ط
مسابقة القصة

ملخص رواية : قلوب متحجرة . مسابقة الرواية بقلم / يوسف القاضي . مصر

 

 قصة

   قلوب متحجرة

مسابقة الرواية

رقم الموبايل ٠١٠٠٥٦٠٣٧٧٣

    بقلم     يوسف القاض ..مصر

(1)

قلوب متحجرة

في أطراف إحدى المدن الساحلية، كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل، في ليلة قارسة البرودة، يعمها ظلام دامس وسكون موحش إلا من آهات عجوز ثكلى، على مشارف السبعين من عمرها، تقطن تحت بئر السلم، تفترش الأرض، وتلتحف بغطاء قديم بالٍ،يكشف أكثر ما يستر من جسدها النحيف الواهن.

رفعت العجوز يديها إلى السماء متضرعة إلى الله، وقد حفرت دموعها طريقاً على وجنتيها الرقيقتين، سائلة المولى القدير أن يكشف ضرها، ويمنحها الدفء والنوم الذي حرمت منة لإصابتها بالسهد والأرق ولسعه البرد الشديدة التي مزقت أوصالها وفتت عظامها الهشة الضعيفة.

استيقظ ” محمود ” في السابعة صباحاً، حامداً الله وشاكراً نعمه الكثيرة، وبعد تناوله وجبة الإفطار، ودع زوجته برسم قبله على جبهتها كعادته، ذاهباً إلى عمله كباحث اجتماعي بمديرية الشئون الاجتماعية.

تلقى  “محمود ” التعليمات من رئيسة المباشر بضرورة عمل بحث اجتماعي عن الحالة الإنسانية المدون اسم صاحبتها وعنوانها في الملف الذي استلمه للتو.

خرج  “محمود ” من مقر عملة مستقلاً الحافلة إلى شارع مصطفى كامل بحي شرق الإسكندرية، سائلاً أحد أصحاب المحلات التجارية عن شارع السوق القديم المتفرع من شارع مصطفى كامل.

(2)

مشى  ” محمود ” مترجلاً في شارع السوق القديم، باحثاً عن العقار رقم (5) الذي تقطن فيه  ” زينب عبد الواحد منصور “.

وقف ” محمود ” أمام العقار ولاحظ أن الدور الأرضي به محلات تجارية فقط، وصعد الدرج إلى الدور الثاني ضاغطاً زر الجرس لباب الشقة الوحيد بهذا الدور.

فتحت الباب سيدة شابة، وبادرته قائلة من أنت وماذا تريد …؟ .

قال ” محمود “: أنا باحث اجتماعي وأتيت إلى هنا بناء على البحث الاجتماعي المرسل إلينا عن السيدة / ” زينب عبد الواحد منصور “، والتي لا عائل لها وتحتاج إلى مساعدة شهرية.

قالت في دهشة مصطنعة: إن الحاجة ” زينب ” هي صاحبة هذا العقار ولا تحتاج مساعدة وليست متواجدة الآن وأغلقت باب الشقة.

نزل ” محمود ” على درج السلم وإذا بصوت خافت ضعيف آت من تحت بئر السلم،يقول: من يسأل عن ” زينب ” …؟ .

نظر ” محمود ” إلى مصدر الصوت، ووجد سيده عجوز، نحيفة الجسم، ويبدو من ملابسها وشحوب وجهها علامات الفقر الشديد والمرض الذي أنهك جسدها، وأجابها أنا الذي أبحث عن الحاجة    ” زينب “، فقالت العجوز: أنا  ” زينب “.

قال مندهشاً: هل تملكين هذا العقار كما تقول السيدة التي بالطابق الثاني …؟ .

قالت:نعم، ولي قصة سأرويها لك يا بني. لقد عشت فتره طفولتي وصباي مع أبي وأمي وأخي الأصغر  “عادل “، وكنا نحيا في رغد من العيش وتغمرنا السعادة، فقد كان أبي رحمه الله يعمل بالتجارة،

(3)

ولكن يا بني دوام الحال من المحال، فقد توالت خسارات أبي في تجارته الواحدة تلو الأخرى، حتى فقد كل أمواله، وتراكمت عليه الديون،وظل أبي يعمل ليلاً ونهاراً، وبالصبر والمثابرة والعمل الدؤوب،استطاع أبي بعد عده سنوات وبفضل الله أن يسدد ديونه ويرجع ميسور الحال كما كان من قبل.

