ط
مسابقة القصة

ملخص رواية : تحت شمس صقلية  .مسابقة الرواية بقلم/ فُؤاد سَلاّمي .. الجزائر

تحت شمس صقلية

د.فُؤاد سَلاّمي

https://www.facebook.com/sellami7fouad?mibextid=ZbWKwL
الواتس: 213675397782

إلى الذين إحترقوا بنيران الحنين

إلى كل منسي بديار الغربة

إن اليوم هو يوم خميس، وقد بلغ ديدن من عمره سبعة وعشرون عاما، إنه يعلم أنه عيد ميلاده، و لكنه لا يبالي!.

 فلم يتعود يوما الإحتفال به و لماذا يحتفل بميلاده ؟!

 إنه يوم كسائر أيامه، وعام آخر يمضي و ينقص من عمره، وهذا اليوم سيتلاشى أيضا و يمضي كسائر أيامه الماضية. لا شيء جديد سيتغير من روتينيه اليومي

 لكن ديدن لم ينسى عاداته في كل يوم خميس، فقد إعتاد التسكع مع أصدقائه ولعب كرة القدم، وهذان  شيئان هما المهمان في حياته والوحيدان اللذان يملئان فراغه، ويخففان قليلا من إحساسه باليأس والقنوط من الميزيرية.

..الميزيرية  كلمة متداولة عند أغلب الشباب الجزائري، تتردد على ألسنتهم للتعبير على حالة البؤس و الفقر التي يمر بها، ففترة التسعينات كانت فترة شاقة على المجتمع الجزائري بسبب الظروف السياسية والاجتماعية التي كانت تمر بها البلاد و انعدام الشبه كلي لفرص العمل، نستثني بعض المحظوظين !.

  ممن ملكوا واسطة، أو توفر لديهم بعض المال لدفع رشاوي مقابل الحصول على عمل أو توفرت فيه بعض الشروط  البنيويةالخاصة ملائمة للشغل، أما الباقي الآخر من الشباب إما أنهم نجحوا في الهجرة و إما غرر بهم  فانظموا إلى الجماعات المسلحة في الجبال، ربما نظرا لشعورهم بالظلم الإجتماعي أو تشبعهم بالفكرالتكفيري وأصبحت لهم قناعات دينية، فسهل استدراجهم إلى الأعمال المسلحة ضد وطنه الأم .

و لم يكن ديدن ليخرج عن المألوف  فهو شاب عاطل كمعظم أقرانه في البلاد، لكن قبل شهرين وجد عمل  في مصنع للمشروبات الغازية، و من المعروف على ديدن عدم الاستقرار في أي عمل أو وظيفة اذا تسنى له أن يجدها، لأنه أحيانا يشعر بالملل في أداء عمله و أحيانا أخرى لا ترضيه أجرته، التي يراها زهيدة بالمقارنة مع حجم العمل الموكل إليه، فإحساسه أنه يؤدي في عمل لا يتماشى مع ثمن  الأجرة يجعله يتخلى عنه بكل سهولة.

  لكن في هذا المصنع استطاع أن يبقى بضعة شهور، ربما تشبثه بحلمه جعله لا يفقد الامل في إيجاد حياة افضل، فعلى الأقل استطاعت تلك الوظيفة أن تؤمن له بعض النقود  لشراء السجائر و أغراض بسيطة أخرى التي يحتاجها في حياته اليومية.

 كان لديدن أحلام  كثيرة، لكن حلمه الكبير كان السفر خارج البلاد والإستقرار هناك في إحدى المدن الأوروبية،  بحثا عن حياة  أفضل، أو حبا  للمغامرات أو كلاهما معا …

 فمنذ أن نشأ  في بلدية المنصورة  في مدينة تلمسان وهي إحدى المدن الواقعة بالغرب الجزائري، اعتاد فيها مشاهدة التلفاز و سماع الراديو خاصة البرامج الكروية و البرامج التي تتحدث عن السفر و الهجرة،  وكانت وجهة أحلامه المفضلة دائما هي ايطاليا، لأنه تربى على حب كرة القدم ومشاهدة مباريات الفريق الإيطالي في الثمانينات والتسعينات وكان فريق نابولي هو فريقه المفضل،  لقد كان مولعا بكرة القدم كثيرا، لدرجة أنه كان يخصص نصيبا من أجرته المتواضعة  لشراء بعض المستلزمات الرياضية الخاصة بكرة القدم، و كان لا يفوت مباراة واحدة للفريق الإيطالي أو لفريقه المفضل نابولي سواءا على التلفاز، أو إستماعا لأخباره و نتائج  هذا الفريق على المذياع.

