نفس عزيز. لكنه لم يكن يعرف أن الخذلان لم ينتهِ بعد. إذ لم يكن حليم بعيدا عن قرار الفراق أيضا. بعد أيام من وصولهم إلى فرنسا، قرر حليم أن يذهب إلى أحضان عائلته في مارسيليا وترك “عزيز” وحيدا في تلك الرحلة التي كانت تمثل كل شيء بالنسبة له.
بعد أيام قليلة اكتشف “عزيز” أن المدينة ليست كما كان يتخيل. ذهب إلى ضواحي باريس، حيث يعيش معظم المهاجرين، هناك وجد عالما آخر. كانت تلك الضواحي عبارة عن تجمعات عشوائية، مليئة بالبيوت الضيقة والمكتظة، التي يسكنها مهاجرون من كل أنحاء العالم. كانت البطالة والفقر هما السائدان في تلك المناطق، وكانت الشجارات اليومية مشهدا مألوفا.
“عزيز” وجد نفسه يعيش في ملجأ مؤقت مع مجموعة من المهاجرين من إفريقيا آسيا والمغرب العربي. المكان كان مكتظا، ولم يكن هناك خصوصية أو أمان. كل يوم كان يضطر للوقوف في طوابير طويلة للحصول على وجبة طعام بسيطة، وفي الليل كان ينام على فراش رقيق على الأرض الباردة.
بدأ “عزيز” يبحث عن عمل، لكنه كان يصطدم بحقيقة مرة: فرنسا ليست كما كان يظنها. كل مرة كان يدخل فيها إلى مكتب توظيف أو يحاول البحث عن عمل في الشوارع، كانت الإجابة نفسها تتكرر: “لا عمل للمهاجرين غير الشرعيين”. كانت فرنسا تُظهر وجهها القاسي للمهاجرين الذين كانوا يحلمون بالاستقرار.
حاول “عزيز” العمل في السوق السوداء، كما فعل في تركيا وإيطاليا، لكنه لم يجد الفرص بسهولة. الأبواب كانت تُغلق أمامه في كل مرة، ومع مرور الأيام، بدأ يشعر باليأس يسيطر عليه. كان يسير في شوارع مارسيليا، يشاهد السياح والسكان المحليين يعيشون حياتهم الطبيعية، بينما هو يتنقل بين محطات القطار والملاجئ بحثا عن مكان للنوم.