وخلال هذه السنوات عشت قصه حب حقيقية مع أحد الشباب ، وكان شاباً وسيماً على خلق ، ويعمل بإحدى الدوائر الحكومية بمحافظة الغربية ، التي كنا نعيش فيها آنذاك ، وتزوجته بعد محاولات كثيرة من جانبي وجانب أمي لإقناع أبي بالموافقة على هذا الزواج ، فقد كان زوجي متوسط الحال ، لا يملك سوى راتبه الشهري ، ويسكن في شقة متواضعة بأحد الأحياء الشعبية ، وانتقلت للعيش مع زوجي في شقته والتي كانت في عيني بمثابة قصراً منيفاً ، وأنجبت ابني الأكبر ” فتحي ” بعد عامي الأول من الزواج ، ثم تلاه ابني الثاني ” حامد ” بعد أربعه أعوام .

وخلال هذه الفترة أتم أخي ” عادل ” دراسته الجامعية حاصلاً على بكالوريوس تجارة، وتزوج من إحدى زميلاته بالجامعة، ثم سافر بعدها بفترة وجيزة بصحبة زوجته للعمل بالنمسا، وبعد سنتين توفى أبي بعد إصابته بأزمة قلبية أودت بحياته.

انتقلت للعيش بعدها بصحبة زوجي وولدي في منزل عائلتي، بعد أن أصبحت أمي وحيدة.

ولم ينتههِ هذا العام يا بني حتى رحلت أمي هي الأخرى عن هذه الحياة حزناً على فراق أبي،وانقطعت عني أخبار أخي عادل، ولم أجد أي وسيله للاتصال به.

(4)

وذات يوم جاءني زوجي حزيناً مكتئباً، وتبدو عليه علامات الحيرة والأسى. قائلاً لي: أنه تم انتدابه للعمل بمحافظة الإسكندرية، وأنه أصبح في حيرة من أمره، فكيف يستطيع براتبه الضئيل توفير المسكن المناسب لنا بمحافظه الإسكندرية، وسد احتياجاتنا الشهرية.

وقررت بيع منزل عائلتي، وقمت بشراء هذا العقار يا بني، وكتبت عقد الشراء بإسمي واسم أخي  “عادل “، وأنجبت ابني الأصغر  ” أحمد ” في هذا العقار.

وبعد رحيل زوجي عن دنيانا، كافحت وتحملت المشاق من أجل تربية أبنائي.

وبعد أن اشتد ساعد ولدي ” فتحي ” و” حامد ” والتحق كلاً منهما بالعمل الذي يناسبه، تزوج ابني الأكبر ” فتحي ” وعاش في الشقة التي بالدور الرابع، وكذلك عاش ابني ” حامد ” بالشقة التي بالدور الثالث بعد زواجه هو الاّخر، وعشت أنا وابني الأصغر ” أحمد ” في الشقة التي بالدور الثاني.

وبعد أن كافحت من أجلة كما فعلت مع إخوته، وأتم تعليمه … قرر الزواج بعد التحاقه بوظيفةِ في إحدى الشركات.

واتفقت معه أن يتزوج في الشقة التي نعيش فيها، على أن يخصص غرفة لي بالشقة لأعيش فيها.

وانتقلت للعيش بشقة ابني ” فتحي ” حتى ينتهي شهر العسل لأخيه ” أحمد “، وعانيت من قسوة قلب ابني وأولاده أشد المعاناة، بالإضافة لمشاجرات زوجته معي والتي كانت لا تنتهي.

5))

وبعد عودتي لشقتي، وجدت جحيماً آخر في انتظاري، فقد مارست زوجة ابني دور السيدة، وكانت تأمرني بتنظيف الشقة، وغسل الملابس، وإعداد الطعام، وهو ما لا أستطيع عمله، لكبر سني وقوتي التي ضعفت، وكانت تقوم بإحراجي دائماً أمام صديقاتها اللاتي كن يترددن عليها باستمرار في الشقة.