لقد زاد حبه كثيرا  لهذا الفريق، خصوصا بعد انضمام اللاعب الأرجنتيني مارادونا  له، الذي كان يعتبر نجما عالميا كبيرا في ذلك الوقت و كان كثيرا ما يتردد على المقاهي إذا تعذر عليه مشاهدة مباراة ما   على التلفاز، فأغلب المقاهي كانت توفر لزبائنها فرصة مشاهدة المباريات مجانا وكان كثيرا من الأحيان ما يتعارك مع مناصرين اخرين لفرق أخرى عندما يشجعون فريقهم ضد فريقه بحماسة زائدة أو يكون ذلك الفريق الخصم متفوق أو فائز بالمباراة ..

 و وصلت حدة المشاحنة في إحدى الأيام مع بعض المناصرين الى ضرب أحدهم، وتكسير زجاجة من المشروبات الغازية على رأسه .. مما اضطر بعض الحضور  نقله إلى المستشفى  لتلقي العلاج.

كل سكان الحي كانوا يعرفون طبع ديدن و مزاجه فكانوا يتجنبون إغضابه و مشاحنته إلا البعض القليل  من كان لا يعرفه مثل صاحبنا المناصر الذي كاد يفقد روحه.

بغض النظر عن مشاهدة المباريات لم تكون لديدن هوايات أخرى سوى التسكع و مجالسة صديقيه، واحد كان يلقب بيريز و قد اشتهر بهذا الإسم  لكثرة الكلام عن بيريز رئيس ريال مدريد الفريق الاسباني لكرة القدم المعروف والآخر كان يلقب في الاوساط الشعبية بجمال العاقل و كانا مقربين منه جدا، حتى أنهما كانا لا يقومان بشيء مهم في نظرهما إلا اذا كان حاضرا، أو على علم بذلك الأمر.

لقد كان جل عملهما اتخاذ وكر بعيد في أعالي هضبة والمكوث هناك وناذرا ما كانا ينزلان الى المدينة، لأنهما  كانا في نظر الناس منحريفين و كان الواجب الإبتعاد عنهما، فإذا أرادا السكر مثلا  يشاوران ديدن  في الموعد و المكان وحتى نوع الشراب، كلاهما كانا عاطلين عن العمل و كلاهما أتوا من ولاية أخرى بعيدة، و سكانا الحي مع أهاليهما .

 لقد ترعرعا مع ديدن منذ طفولتهما، مما يتذكره ديدن عن هذان الصديقان، هو محاولة خداعه في نهاية الأمر !.

ففي يوم من الأيام …بدرت فكرة شيطانية في رأس بيريز و هي القيام بسرقة دون علم ديدن وتكون هذه السرقة بينه و بين جمال العاقل فقط ، فقال مخاطبا جمال : قل لي يا صديقي، هل تحتاج إلى المال ؟ بدى هذا السؤال غريب  لجمال فرد عليه : طبعا!

فأنت تعلم أننا عاطلين، ولا نملك أحيانا كثيرة حتى ثمن السجائر .

تبسم بيريز إبتسامة ماكرة و قال : لا تقلق  يا صديقي سنقوم بعملية سرقة بسيطة أنت و انا فقط… لن يعلم بها أحد غيرنا .

