مكتب الجزائر / مريم دالى
تتضمن رواية ذاكرة معتقلة بين دفتيها، “الهوية والغربة”، “الحب والسرد”، تدور أحداثها حول مأساة الشخصية الرئيسية” عبد القدوس” الذي عاد إلى أرض الوطن بعدما رحل منه يوما محملا بذاكرة عليلة مليئة بالآهات والحسرات، خصوصا بعد مقتل والدته على يد الإرهابيين، وزواج والده بامرأة شريرة حقود سوّدت معيشته هو وأختاه، ومازاد الأمر تعقيدا هو موت احدى اختيه متسممة بنبتة سامّة وضعت في طعامها، أما الأخرى فقد هربت من تلك الحياة الضنكى -التي كانت تعيشها بين أسوار والدها الذي لا يرحم رغم كونه إمام مسجد- بزواجها من رجل مغترب يكبرها بسنوات كثيرة، ما زاد من مأساة البطل بعد مقتل والدته وزواج اخته ورحيل الأخرى، هو رفض عائلة الفتاة التي أحبها تزويجه بها بسبب فقره ويتمه..
بقي عبد القدوس تائها لمدة كبيرة في ذاكرته يعيش بين القبور والكوابيس غير المتناهية التي سرقت النوم من أجفانه، أمام كل هذه النكسات إضافة إلى المعاملة السيئة التي كان يعامله بها والده وزوجة والده جعلته يفكر في الهجرة غير الشرعية وترك الوطن رفقة ابن عمه ” المكي” الذي اقترح عليه الهروب ل”إيطاليا” …..
يسرد لنا البطل معاناته ومعاناة الشباب الذين ركبوا معه البحر والذين كانت معهم امرأة ورضيعها، لكل واحد من هؤلاء قصة جعلته يحمل رفاته ويرحل.. يصل البطل إلى إيطاليا ، يعمل هناك لمدة 3 سنوات كطباخ، يلتقي بفتاة تنتشله من الضياع، يتزوجها وينجب منها ثلاثة أولاد، ويصبح مدير شركة إيطالية معروفة، لكن فرحته لم تدم حيث يصاب بمرض خطير (سرطان المخ ) الذي تفاقم مع مرور الوقت وأصبح جسد ” عبد القدوس” لا يتجاوب مع العلاج، وقد أرجع طبيبه ذلك إلى القلق الزائد وعدم نسيانه لحياته الماضية، ما جعله يعرضه على طبيب نفسي الذي بدوره نصحه بالعودة لأيام إلى الوطن للتصالح مع ذاكرته وزيارة قبور أهله الذين لم ينساهم البتة والحديث معهم حتى لو كانوا مجرد قبور…
تشاء الصدف أن يلتقي “عبد القدوس” عند عودته إلى أرض الوطن بالمرأة التي أحبها صغيرا كان اسمها “مريم”، بعدما صارت متسولة أمام المسجد الذي كان يؤمه والده، الذي مات دون أن يحضر ع جنازته، عندما رأته تلك المرأة سقطت بين يديه مغشيا عنها، اضطر لأخذها إلى المستشفى وتحمل مسؤوليتها كاملة، فأصبح يزورها يوميا ويحكي لها وتحكي له عن الحياة الماضية التي عاشها كلاهما، لتموت في الأخير “مريم” بين يديه بسبب مرض الملاريا جراء لدغة تلقتها من بعوضة بسبب نومها في العراء، هذا الحدث يزيد من مرض البطل ….
( تم عرض الاحداث بتقنية الاسترجاع- الفلاش باك- الاستشراف- تشظي الزمان والمكان..)
يمكن اختصار الموضوعات التي جاءت في الرواية فيما يلي:
– جريمة أدت إلى مقتل الأم مذبوحة من طرف الإرهابيين، (يتضح في الأخير شيئا آخر تماما)
– مقتل الاخت متسممة بعشبة تسمى” عشبة الخنزير”
– قضايا اجتماعية من واقع المجتمع الجزائري (الفقر- اليتم-السحر الأسود-الطبقية في المجتمع- العنف الأسري- زواج الغصب- ظاهرة التسول- الهجرة غير الشرعية وقوارب الموت…)
– مرض السرطان الذي يصاب به البطل ومرض الملاريا التي تصاب بها أحد الشخصيات الروائية..
– حياة الليل والملاهي وجراح المدن…
– الخيانة الزوجية والتستر وراء الدين لممارسة أفعال دنيئة ( الرقية لممارسة الزنا مع بعض النساء)
– الهجرة غير الشرعية وأسبابها ) عرض قصص بعض الحراقة داخل قارب الموت وأسباب هجرتهم من لوطن)
– ملامسة جراح الوطن( الثورة- العشرية السوداء وما خلفته من دمار إلى الوقت الحاضر، 257 شهيد وحالة عائلاتهم..)
– زواج الرجل المسلم بالمرأة المسيحية والتعايش في عائلة واحدة مع احترام كل واحد لديانة الاخر..
– بنيت الرواية على متضادات كثيرة أهمها: ( الحب والكره )، (الفقر والغنى) ،( التسامح والانتقام)، ( الغربة والوطن) ،( الاعتراف والانكار) ، ( العفة والرذيلة)،( الإسلام والمسيحية)..
مقتطف من الروية:
ونحن نسير متجهين نحو منزل “جاهد” نتبادل أطراف الحديث، بدأنا نتوغل وسط الأحياء القصديرية والشّوارع الضيّقة التي تشي بفقر مدقع نشب مخالبه في المكان، كل البنايات التي كان يسكنها هؤلاء النّاس، كانت مجرد بيوت قرميد تشارف على السّقوط ومستودعات صغيرة تنعدم فيها الحياة.. وأنا أنظر من نافذة السّيارة متأملاً تلك الأحياء، أثارت مواجعي صورة لأطفال حفاة عراة يتقاذفون كرات مصنوعة من قشّ.. تراءت لي صورة “عبد القدّوس” الطفل الفقير: حافي القدمين، عاري الجسد، فارغ البطن بينهم .. غصّة كبيرة ذبحتني وشعور قاتل اجتاحني، فتهاوت بنات العين تِباعا من مقلتي معبرات عن وجع قديم لا يزال يسكنني ويعشش في أعماقي.. كثيرا من الأحيان نبكي مرغمين حين تحيك ماكنة القدر مأساة الآخرين بنفس خيوط الألم التي حِيكت بها مواجعنا يومًا، وكأنّها تتعمد إلباسنا رداء الأحزان والتأوهات ذاته حتّى لو كان لا يتناسب ومقاس أعمارنا.. تأكدت حينها أنّ الفقر مرض يقتل الإنسان قهرًا وما من دواء له سوى الصّبر، ومن أراد أن يعرفه حقًّا فلا يبحث عنه في بطون الكتب أو خطب الأئمّة داخل المساجد المزيّنة بثرياّت سعر الواحدة منها يكفي لإعالة عائلة لأكثر من شهر على الأقل ، بل يقلب عنه في هكذا أماكن……