وذات يوم أخبرني ابني ” أحمد ” باتفاقه مع إخوته على أن أعيش عند كل واحدٍ منهم فترة محددة، ووافقت على استحياء، فأنا لا أملك خياراً آخر.

وعشت أسبوعاً بشقة ابني ” حامد” لم أذق فيه طعماً للراحة أو النوم.

وقررت وبكل حزم العودة إلى شقتي، وما هي إلا أيام، ووجدت زوجة ابني تتهمني بسرقة قرطها الذهبي، وقام ابني وزوجته بالبحث في دولاب ملابسي، وللأسف الشديد وجدا القرط الذهبي بين طيات ملابسي، ولا أعلم إلا أن أحداً قد دسه لي.

وعندئذٍ بادرني ابني بسيل من الشتائم والسباب، ولم تشفع لي تربيتي له والسهر على راحته.

وطرقت أبواب أبنائي جميعاً … وكلهم أغلقوا في وجهي الأبواب.

وقلت لهم: سأذهب إلى إحدى دور الرعاية الاجتماعية للمسنين لأعيش هناك ما بقي من عمري.

وعندئذ صفعني ابني الأكبر بيده على وجهي، قائلاً لي: هل تريدين أن تفضحينا ويقول الناس لقد تركوا أمهم تعيش في دار

(6)

المسنين، ستعيشين هنا تحت بئر السلم حتى ننتهي من بناء غرفة لكي فوق السطوح، أو تموتي وترحلي عن دنيانا.

وهكذا يا بني أعيش هنا، أفترش هذه الأرض الرطبة، وألتحف بهذا الغطاء البالٍ، ولا يسد رمقي سوى فتات من بقايا أطعمتهم، حتى معاشي الشهري عن زوجي (رحمه الله) استولوا علية ويتقاسمونه بينهم كل شهر.

خرج ” محمود ” باكياً حزيناً على حال هذه السيدة، ولم يرجع إلى عملة، وإنما عاد إلى منزلة والدموع تنهمر من عينية، وقابلته زوجته بلهفه وقلق يكاد قلبها يتمزق خوفاً عليه، وبادرته قائله:ما الذي يبكيك…؟

وعندئذٍ ارتمى ” محمود ” بين ذراعي زوجته راوياً لها ما حدث وما شاهدة في ذلك اليوم، متذكراً أيام طفولته الحزينة التي فقد فيها أمه وهو طفل صغير، بعد صراعها مع المرض، وسنين الحرمان الطويلة التي عاشها فاقداً حنان الأم.

في صباح اليوم التالي خرج ” محمود ” كعادته ذاهباً إلى عمله، وعقله شارد ووجهه شاحب، يبدو على ملامحه علامات الإرهاق والتعب الشديد، وبدلاً من استقلاله الحافلة إلى مقر عمله، وجد نفسه مستقلاً الحافلة المتجهة إلى عنوان الحاجة ” زينب “.

وقف ” محمود ” أمام العقار متردداً.هل يدخل لمقابلة أولاد الحاجة ” زينب ” أم لا …؟ فهو يرغب بشدة في إيجاد حل لمشكلة هذه السيدة العجوز مع أبنائها، وأخيراً قرر ” محمود ” الدخول ملقياً السلام على الحاجة ” زينب ” وموضحاً سبب مجيئه. وأثناء

(7)

حديثة مع الحاجة ” زينب “، أتى أحد أبنائها، وبعد نقاش قصير قام بجذبة بشدة وقذفة بعيداً خارج العقار، ومهدداً إياه بعدم العودة مرة أخرى.

ولم يرجع ” محمود ” إلى منزله كما كان بالأمس، ولكنه قرر الذهاب إلى إحدى دور الرعاية الاجتماعية للمسنين، والتي يشغل رئيسها زميل دراسته ” أيمن ” شارحاً له قصه هذه السيدة مع أبنائها ومطالباً إياه بإيجاد وسيله لإيداعها بالدار.