  سنعترض طريق بشرى العاملة في مصنع الأحذية، وكما تعلم أن كل خميس هو موعد لدفع أجور العمال و هو بعد غد و سنحصل على أجرتها الشهرية، و كما تعلم أيضا هي بنت يتيمة ولا حول لها ولا قوة، تعيل أمها و إخوتها و لن يكون هناك مشكلة في قطع الطريق عليها وسرقتها ولن يكون بعد السرقة عواقب .

 إحمر وجه جمال وصرخ في وجه بيريز قائلا: أجننت ؟، ألا تعلم أنها جارة ديدن و زميلته في العمل، و أنت تعلم أن لديدن حس الشرف و لن يقبل أن يتعدى أحد على إمرأة، فما بالك أن تتعدى على جارته .وسيغضب غضبا شديدا، خصوصا إذا علم أنها إحدى جيرانه، و أننا نحن من فعلنا ذلك، قال بيريز متعاليا : ليذهب الكل للجحيم، فقد مللت من هذا الهراء، و صاحبنا أيظننا عبيد عنده ؟

الم يحن الوقت، للقيام بشيء خاص بنا بدون استشارته اوإحاطته بعلم؟  قل لي بسرعة ! هل انت معي أم ضدي ، أم تفضل أن تضل طول حياتك جبان؟

 رد عليه جمال : جبان ! أنا جبان..!؟

 ما هذا الهراء ؟..اسمع يا هذا ، لن تجرني الى هذيانك ..افعل ما شئت، ولك وعد مني ألا أخبر أحدا، لكن تذكرفقط أني حذرتك .

في صباح يوم الخميس بدأ بيريز يتربص بضحيته و بدأ في مراقبها وهي متجهة الى العمل، أمضى كل وقته ينتظر خروجها و عندما حل المساء و حان وقت خروجها من العمل، تريث قليلا لحين خروج  كل العمال  من المصنع و إفتراقهم  .

 اتجه اليها،  و بدأ يتودد و يقول : مرحبا يا أنيسة بشرى، أنا جارك سعيد هل تتذكرني ؟ و قبل أن تنطق بكلمة واحدة قال لها : لدي لك خبر محزن ..وهو يتظاهر بالحزن والآسى، فردت عليه بشرى مفجوعة  وهي  تقول: ماذا حدث ، ما الخبر؟، هل حصل شيء ؟ ..ترنح بيريز قليلا ثم قال : أخوك ابراهيم  سقط و انكسرت رجله و هو عائد من المدرسة  وقد نقل إلى المستشفى و هو الآن موجود عندنا في بيتنا ، تعالي معي بسرعة أدلك على طريق بيتنا ، فأمي في إنتظارك ، لم تفكر بشرى كثيرا و قالت له : حسنا ..حسنا ، هيا بنا..أسرع وكان كلما سألته عن مسافة البيت فتقول له : هل بيتكم مازال بعيد، فيرد عليها : قربنا أن نصل و هو يتخذ طريق الأحراش نحو الغابة و عندما تأكد من خلو الطريق و أنه في مكان معزول، توقف فجأة وأخرج سكينا و قال : اسمعي لا أريد ان أطيل في الكلام .

اخرجي بسرعة المال الذي بحوزتك ، وإلا بقرتك على الفور، تصلبت و تجمدت بشرى في مكانها وهي مذهولة لا تدري ما العمل و لا تقوى حتى على الكلام من شدة الرهبة و الخوف، ورغم ذلك استطاعت أن تعطيه محفظتها و هي ترتعش ..فتحها بيريز و أخذ المال و ألقى المحفظة في الأرض و قال : اسمعي لو أخبرت  أحدا بما فعلت فسأذبحك و سأؤذي كل عائلتك..اياك ثم اياك ..و لطمك بيده و أوقعها أرضا و الدم يسيل من شفتيها.

 تحاملت بشرى على نفسها و وقفت على رجليها و بدأت بنفض الغبار عن ملابسها، و الدمع  يسيل من عينيها ، وهي تمسح بعض قطرات الدم من شفتيها، وعادت أدراجها تتمايل مرعوبة، والصدمة بادية على وجهها.