وبادره زميله ” أيمن ” قائلاً له: أنه لا يستطيع استقبال الحاجة ” زينب ” بدار المسنين لعده أسباب، أولها أنها تمتلك عقاراً بالإضافة إلى معاش شهري عن زوجها المتوفى، واّخرها أن لها أولاداً، ثم إنك إن حاولت إيداعها بدار المسنين ستعرض نفسك للمسائلة القانونية لأنك لا تمت لها بصله قرابة.

خرج ” محمود ” من دار الرعاية الاجتماعية للمسنين متوتراً وحزيناً، هائماً على وجهه، تقوده خطواته بالشوارع والميادين، متذكراً أمه التي لم ينعم بدفء حنانها، وكم كان يتمنى أن تكون على قيد الحياة لتسكن بين جفونه غالقاً عليها عيناه.

رجع ” محمود ” إلى منزله منهك القوى،مجهداً، رافضاً محاولات زوجته لتناول وجبه العشاء، ودخل إلى فراشه ليستريح بعد العناء طيلة اليوم، لكنه استيقظ مفزوعاً في الثانية عشرة ليلاً، فقد رأى في منامة الحاجة ” زينب ” تطلب منه إغاثتها وإنقاذها من الغرق في مياه البحر العميقة.

(8)

استقل ” محمود ” سيارته الخاصة مسرعاً حتى وقف أمام العقار رقم (5) وقرر الدخول، وبكل جرأة نادى على الحاجة ” زينب “. ولم تجبه، ووجدها مستلقية على ظهرها، وتهذي ببعض الكلمات.ماما.بابا.عادل، وضع يده على جبهتها ولاحظ ارتفاع كبير في درجة حرارة جسمها، وأخذ يصرخ محاولاً إيقاظ أبنائها لإسعافها، والدموع تنهمر من عينيه.

ولم يجد أحداً في العقار.

فقد كان أبناء الحاجة ” زينب ” مشغولين بقضاء سهرةِ ممتعة في أحد النوادي الساحلية.

استيقظت الحاجة ” زينب ” بعد أن شعرت بالراحة والدفء، مندهشة وهي ترى أمام عينيها الضعيفتين غرفه بيضاء،وفراش وسير ناعم، وملتحفة بغطاء دافئ جميل، وكأنها انتقلت إلى جنة النعيم، وزاد اندهاشها وهي ترى ” محمود ” مستلقياً على كرسي أمام السرير الذي تنام عليه، وهو يغط في نومٍ عميق.

نادت الحاجة ” زينب ” على ” محمود ” في محاوله منها لمعرفة سبب مجيئها لهذا المكان.

استيقظ ” محمود ” وأثناء ذلك فتحت باب الغرفة سيده شابه، حاملةِ بين ذراعيها صينيةِ كبيرةِ عليها إفطاراً شهياً، قائلةِ وتعلو وجهها ابتسامة رقيقه: ألف حمداً لله على سلامتك يا حاجه ” زينب “.

فقالت الحاجة ” زينب “: أين أنا يا أستاذ ” محمود “…؟

(9)

قال ” محمود “: أنتِ في منزلي وهذه زوجتي ” حنين “، ولولا تدخل العناية الإلهية كنتِ فارقتِ الحياة في هذه الليلة.

قالت ” حنين “: لقد أحضر ” محمود ” الطبيب، وتم عمل الإسعافات الأولية وإعطاءك الأدوية والمحاليل الطبية، ويجب أن تتناولين طعام الإفطار الآن، حتى تأخذي جرعه الدواء.

قالت الحاجة ” زينب “: لا أستطيع تناول الأطعمة، فليست لي شهية للأكل أو الشرب.

تناولت الحاجة ” زينب ” وجبة الإفطار بعد الإلحاح من جانب ” محمود ” وزوجته ” حنين “، وهي تعلو وجهها ابتسامةِ جميلة، وكأنها عادت عروساً من جديد.

لم يعبأ أولاد الحاجة ” زينب ” بفقد أمهم المفاجئ، ولم يبدر منهم أي محاولة لمعرفة سبب اختفائها.

تعافت الحاجة ” زينب ” من مرضها بعد أيام قليله، نتيجة الاعتناء الكبير من جانب ” محمود ” وزوجته ” حنين “، وامتلأ منزل ” محمود ” بالخير والسعادة،وراحة البال.

وعلى الجانب الآخر، اكتسى العقار رقم (5) بلون رمادي غامق، وتوالت النكبات ولعنات السماء على أولاد الحاجة ” زينب “، الواحدة تلو الأخرى.

فقد أدمن الإبن الأكبر لفتحي شرب المخدرات، بالإضافة لعقوقة المستمر لوالدية، حتى سقط مؤخراً في قبضة رجال الأمن، وهو يقوم بسرقة أحد المحلات التجارية ليلاً للإنفاق على إدمانه، وفقد “

(10)

حامد ” زوجته في حادث أليم.

أما الإبن الأصغر ” أحمد “، فقد كان عائداً من عمله من إحدى الورادي الليلية، على غير موعده المعتاد، بعد إصابته بإصابة بالغة أثر سقوط أحد المعدات علية أثناء قيامه بصيانتها، وبعد أن قام بفتح باب شقته بصعوبة، نتيجة الجهد والتعب الذي ألم به، ليتفاجأ بزوجته اللعوب ” ناهد ” بأحضان أحد الرجال على فراش الزوجية، ومن هول ما رأى سقط على الأرض مغشياً عليه، لم يفق بعدها إلا في المستشفى، بعد إصابته بجلطة قلبية.

توطدت علاقة الحب بين ” حنين ” والحاجة ” زينب “.

وذات يوم عاد ” محمود ” من عملة في الثالثة عصراً، وقد علت وجهه الابتسامة والفرح والسرور، وبادر الحاجة ” زينب ” قائلاً لها بعد أن قام بوضع قبلة على جبهتها: قدمك قدم السعد علينا يا حاجه ” زينب “، لقد ترقيت اليوم في عملي، وأصبحت مديراً لإدارة الشئون الاجتماعية، وأخرج من حقيبته التي بيده هدية ذهبية جميلة لها، ونظر لزوجته ” حنين ” مبتسماً، والتي كانت ترقب هدية الحاجة ” زينب ” في خجل قائلاً لها بعد أن أخرج من حقيبته هدية أخرى: وهذه هديتك يا زوجتي الحبيبة.

وأثناء إعداد ” حنين ” لوجبة الغذاء، وتجهيز سفرة الطعام، سقطت على الأرض مغشياً عليها، وحملها ” محمود ” في قلق إلى غرفة نومها، ونزل مسرعاً لإحضار الطبيب.

وبعد أن قام الطبيب بفحص الحالة الصحية ” لحنين “، نظر مبتسماً إلى ” محمود ” قائلاً له:ألف مبروك، المدام حامل. علا وجه “

(11)

محمود ” ابتسامة عريضة، وسالت الدموع من عينيه، فقد كان محروماً من الإنجاب طيلة سبع سنوات هو عمر زواجه من ” حنين “، بسبب بعض المشاكل الصحية بزوجته ” حنين ” والتي كانت سبباً في عدم إنجابها طيلة هذه السنين.

هللت الحاجة ” زينب ” بالفرح والسرور، وأطلقت زغرودة جميلة.

في اليوم التالي ذهب ” محمود ” ليعلم والدي ” حنين ” بهذا الخبر السعيد.

وأثناء جلوس ” حنين ” مع الحاجة ” زينب ” بغرفة الصالون، تتفحصان البوماً للصور خاص بحنين.

علا وجه الحاجة ” زينب ” اندهاش كبير، وحملقت بعينيها في أحد الصور، والتي كانت لحنين وهي طفلة صغيرة بصحبة والدها.

ونظرت ” حنين ” بابتسامة قائلة: ماذا أصابك يا حاجه ” زينب ” …؟ .

قالت الحاجة ” زينب “: إنه  “عادل “، بادرتها ” حنين ” قائلة تقصدين أبي. هل تعرفينه …؟ .