 حاولت دخول البيت دون أن يشعر بها أحد،  ولكن إبراهيم كان في إنتظارها فقد تعود كل نهاية الأسبوع أن تحضر له أخته بعض الحلوى أو لعبة بسيطة من أجرتها، وجدته ينتظر في باحة المنزل، وهو متحمس :

ــــ أختي ــــــ أختي ! ماذا أحضرتي لي ؟

تمالكت بشرى نفسها و قالت له : ليس اليوم يا إبراهيم، لم أحضر لك شيئا، لكن أعدك سأعوضك بشي جميل في المرة القادمة.

و أثناء حديثها مع أخيها إبراهيم و محاولة مواساته، قطعت الأم الحوار مخاطبة بشرى: أين كنت يا بنتي ؟

 لقد قلقت عليك كثيرا، هل جرى لك شيء ؟.

إنك تبدين شاحبة !

– ليس هناك شيء يا أمي، فقط صاحب العمل لم يدفع لنا أجرة الأسبوع وقام بتأجيلها أسبوع أخر، و كما تعلمين نحن نحتاج مصاريف يا أمي .

-لماذا يفعل بنا هذا ؟ ألا يكفي أنها أجرة زهيدة ..ماذا نفعل الآن؟ ولا يوجد شيء في البيت للأكل..اه يا إلهي ..ما عمل !!؟

-لا تقلقي يا أمي سأتدبر الأمر، أنا ذاهبة إلى جارتنا عائشة، أقترض عليها بعض المال، و سأسدده على مراحل إن قبلت، لم تكن بشرى تفكر فيما  تقول.. فقد كانت تختلق الأعذار و تخفف من هول الموقف الذي أصابها.

 خرجت و هي تفكر من أين يمكنها فعلا أن تحصل على المال ؟، هل تستطيع أن تحصل على قوت لعائلتها أو على الأقل تؤمن لهم عشاء لليلة واحدة فقط ؟.

 تشجعت و طرقت باب الجارة عائشة، لكن من فتح الباب لم تكن الخالة عائشة بل إبنها ديدن، فقالت له في استحياء :هل خالتي عائشة في البيت؟.

قال لها : نعم.. تفضلي بالدخول.

– إجلسي في قاعة الإستقبال، فأمي تصلي ..أخبريني كيف حالك ؟ وحال أمك و أختك؟ وماهي أخبار إبراهيم الصغير؟

– بخير ، كلهم بخير – الحمد الله .

و بمجرد أن أنهت  الخالة عائشة صلاتها وأقبلت لاستقبال بشرى، حتى انفجرت في وجهها باكيا على مرأى و مسمع ديدن، الذي بدت على وجهه الدهشة و الحيرة…

و قصت على الخالة عائشة كل القصة، وعلامات الحيرة بادية مرسومة على  محياها، لم يتمالك ديدن نفسه و تدخل وسارع في وضع بعض المال في كف يد بشرى و سحبها بلطف إلى خارج البيت، مطمئنا أمه أنه سيتكفل بالأمر.

في الخارج إستطاع أن يعرف منها تفاصل أكثر، كشكل و ملامح المعتدي والثياب التي كان يلبسها.

 وهو يغوص في بحر من الأفكار فلم(يعد عنده أدنى شك )يبقى عنده أدنى شك، أن المعتدي ما هو إلا صديقه بيريز.

استشاط  ديدن غضبا لكنه لم يظهر شيئا لبشرى و قال لها :ارجعي الى بيتك الآن .. سأتكفل بالأمر.

لم يحاول ديدن البحث عن بيريز فهو يعلم أين مكان تواجده، انتظر منتصف الليل واتجه إليه مباشرة، فوجده جالسا على إحدى جدران البيت الطوبي يحتسي الخمر لوحده، ولم يكن معه جمال على غير العادة..، فانهال عليه بالضرب  حتى أسال الدم من فمه، وقد حاول بيريز الغدر بديدن على

حين غفلة  عندما استدار، حيث أخرج سكينه و حاول طعنه من الخلف، لكن ديدن تفطن له و نزع السكين من يديه ، وأطبق عليه و أشبعه لكمات كادت تزهق روحه، ثم لوى يده و سحب المال من جيوب هذا المعتدي .. و تركه ملقا على الأرض.

و بعد تسليم المال لصاحبته، قرر ديدن أن ينهي صداقته نهائيا مع رفيقيه و تكون هذه القضية اخرشيء يربطه بهما، فلم يعد يحاول أن يلتقي بهما بعد ذلك، أو يفعل أي شيء اتجاههما، مكتفيا فقط  بالإبتعاد عنهما…ربما من باب العشرة.

لكن ساءت أوضاع ديدن كثيرا خصوصا بعدما تخلى عن عمله في المصنع، لأنه أصبح يحس أنه هذه الوظيفة لا تقدم  الشيء الكثير في حياته و لا يتغير شيء من واقعه البائس.

فاعتاد أن يدخل خلسة الى البيت، في وقت متأخرا من الليل فيجد أمه تنتظره بالمرصاد، تردد على نفس الكلمات التي إعتاد على سماعها و كاد يحفظ بعضها من كثرة تكريرها عليه كل يوم، لم يكن يطيب جفن لأمه وتنام دون الإطمئنان على ولدها وهي التي كانت تقول له عند تنجب أولاد ستفهم، ربما كانت تحس أنه من واجبها عليه أن تسميعه كلمات العتاب لعل تلك الكلمات تحي في  قلبه الهمة والعزيمة فيتغير للأحسن فكانت تقول له:

– حتى الآن .. ! كم هي الساعة أخبرني ؟ !، أين كنت ؟  أهذا وقت يدخل فيه الناس،  أما آن لك أن تستقيم .. مللت من أفعالك.

آلا تذهب وتبحث عن عمل مثل أسيادك!

فيرد عليها ديدن: نعم ..نعم، سأبحث يا أمي .

– آه ..يا أماه  أنت لن تفهميني أبدا ولن تقدري حالتي.

– هل تظني أني راضي لحالي ؟ .. لقد بحث كثيرا و طرقت كل الأبواب و لم أجد أحد عنده منصب عمل شاغر.

ترد عليه الأم : لماذا لا تعمل في المقهى مثل سعيد إبن الجارة ..

– يا أمي لن أعمل في مقهى أبدا ..لا أحب عمل الذل، ليأتي أحدهم و يحاول إذلالي، كأن يطلب مني أن أحضر له كوب ماء فقط ليضحك علي، لن أعطي فرصة لأعدائي بالتشفي و إذلالي.

أستطيع أن أحتمل كوني سارقا أو عاطلا على أن أعمل في مهن الذل! السرقة أشرف بكثير .. !! على الأقل في نظرة المجتمع و الناس إذا قارنها بمهن أخرى كهذه التي لا تغني ولا تسمن من جوع .

-أرجوك يا أمي ..لا تكلمني في مثل هذه المواضيع فهي ترفع ضغطي ..أخبريني يا أمي هل ضقت مني فعلا؟

-إذن أصبحت تتمنى السرقة، هل هذه خلاصة تربيتي لك، أملي فقط في الحياة أن تعيشوا بشرف ولا تمدوا أيديكم لأحد.

بعد الإنتهاء من المناقشة اليومية الحامية الوطيس ..أحيانا، يتسلل ديدن إلى غرفته المجاورة أين  سيستلقي على فراشه إلى أن تمر العاصفة !.

 لكن بعد أن يقبل يدها ولا يترك لها مجال للاسترسال في الكلام أكثر، ويستلقي على الفراش الذي يجده دائما مهيأ كل ليلة من طرف أمه، دون أن يوقض أخويه الأصغر منه، فهو ينام معهما، سمير يبلغ من العمر سبعة عشرة سنة وعمر له خمسة عشرة سنة، وكلاهما يدرسان.

و لكن قبل أن يغفو يسمع صوت خافت من أمه  يقول: – تعال لتتعشى يا ديدن فالعشاء جاهز في المطبخ ، فيقوم ويغسل رجليه و يديه و يتناول عشاءه بسرعة ويعود لفراشه.

 إن حياة ديدن ما كانت لتختلف عن هذا الروتين اليومي، لكن فكرة تغيره لهذا الروتين القاتل لم تكن لتفارقه .

 فحلمه أكبر من أن يبقى يتجرع مرارة الفراغ وملل البطالة..طول الوقت،  كل يوم يمر عليه ينخره في فكره و جسده، فهو يتألم داخليا لكن لم يضعف يوما كأغلبية من يعرفهم من مثل حاله، لم يسكن إلى المخدرات و لم يقم بأعمال منحرفة، لم يتعدى على أحد..

من وجهة نظره أن أبوه أنجب رجال ولا يجب تلطيخ شرف عائلته، رغم ما يعانيه يوميا من تهميش و احتقار من الغير.

كان يسمع شماتة من هم من مثل سنه ، الذين يعملون في المناصب الدائمة ، أوجدها لهم أقاريبهم بفضل واسطة أو بدفع رشاوي لتوظيفهم، كان يسمع ذلك الكلام القاسي الذي يصله بطريقة أو بأخرى بأن ديدن شاب كسول و يديه مكسورتان، ليس إنسان عنده كرامة .. أمه من تعيله ..

إن قراره بالسفر أو الهجرة إلى أوروبا كان واجبا حتميا ضروريا تتطلب منه الكثير من الشجاعة والجهد و التضحية ..لأنه ليس من السهل أن تترك أم تعيل ولدين  لوحدها، و أن تسافر إلى المجهول لا تعرف ما ينتظرك هناك.

قرر ديدن أن تكون رحلته إلى إيطاليا عبر قوارب تهريب البشر(الحراقة) من الشواطىء التونسية ، بحكم موقعها القريب من الشواطىء  الإيطالية ، فباشر إتصالاته، وبعد مشقة في جمع المال عبرالاقتراض من بعض معارفه، باشر رحلته المحفوفة بالمخاطر.

بدأ ديدن بدخول الأراضي التونسية التي يعرفها جيدا ، لأنه كثيرا ما يردد عليها للسياحة،

 وفي اليوم الموعود، إستيقظ باكرا وأخرج كيسه الذي يحتوي فقط على قارورة ماء والقليل من تمر، واتجه نحو المكان المتفق عليه  قرب بعض الصخور المحادية للبحر أين وجد عشرات الشباب تنتظر وصول القارب و عند الساعة السادسة صباحا طلع عليهم صاحب القارب فجأة وكأنه كان يراقب الوضع من بعيد و ينتظر حتى يطمأن أنه لا يوجد شيء يدعو للريبة،  و بعدها يستطيع أن يقدم على الشباب الحراق..!

صعد كل الشباب في القارب و قام أحدهم ببسملة و بقرأة الفاتحة و الجميع رافع يديه بالدعاء..و صاحب القارب  ينظر إلى الساعة من حين إلى آخر و هو يشق أمواج البحر شقا،و لم تمضي إلا سويعات حتى وصل الجميع الى الشاطئ ..

عندئذ تفرق الكل، و كل إلى وجهة معينة ..

بعد وصول ديدن إلى صقلية ، لم يعرف أن يذهب، أو ماذا يفعل ؟

فقط إتكأ على أحد الصخور المحادية  للشاطئ و أغمض عينيه غير مبالي بشيء، وغاص في نوم عميق .

و لم تمر مدة طويلة حتى وجد أمامه شخص، واقفا على رأسه يحجب بظله ضوء الشمس، وهو يقول بكلمات غير مفهومة آنذاك! أنهض و تعالى معي .. فقط من حركات يديه فهم ديدن  انه يريد أن يتبعه .

 قام ديدن و نفض بعض الرمال التي التصقت به و ذهب مع الرجل، الذي اشار اليه بالجلوس في مقهى كان في الجوار .

طلب الرجل الغريب فنجان قهوة لديدن مع خبز و مربى إيطالي و بعد ذلك أشار على ديدن بوجوب تغير المكان إلى مكان آخر منزوي في ركن بعيدا عن الانظار و ديدن يفعل ما يشار عليه فعله .

و لم يمر وقت طويل حتى تكلم الرجل الغريب باللغة الفرنسية وكم كانت سعادة ديدن لسماعه يتلفظ بتلك الكلمات الفرنسية لأنها على الأقل هي لغة يمكن  لديدن فهمها.

فقال له : أنا إسمي روبارتو وأنت ما إسمك ؟

– فقال له ديدن في تردد: أنا ديدن .

 فرد عليه : لا تخف أعلم أنك دخلت البلاد بطريقة غير شرعية .. أنت الآن في امان ولا شيء سيصيبك بسوء..

قل لي  هل تبحث عن عمل ؟ : فقال ديدن نعم .

 – إذن أكمل شرب قهوتك و تعالى معي.

اتجه روبارتو بديدن إلى بيت معزول، أين وجد هناك ثلاثة رجال، أحدهما كهل أكل الشيب من شعر رأسه، وهو من أشارعلى ديدن بالجلوس وشرب بعض النبيذ، لكن ديدن أشار بيده أنه لا يريد ذلك ومبينا له نفس الوقت شكره وامتنانه و مخبرا روبارتو أنه لا يشرب الخمر، تفهم الجميع الأمر و ذهبوا به الى العمل في جني العنب .

بعد مرور شهور في عمله في جني العنب، انتقلوا به إلى العمل في ملهى ليلي بباليرمو، لم تكن هذه الوظيفة سهلة، بل اختاروه أن يكون حارسا مكلف بحراسة المدخل الشرقي للملهى، مع الوقت أصبح  لديدن  فكرة على الجو العام لصقلية و من يدير فعلا باليرمو، و أن من يعمل معهم ما هم  إلا المافيا .

استطاع ديدن أن ينغمس في المافيا النابولية بكل سهولة، بسبب الثناء الكبيرمن طرف روبيرتو عند الزعيم ماركوليني، و ضمان ولاءه عنده، و مع ذلك لم يسلم من تقديم الدليل على هذا الولاء.

  فقد اشترط الزعيم أن يقوم ديدن بالسطو على مقر البريد فقط بسلاح أبيض، وإذا القبض عليه، يتحمل أعباء صنيعه مهما حصل له، كانت هذه إحدى طرق إختبار الولاء.

  قبل ديدن بالمأمورية لكن بدل التوجه إلى مقر البريد اتجه إلى مخفر باليرمو وهدد الشرطي الواقف أمام الباب .. بخنجر خشبي.

 ثم أسقط الخنجر أرضا و سلم نفسه للشرطة، لقد أراد بهذا الفعل أن يثبت ولائه بفعل شيء فيه الكثير من الجرأة و الهجوم على ممثلي القانون في مقرهم ، هو فعل له دلالة رمزية كبيرة من أن يتهجم على البريد لا يوجد فيه إلا أناس أبرياء.

في اليوم التالي حظر المفتش ريكاردو إلى المخفر و معه مترجم .. لقد راسلوه خصصا لهذه القضية، و المفتش ريكالدو له خبرة كبيرة مع قضايا المافيا الإيطالية ..

 فبدأ بطلب احضار ديدن إلى مكتبه في المخفر، وحاول  مباشرة الدخول في صلب القضية، وقام بارسال وابل من الأسئلة  قائلا : – لماذا تهجمت على المخفر؟

– ألا تعلم أن الإعتداء على الزي الرسمي للشرطة يعتبر جناية خطيرة ؟

– من أمرك  بهذا..؟ لم ينظر ديدن الى المفتش ولا إلى المترجم، و اكتفى بالسكوت.

حاول المفتش أن يستميله في الحديث  بسجارة !

 – هل تريد سيجارة ؟ قل … يا ديدن نحن نعلم أن تعمل في الملهى الليلي في الساحة الحمراء، وأنك من أصول جزائرية .

لماذا ترفض الكلام ؟

لقد استغرق المفتش بضع ساعات وهو يحاول جعل ديدن يتكلم .. ثم في النهاية قرر إخلاء سبيله بكفالة، لعدم إستخدام سلاح حقيقي في الهجوم و لعدم توفر الأدلة الكافية لتقديمها للعدالة.