قالت الحاجة ” زينب “: إنه أخي ” عادل “، وأثناء ذلك رن جرس الباب.

أسرعت الحاجة ” زينب ” بفتح الباب، ووقفت متسمرة مما رأت، وذرفت عينيها الدموع بغزارة وهي تنظر إلى أخيها ” عادل ” وزوجته ” سعاد ” بعد كل هذه السنوات، وتعانقا عناقاً طويلاً أبكى

(12)

الحاضرين. وقالت الحاجة ” زينب “: لقد انتظرت مجيئك يا أخي سنوات طويله، ولم أعرف سبيلاً للوصول إليك.

قال ” عادل “: إن لي قصه طويله يا أختي سأرويها لكي.

بعد سفري إلى النمسا بصحبة زوجتي ” سعاد ” ، التحقت بالعمل في أحد المراكز التجارية بالعاصمة ” فيينا ” ، واستقرت حياتي ، ورزقنا الله بطفلتنا الجميلة ” حنين ” ، وذات يوم اتصل بي صاحب المركز التجاري للذهاب إليه في مكتبه لمراجعة بعض فواتير الشراء لمجموعه من المنتجات التي تم شراؤها حديثاً ، وعندما ذهبت إلية وقمت بفتح باب مكتبة ، فوجئت به مضرجاً في دمائه ، وسكيناً مغروسة في صدرة ، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة ، وصرخت بطريقة هستيرية ، وأمسكت السكين في محاولة مني لانتزاعها بغية إنقاذه ، وآثناء ذلك فوجئت برجال أمن المركز التجاري قد حضروا نتيجة سماعهم لصرخاتي ، ووجدوا صاحب المركز التجاري قد فارق الحياة ، وأداة الجريمة في يدي ، وخزينته الخاصة مفتوحة وفارغة .

واقتادوني إلى مركز الشرطة، وتم اتهامي بقتل مدير المركز التجاري وسرقة بعض أمواله، ولم أستطع إثبات براءتي، فقد كانت بصماتي على أداة الجريمة.

وتم الحكم علي بالسجن المؤبد، وبفضل الله، وزوجتي المخلصة ” سعاد ” والتي رفضت مغادرة النمسا، وظلت تعمل وتجتهد لتربية ابنتنا ” حنين “، ولتكون بجواري لإثبات براءتي.

(13)

وبفضل عناية الله، ظهرت براءتي فجأة عن طريق الصدفة لدى رجال الأمن، الذين قاموا بالقبض على مجرم خطير بعد مداهمة منزلة وتفتيش محتوياته، وعثروا من بين هذه المحتويات على مذكراته الخاصة، وعندما تصفحوا هذه المذكرات، وجدوه قد دون فيها كل الأعمال الإجرامية التي ارتكبها، ومن بينها هذه الجريمة التي قتل فيها مدير المركز التجاري، وسجنت أنا بسببها ظلماً وعدواناً.

وتم الإفراج عني، وأعطتني السلطات النمساوية تعويضاً مادياً كبيراً عن مدة العقوبة التي قضيتها ظلماً داخل السجن.

وتنفست الصعداء، وشممت رائحة الحرية التي حرمت منها سنيناً طويلة، وقررت العودة إلى مصرنا الغالية، والتي عرفت قيمتها الحقيقية، عندما حرمت منها طيلة هذه السنين، ولكي أنعم فيها بالدفء والحنان والحرية ما بقي من عمري، وعندما ذهبت يا أختي إلى منزل عائلتنا بمحافظة الغربية، لم أجد أثراً للمنزل، ووجدت قد بني مكانة عمارة شاهقة، ولم أجد أحداً من معارفنا بالحي، سوى رجل طاعن في السن، وأبلغني بانك قد قمتِ ببيع المنزل من سنين طويلة، وبحثت عنك في كل مكان، ولم أعثر عليكِ.

قالت الحاجة ” زينب “: بعد أن انقطعت أخبارك عني، ولم أجد وسيلة للوصول إليك، فقمت ببيع منزل العائلة، واشتريت عقاراً بمحافظة الإسكندرية وكتبت عقد الشراء بإسمي واسمك، فلك الثلثان ولي الثلث حسب الإرث الشرعي، كما حدده الله عز وجل، وكتبت وصية بضرورة نشر صورة العقد بالجرائد الرسمية، بعد

(14)

وفاتي، في محاولة مني للحصول على إرثك الشرعي. وقد أخفيت هذا الأمر عن أولادي بعد ذلك، لما وجدت فيهم الجشع والطمع، وعقوقهم المستمر لي.

تراكمت الديون على أبناء الحاجه ” زينب ” بعد إصابتهم بالهموم والمشاكل والأمراض التي فتكت بهم ، فقد أصبح ” فتحي ” هزيلاً وشاحباً لا يقوى على الحركة ، وأصبح في أمس الحاجة للأموال حتى يستطيع إنقاذ ابنه من براثن السجون ، وكذلك ” أحمد ” فقد أصبح مكتئباً وحزيناً دائماً ومنهك القوى ، وصورة زوجته اللعوب ” ناهد ” وهي تخونه على فراش الزوجية بصحبة رجل آخر لا تفارق خيالة ، أما ” حامد ” فلم ينجوا هو الآخر من عقاب السماء ، فبعد فقدة لزوجته إثر حادث أليم ، لم يلبث هو الآخر حتى فصل من عملة بعد ضبطه متلبساً بأخذ رشوة من أحد العملاء لتسهيل بعض الصفقات بالشركة التي يعمل بها ، واكتفى مدير الشركة بقرار الفصل ، ولم يبلغ السلطات رحمة بأولاده .

اجتمع أولاد الحاجة ” زينب ” واتفقوا فيما بينهم على بيع العقار، ولكنهم وقفوا عاجزين، فلم يعثروا على عقد ملكية العقار، بين متعلقات أمهم، وفشلت محاولات البيع، لإصرار المشترين على حصولهم على حجة امتلاكهم للعقار.

تذكر أولاد الحاجة ” زينب “، ذلك الإخصائي الاجتماعي ” محمود ” والذي كان يرغب بشدة في مساعدة أمهم، وقاموا بإبلاغ الشرطة باختفاء والدتهم، متهمين الإخصائي الاجتماعي بأنه وراء عملية الاختفاء.

(15)

داهمت قوات الشرطة منزل ” محمود “، وقاموا بالقبض عليه، واقتياده إلى قسم الشرطة، موجهين له تهمه اختطاف الحاجة ” زينب ” وإخفائها داخل منزلة.

هرولت ” حنين ” بصحبة والديها إلى قسم الشرطة للحاق بمحمود والحاجة ” زينب “، نفت الحاجة ” زينب تهمة اختطافها أمام رجال الشرطة، وفجرت المفاجئة التي لم تخطر على بال أولادها، بأنها كانت تقيم في منزل ابنه أخيها ” عادل “.

تم الإفراج عن ” محمود ” من قسم الشرطة، وأغلق المحضر، ووجهت الشرطة لأبناء الحاجة ” زينب ” تهمة البلاغ الكاذب وإزعاج السلطات.

سالت دموع التماسيح من أعين أبناء الحاجة ” زينب “، وأوهموا والدتهم بأنهم بحثوا عنها في كل مكان، وأنهم يرغبون بشدة في أن يكفروا عن خطاياهم،وعقوقهم لها، وأن تسامحهم، واستسمحوها أن ترجع معهم إلى العقار، ليكونوا جميعاً خداماً تحت أرجلها.

رق قلب الحاجة ” زينب ” لأولادها، خصوصاً بعدما علمت بما أصابهم من الأمراض والنكبات المتتالية.

استأذنت الحاجة ” زينب ” من أخيها ” عادل ” وأبنته ” حنين “، كما استأذنت من ” محمود ” بعد أن قامت باحتضانه بشدة وضمته بقوة إلى صدرها موجهاً إلية أسمى آيات الشكر والعرفان، وهمست الحاجة ” زينب في أذن أخيها ” عادل ” بأن عقد شراء العقار بحوزة ابنته ” حنين “.