كان هذه القضية هي بداية دخول ديدن للعائلة و تقديمه  للعراب  دي ستيفانو الشخص الأكثر قدسية لدى عائلة دي ستيفانو، العائلة نعم …العائلة كما يسمها العراب .

العراب دي ستيفانو كان إنسان يمتاز بالحكمة و كان ديدن يقدره كثيرا، كثيرا ما كان يعود إليه ليأخذ   النصائح و الإرشادات منه، كان عمره ثلاث و سبعون عاما، و تجده دائما يحمل معه سبحته مع الصليب الفضي، تلك السبحة لا تفارق يده، كان العراب دي ستيفانو هو من بارك  إنخراط ديدن، فهو الزعيم الروحي، ولا يمكن لأحد أن يقلل من احترامه أمامه، كما لا يمكن لأحد أن يعارض أمره إذا قضى أمرا.

 يتذكر ديدن اليوم الذي أطلق عليه إسم  فدوشيا التي تعني بالصقلية الثقة، فالكل أصبح يناديه بديدي  فيدوشا، لم يتضايق ديدن أبدا من إسمه ، بل كان يراه كتشريف من قبل كبير العائلة،

ذات يوم ناداه العراب دي ستيفانو ليجلس معه ، لكن كان موجود في حضرته الزعيم ماريانو إبن العراب !

  تعال يا ديدي عندي معك كلام ..

اقترب و اجلس أمامي .

 أحس ديدن أن ذلك يقلل من قدر الزعيم  ماركوني، فقال : لا بأس يا دون سأجلس هنا، رد عليه : تعال.. تعال ..

اقترب ديدن و اجلسه العراب على يمينه .

   نهض الزعيم ماركوني من مكانه وقال :هل تسمح بالإنصراف يا اباتي ، فعندي أعمال ..

 أشار العراب بتلويح بيديه اليمنى ، حسنا !…

نظر العراب  الى ديدن و قال له :  إسمع  يا ديدي!  لقد إنظممت إلى عائلتي منذ فترة قصيرة، و مع ذلك نعتبروك كلنا أنك فعلا تنتمي إل العائلة ، و واحد منا ، كأنك عشت دائما هنا!!!

  أتعلم لقد ترعرت في باليرمو و عشت طول عمري هنا ، عشت حياتي بمرارتها و حلاوتها.

و رغم أننا كنا نقوم بأعمال غير مشروعة و أحيانا منافية للطريق الصحيح إلا اننا كنا نحتكم إلى شيء عظيم مقدس عندنا، آلا و هو الشرف … و لا شيء مثل الشرف و لا شيء أكبر من شرف العائلة، لكن كما تعلم الحياة مهما عاشها الإنسان تبدو قصيرة، وأحلام الشباب تتلاشى مع التقدم في السن .

 تدرك أن دورك قد أديته في هذه الحياة، سواء كان هذا الدور جيدا ام سيئا، وسواء كنت حياديا أو مندفعا ، سيأتيك هاجس الموت الذي يصبح  يؤرقك من أن تترك هذه الحياة  دون أثر يذكرك به الناس ..لكن ما يهم فعلا أن يذكرني أهلك..!

لا أدعي أنني فعلت في حياتي أشياء جيدة كثيرة، لكن أجزم لك أن العائلة كانت دائما من أولوياتي، قداسة العائلة لا يفهمها إلا من ولد صقلي، أو تربى فيها..

لكن أراك صقلي فحس العائلة يجري في دمك و قد أثبت ولائك، ما أعرضه عليك اليوم هو أن تأخذ زمام الأمور في إدارة العائلة، و لكي يصبح الأمر رسمي أكثر..

 إني أعرض عليك أن تتزوج ماريا حفيدتي الغالية و لا تظن أن شيئا قد يخفى علي، لأني أعلم أنك معجب بها وهي أيضا متيمة بك.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
زر الذهاب إلى الأعلى
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x