(16)

في ظهيرة اليوم التالي لرجوع الحاجة ” زينب ” إلى العقار، وأثناء جلوسها على كرسي بجوار شرفة غرفتها بالدور الثاني، أتى إليها حفيدها الصغير ” خالد ” نجل ابنها ” فتحي ” قائلاً لها أخيراً أتيتِ يا جدتي، الآن يستطيع أبي وأعمامي بيع العقار، جذبت الحاجة ” زينب ” حفيدها قائلة له، ماذا تقول …؟ قال: لقد سمعت أبي وأعمامي يقولون الآن يمكننا بيع العقار.

وقعت كلمات نجل ” فتحي ” كالصاعقة على قلب الحاجة ” زينب “، وفطنت لمكر أبنائها، وتيقنت بأنهم لم يبحثوا عنها إلا لمصلحتهم الشخصية فقط، وتمتمت قائلة (حسبي الله ونعم الوكيل).

سالت دموع الحاجة ” زينب “، وارتعشت بشدة، بعد إصابتها بهبوط حاد في الدورة الدموية، وسقطت على الأرض.

صرخ حفيدها، ونادى بأعلى صوته على والدة، هرول والدة وأعمامه باتجاه مصدر الصوت، ليجدوا والدتهم وقد سقطت على الأرض بدون حراك.

حمل ” فتحي ” والدته ووضعها بصحبة أخوته على السرير محاولين إسعافها، وأسرع بإحضار الطبيب، والذي وجدها وقد فارقت الحياة.

سالت دموع الندم والحسرة الحقيقية من أعين أولاد الحاجة ” زينب ” على رحيل أمهم، ولكن هيهات أن ينفع الندم، وقد جفت الأقلام وطويت الصحف.

(17)

أحس ” محمود ” في ذات اللحظة التي توفيت فيها الحاجة ” زينب ” وهو في عمله بوخز وضيق شديد في صدره، وراوده شعور كبير باللهفة والخوف على الحاجة ” زينب “، وأنه يجب أن يراها الآّن ويطمئن عليها.

خرج ” محمود ” مسرعاّ من مقر عمله مستقلاً سيارته إلى عنوان الحاجة ” زينب “.

دخل ” محمود ” العقار رقم (5) ووجد جلبة وحركة غير عادية، نادى ” محمود ” بأعلى صوته على الحاجة ” زينب ” وعلى أبنائها، صاعداً درج السلم في لهفة وخوف على الحاجة ” زينب “، ووجد باب شقه الدور الثاني مفتوحاً.

دخل ” محمود ” الشقة ووجد أبناء الحاجة ” زينب ” يبكون ويصرخون على فقد أمهم، ووجد الحاجة ” زينب ” ممددة بلا حراك على سرير نومها وقد فارقت الحياة.

ارتمى ” محمود ” فوقها وأخذ يهزها هزاً عنيفاً منادياً عليها أن لا تفارقه، ولكن شاء الله لهذه الروح الطاهرة أن تستريح من ظلم البشر، لتنعم بجنة الخلد، بعد المعاناة والتعب.

بكى ” محمود ” بكاءً مراً على فراق الحاجة ” زينب “، وخرج مسرعاً يقود سيارته ليعلم زوجته ” حنين ” ووالديها والدموع تسيل من عينية، ويكاد لا يرى الطريق.

اصطدم ” محمود ” بسيارة نقل مسرعة على الطريق، وتحطمت سيارته ومات على الفور، وشاء الله أن يدفن في مقبرة بجوار الحاجة ” زينب

(18)

” . انتهت ” حنين ” من سرد حكايتها مع ” محمود ” لابنها ” عمر ” الذي لم يتجاوز السادسة من عمرة، موضحة له أوجه الشر المتمثلة في أبناء الحاجة ” زينب “، وأوجه الخير المتمثلة في أبيه ” محمود “، والذي كان مثالاً لكل القيم النبيلة، والأخلاق السمحة، والكرم والعطاء بلا حدود.

وذرفت دموعها بشدة، وهي تحتضن طفلها الصغير.

                                                                انتهت

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى