رواية
لا تعرفُ الرقصَ….. لـ فلسطين حسن ابو زهو
يقول ُمازنٌ للسجينِ الذي يشاطرُه الجدارُ: “مبتورةُ الأطرافِ ولا تعرفُ الرقصَ حياةُ الفقراءِ”!
تدور أحداث الرواية حول مجرمين محكومين بالإعدام، وُضِعَ كل واحد منهما في غرفةٍ انفراديةٍ داخل سجن ٍقَذِر، غير أنّ الجدارَ المتهالكَ والمتصدعَ الذي يفصِلُ بينهما أتاحَ لهما الحديثَ حول جرائمِهم التي ارتكبوها… خاصةً وأنّ صوتَ المطرِ الغزيرِ في الخارج ِمن شأنِه أن يدفع َكلَّ واحدٍ منهما الى الاعترافِ.
المجرمُ الأول ُوالمدعو بمازنٍ والذي ثبتَ أنَّه ُيعاني من شذوذٍ روحي ٍّوأمراضٍ نفسيةٍ غريبةٍ، قتلَ ثلاثةَ أشخاص عدا الأجنةِ حيث عثر َفي حديقة ِمنزلِه على مجموعةٍ من التوابيتِ، الأولُ كان يحوي أزهار َالنرجسِ النابتةِ في تربةٍ تختلطُ بموادَ عضويةٍ، تبينَ بعد عمليات الفحصِ والتحليلِ أنّها تعودُ لمجموعةٍ من الأجنة ِ والمواليدَ الغير مكتملين، أما التابوتُ الثاني فكان عبارةً عن قالبٍ من الجبصِ مُزيناً برسوماتٍ مختلفةٍ، وبعد أن عمدَ المحققون الى كسرِ قالبِ الجبصِ، تبينَ في داخلِه أحفورةٌ بشريةٌ تعودُ لرجلٍ اربعينيٍّ في العمر، موشوم ٌعلى كاملِ جسدهِ المجرّدِ من الثيابِ قصةٌ طويلةٌ، يُقالُ أنَّ لها علاقةً بالرسوماتِ التي على القالبِ، أمّا التابوتُ الثالثُ فقد عُثرَ عليه مغلقاً كبقيةِ التوابيت عدا أنّهُ الوحيدَ الذي كان يصدرُ صوتاً من داخلِه، قيل أنَّ الصوتَ يعودُ لطفلٍ صغير ٍيبكي، عندما عمدَ المحققون والشرطةُ إلى فتحِ التابوت ِاختفى الصوتُ تماماً ليجدوا جثّةَ سيدةٍ تظهرُ على عيونِها المتشقلبةِ وشعرِها الأبيضِ المنكوشِ وأصابع يدها المتشنجةِ، وجسدِها المصلوبِ المشدودِ علاماتُ الخوفِ والرعبِ، أمّا فمُها فكانَ يعضُ على خصيةِ خنزيرٍ، والمثيرُ في الأمر أنهم كلما عادوا لإغلاق التابوت يتجددُ لدى مسامعِهم بكاءُ الصغيرِ.
أما المجرمُ الثاني فقد اعترفَ بدفن فتاة في غايةِ الجمالِ بعد أن سَرق قلبها، خبأها داخلَ صندوقِ سيارتِه الخلفيِّ، قبل أن يدفنَها داخلَ حفرةٍ أحدَثَها في قبوٌ أسفلَ منزلِه.
يتعرفُ المجرمان على بعضِهما من خلال ذلك الصدعُ في الجدارِ، تتقاذفُ مخيلةُ “مازن” وهو المجرمُ صاحبُ القضايا المتعددة مجموعةً من الصورِ في مخيلته، أبرزها: صورتُه وهوَ طفلٌ يصرخُ من قعرِ حنجرتِه أمام َ رجلٍ نائمٍ، وكأنَّ النائمَ لا يسمعْ صراخَه، وصورةٌ أخرى لطفلٍ رضيعٍ يسبحُ ميتاً ومنتفخاً في حوضِ ماءٍ صغير ٍ… وقبالتُه طفلٌ في الرابعةِ من عمرِه يلاعبُ الطفلُ الميتَ، وصورةٌ أخرى لسيدةٍ عشرينية ٍتصرخُ وهي تُمزقُ جزءاً من ثوبها ثمَّ تسقطُ على الأرضِ مغشواً عليها!
يتحدثُ مازنٌ لجارِه السجينِ والمدعو بفهدٍ عن زواج ِوالدِه من فتاةٍ عشرينيةٍ اسمها سناء، بعد وفاة ِأمه بأشهرٍ قليلةٍ، وقد كانت جميلةُ تهتم ُبشكلِها وبأنوثتِها، غير أنها تفاجأت لاحقاً بمرضِ الصرع الذي كان يعانيه زوجُها وكان من أبرز أعراضه: التشنجُ… والنومُ الطويلُ الذي قد يصلُ إلى يومين أو ثلاثةٍ، وبعد أن يستيقظُ تجده قليل َالحيلةِ بأطرافٍ متيبسةٍ وكأنّه ميتٌ، لذلك تضررَ كثيراً وضعُهم الاقتصادي، خاصة أنّ أعراض َ المرضِ زادت بعد وفاة الأم، وكانت سناء كثيرا ما كانت تواجِهُ زوجها بالصراخِ والعتابِ وبالكلامِ الجارحِ كونه لم يخبرْها عن مرضِه قبلَ الزواجِ…
وبعدَ أربعة ِ أعوام ٍ من زواجِهم أنجبت طفلاً ذكراً بعد َشوق ٍوشغفٍ عظيمين، يتابعُ مازنٌ حديثَه للسجينِ عن أبرز ِ هواياتِه المتمثلةِ في وضعِ الدمى داخلَ حوضِ ماء ٍومن ثمَّ غسلهنَّ وإغراقهنَّ في الماءِ، ولا يدري كيف تبدلت الدميّةُ الغارقةُ في الحوضِ إلى جسدِ أخيه الصغير ِ!
بعد وفاةِ الصغيرِ عاشَ مازنٌ أسوءَ ظروفِ حياتِه مع والدِه وزوجتِه “الخالة سناء” ، إذ ظلَّ صراخُ الصغيرِ يسكنُ رأسَه إلى الأبدِ، وبعدَ مرور خمسةِ أعوام ٍ توفي والدُه بعد سقوطِهِ عن حافةِ سطحِ منزلِه أثناء تنظيفِه خزانَ الماءِ، إثرَ نوبةِ صرعٍ داهمَتهُ، وبعدَ هذا الحادث ِبدلّتِ الخالةُ سناءُ علاقتَها معَهُ نحوَ الأحسنِ، بل وكثيراً ما كانت ترجوه السماح َوالمغفرةَ على كلِّ ما مضى!
يعيشُ مازن ٌمجموعةً من الهلوساتِ فيقررُ الرحيلَ الى الريفِ عند جدتِه “أم والدته”، ورغمَ استياء ِخالتِه سناء من فكرةِ الرّحيلِ، إلا أنَّ إصرارهِ على الفكرةِ ألزمَها قبولَ الواقعِ، خاصةً أنها بدأت توثقُ علاقتَها مع رسامٍ كان صديقاً لزوجِها المتوفى، كان مازنُ آنذاك يبلغُ من العمرِ ثلاثةَ عشرَ عاماً، وهوُ العمرُ الفضوليُّ للتعرفِ على النّفس ِعن كثبٍ، وتفحصِ الجسدِ والرجولةِ، مع مرور الأيام ِ أدرك َ أنَ ّ هناك شيئا ً ناقصاً، عادت به الذكرياتُ إلى حالةِ التجهمِ التي أصابت مجموعةً من الأطباءِ الذين كانوا قد جاءوا لتفقدِ طلابِ الصف الابتدائي، إذ وقفَ أحد ُ الأطباءِ طويلاً وهو يصوبُ بقلمِ الحبرِ الأزرق ِ نحوَ خصيتيه.
وبعدَ بلوغِه مرحلةِ الجامعةِ التحقَ بكليةِ الفنون واختار العزفَ على آلةِ الكمنجا، التي كانت تتشبثُ بظهرهِ أثناء تنقلِه من الريفِ إلى المدينةِ، تعلّقَ قلبُه بفتاةٍ من كليةِ الفنون تتعلمُ الرسم َوالتصويرَ، التقى بها أول َ مرةٍ أثناء عزفِه معَ مجموعةٍ من رفاقِه لطلبةٍ يتعلمون النحتَ، فكان ذلك التبادلُ كنوعٍ من إثراءِ المعرفةِ وتميزِها. وفي هذه الحالةِ تحديدا توجّبَ عليه زيارةُ الطبيبِ للإطمئنان ِعلى حالِه، أو على الأقلِ لمعرفةِ مدى سوءِ حالِه.
أظهرت النتائجُ الأولية ُ أنه تعرّضَ للخصاءِ بواسطة عمليةٍ جراحيةٍ أي أنها بفعلِ فاعلٍ وهذه تعتبرُ جنايةٌ بحدِ ذاتها، كان لهذا الحدثُ الأخيرُ أكبر الأثرِ في دفع حالته النفسية نحو الأسوء، إذ عاش مازن بعزلةٍ وكآبةٍ صرفتْهُ عن كلِّ العالم، ليس هذا فحسب إنّما فرضَ على نفسِه عقوباتٍ من شأنِها أن ْ تُذِلَه وتُحَقِرَه، كأن يضعَ كحلاً على عينيه، وحمرةً على شفاهِه، كأن يرتدي ثيابَ النساءِ ويغرسَ أقراطاً في أذنيه……الخ.
الحبُّ هو مَن دفعَه إلى الذهابِ إلى الطبيبِ ومواجهةِ الحقيقةِ، والحبُ ذاته الذي أجبرَهُ إلى الاعترافِ لها بكلِّ شيءٍ، كي لا يكونَ كوالدِهِ الذي خَذَل زوجتَه وأخفى عنْها مرضَ الصرعِ مُسبباً لها كلَّ تلك التعاسةِ والحزنِ!
التقى بِحَبيبته وبدأَ بذكرِ ماضيهِ منَ الصفرِ، فبدا على وجهِها التعاطفُ والتضامن، إلى أن ذكرَ حكايةَ التبولِ اللاإراديِّ والخصاءِ، وهنا تبدلت معالمُ وجهِها واصفّرت، ومضَت عنه وهيَ ترمقُه بنظراتٍ قاسيةٍ، تبعَ خطواتِها معتذراً ومنوهاً إلى أن يظلَّ الأمرُ سراً بينهم، مع رجائِه بأن يظلوا أصدقاءَ! بعد أيام ٍ من العزلةِ في الريفِ يزوره صديقُه من كليةِ الفنون، طالبٌ يعزِفُ على آلةِ السكسفون، من أجل ِ إخباره ِ عن كمِّ الشائعات المتداولة حوله.
بعد أيام ٍ عدتُ إلى الجامعةِ من أجل ِ إتمام ِ مهماتِ التسجيلِ للفصلِ الدراسيِّ الثاني، فكان جميعُ من في الجامعةِ يطاردونه بنظراتٍ فضوليّةٍ. في تلكَ الفترةِ كان قاسياً على نفسِه فتعمدَ إذلالها، كالتبرجِ في خلواتِه وتقبيحِ منظرِه بالتشبهِ بالإناثِ، بلغَ به اليأسُ التفكيرَ في الانتحارِ، ومع سوءِ حالتِه تزوره حبيبتُه السابقةُ حنين، فكانت فرصتَه للإنتقامِ، فبعد أنْ نطحَ رأسَها بالجدارِ أخذَ بإدخالِ الخيطِ بالإبرةِ ومن ثمّ حرقِ رأسِ الإبرةِ بالشمعةِ لخياطةِ فمِها بغرزتين، حتى تتقنَ الصمتَ جيداً.
بعد ذلك تركَها مقيّدةً إلى حين أن تأتيَ جدته من زيارتِها، ومضى بعدَها صوبَ المدينةِ باتجاهِ منزلِ والدِه، ومن خلالِ معاينتِه له من الخارجِ، اكتشف حجمَ الكاميراتِ المزروعةِ في كلِّ أنحائِه، استأذن أحد ُ الجيران بسؤالِهِ عن الخالةِ سناء، والذي أخبرَه عن سوءِ حالتها النفسية وعن مكوثِها في أحدِ المصحاتِ في وسطِ المدينةِ واسمه اللوتس، شرحَ له ما سمعَ عن أسباب ِ مرضِها فهناك من ينسبِها الى الزهايمر المبكرِ، وهناك من اعتقدَ بتلبسها بكائنٍ حيوانيٍّ، أو بطفلٍ صغيرٍ. وأن لا أحد يعرفُ الحقيقةَ كاملةً عدا زوجِها الذي يعملُ في النحتِ والنقشِ وحفرِ التوابيت، والتماثيلِ التي توضعُ على مداخلِ المتاحفِ والمعارضِ والمباني الفخمةِ.
يمضي مازنٌ باتجاهِ المصحِ رغم قلقِه من اللقاءِ، وبعد وصولِه يلتقي بالممرضِ مراد المسؤولِ عن حالةِ سناءَ، فيخبرُه الأخيرُ عن أهمِّ التغيرات التي تطرأُ عليها، ففي بعض الحالات تتقمصُ دورَ الأم ِ الحزينةِ الباكيةِ على فقدانِ صغيرِها، ومرّةً أخرى دورَ المرأةِ المستذئبةِ التي قد تقتلعُ عيونَك لمجردِ أن تحاولَ الاقترابَ منها، وفي هذه اللحظات تعيشُ الحالةَ الأولى، تهزُّ مهداً فارغاً تارةً وتارةً أخرى تُرضعُ دميةً تلفها شالةٌ بيضاءُ، تحاولُ دسَّ أحد َ ثدييها في فمِ الدميةِ، تتظاهرُ سناءُ أنَّ الطفلَ رفضَ الرضاعةَ ويصِرُّ على البكاءِ، فتهزُه ليسكتَ، تتذمرُ … تتململُ، وبين جدرانِ الغرفةِ تأخذُ بالطوافِ، ثمَّ ما تلبثُ أن تهلكَ من شدّةِ النعاسِ، فتلفَ نفسَها بغطاءٍ وتندسُ تحتَ السريرِ وبينَ ذراعيها من تظنه طفلها الرضيع!.
ذُهِل مازنٌ من الحالةِ التي كانت عليها الخالةُ سناءُ، إذ بدت وكأنَّها سيدةٌ عجوزٌ تحتضنُ بين ذراعيْها دميةٌ صغيرةٌ، تكتفتُ بذراعيه وبدت عليها الرغبةُ في تركِ المكانِ، يُقررُ مازنٌ في الصباحِ الباكرِ إخراجَها من المصح ِوالتوجِه نحوَ منزلِهم.
وأثناء نومِه دخلَ النحاتُ الى الغرفةِ، قرَّبَ قماشةً منقوعةً بالمخدرِ من أنف ِ مازن، وغاصَ الأخيرُ في سباتٍ عميقٍ، ثم قيدَت سناءُ وأغلقَ فمَها بحشوهِ بمنديلٍ، وأما عيونُها المتَّقٓدةُ أخذ َ النحاتُ يقتلُ الدمى ويَفتِكُ بدميتِها الرضيعةِ حتى جُنَّ جنونُها وتوقفَ قلبُها من شِدّة ِالفاجعةِ على من كانت تَظُنّهم صغارَها، ثم اختفيا بعدها. استيقظَ مازنٌ من نومِه هَلِعا وقبل أن يُبادلَه الآخرون سوءَ الفهمِ خرجَ من فورهِ من المصحِ متجهاً صوبَ منزلِ والدِه.
وعندَ ولوجِه البوابة الرئيسية للمنزلِ ينذهلُ مازنٌ مما يراه وكأنَّه أمام َ مسرحٍ حقيقيٍّ، منحوتاتٌ مدهشةٌ من الجبصِّ والصلصالِ وحتى الرملِ، مبعثرةٌ في أنحاءِ ِ الحديقةِ، توابيتٌ خشبيةٌ مطليةٌ بدهانٍ أحمر َ حديثٍ، قِطعٌ من رخام ِالقبورِ المزركشةِ، زخارفٌ كنسيةٌ على صروحِ الزجاجِ، أقنعةٌ من الجلدِ على هيئةِ أباطرةِ الرومانِ واليونانِ، شمعداناتٌ قوائمها من العاجِ أو العظمِ، رسوماتٌ منصوبةٌ على ألواحٍ خشبيةٍ، علبُ دهانٍ، براغٍ، مساميرٍ، أدواتُ الطرْقِ والرسمِ والنَّحتِ…. قفازاتٌ، حبلٌ مُعَلّقٌ عليه فراءُ ثعلبٍ وجلدُ خنزيرٍ ينُزُ منه الدمُ.
مضى يتبعُ حدسَهُ في تفقدِ أروقةِ المنزلِ التي يفوحُ منها رائحةُ الكحولِ ونجارةُ الخشبِ! وما أن بلغَ غرفتَه التي منَ المفترضِ أن تكونَ مهجورةً على حالِها، وجدَها منصةً مراقبةً، خمسُ شاشاتٍ مصفوفةٍ بجانبِ بعضِها البعض ومعلقةٍ على الجدارِ، تبثُ مشاهدَ من زوايا مختلفةٍ للساحةِ الاماميةِ والخلفيةِ والبوابةِ والسياج ِالخارجيِّ والصالةِ الداخليةِ عبر كاميراتٍ موصولةٍ بِها. استوقفَهُ الحركةُ المريبةُ التي ظهرت في الشاشةِ الثالثةِ التي كانت تبثُ تفاصيلَ الساحةِ الخلفيةِ للبيتُ، فكان زوجُ أمه الرسامُ يحملُ كومةً من القشِ ويسحبُها معه باتجاهٍ معكوسٍ لخطواتِه نحوَ المغارةِ، نهض مازنٌ من مكانِه متتبعاً خطى زوجِ أمه ِ النحاتِ بعد أن تناولَ معولاً من باحةِ المنزلِ.
وعند بابِ المغارةِ اندفعَ مازنٌ بعصى المعولِ وهوى بها على رأسِ النّحاتِ، ثمّ أدخله المغارةَ وقيده بالقيودِ الموجودةِ هناك، كان مكاناً للتعذيبِ والحبسِ!.
بعد دقائقَ دَفَعَ مازن بدلوِ ماءٍ فوقَ وجهِ النّحاتِ، استيقظَ الأخير ُ مذعوراً ليجدَ أسئلةَ مازن بانتظارِه، وكان أهمها، ” كيف قتلتَ أخي؟ وما الذي دفعَكَ إلى ذلكَ؟ لِمَ استأصلتَ رجولتي؟ ولِمَ خنتَ والدي؟ وما الذنبُ الذي اقترفَتْه عشيقتُك لِتزُج بها في مصحِ نفسي بعد أن نِلتَ مرادك منها؟
وبعد مشاداتٍ كلاميةٍ بين الطرفين، اعترفَ النحاتُ بقتلِ والد مازن بتسليطِ انعكاسِ أشعةِ الشمس بواسطة المرآة ومن ثمّ على وجه ِالضحيةِ وهو ينظفُ خزانَ الماءِ، وأفصحَ عن بداياتِ علاقته بسناءَ، وكيف أن حملها بطفلِها الأول تسبب َفي إبعادِها عنه فخطط لقتلِ الطفلِ داخل الحوضِ.
يتحدثُ الرجلُ النحاتُ عن حقنهِ لطفلٍ سناء بمخدر ٍموضعيٍ ثم ركنِه بين الدمى ومن ثم إغراقِه في الحوضِ، كانت ردّةُ فعلِ سناء بأن أغميَ عليها ما منحَ النحاتُ فرصةً أكبر لإتمامِ مهمتِه، حيث أخرجَ الطفلَ من الحوضِ وتظاهرَ بمحاولةِ إسعافهِ ومن ثم دفنِه، والحقيقةُ أنه أخفاهُ داخلَ أحد أكياس القمامةِ ثم رمى به داخلَ حاويةِ القمامةِ، ثم تحدثَ عن أن أهم أهدافه كانت في إستئصالِ ذريةِ مازن لذلك أجرى له عمليةَ الخصاءِ، من خلال طبيبٌ اشتراه بالمالِ، وفي إفقادِه عقلهِ لذلك كان يدسُ صوتَ طفلٍ صغيرٍ داخلَ جدارِ خزانته، يتحكمُ في الصوتِ الذي يصدرُ من خلالِ جهازِ إرسالٍ يتحكمُ بهِ عن بعدٍ، وكذلك زراعةُ بعضِ من اللوحاتِ التي كان يحذفُ أو يزيدُ بعضاً من شخوصِها لإحداثِ إخلالٍ في الإدراكِ العقليِّ، غير أن رحيلَ مازن الى الريفِ منعَهُ من اتمامِ مهمتِه على أكملِ وجهٍ.
يتحدثُ النحاتُ عن فكرةِ الخصاءِ فقد استغلَ قلبَ سناء المفطورَ على صغيرِها ودسّ الفكرةَ في قلبِها، وما هي إلا أيام ٌ وكان مازنُ يرقدُ على سريرِ مجاورٍ لمهدِ أخيه الميتِ، ولأن والدَ مازن بدأت تداهمُه الشكوكُ كان لا بد من الإسراع ِ بالتخلصِ منه، وفي ابتزازِ سناء بالزواجِ خاصة وأن ضميرَها أخذ َ ينخزُها. تخلصَ النحاتُ من الجميعِ غير أن رحيلَ مازن المفاجئَ، حرمَه من فرصةِ قتلِه.
بعد الزواجِ من سناء بدأتِ الخلافاتُ والشتائمُ يتبادلونها على الدوامِ، وفي كل مرةٍ ينتفخ بطنُها بطفلٍ، يبعثُ وراءَ ذات الطبيبِ الجراحِ ويجري لها عمليةَ الاجهاضِ دون أن تشعرَ ، حتى امتلأ حوضُ النرجسِ بالأجنةِ التي كان يدفنُها النحاتُ هناك. يتشاجرُ الاثنان مجدداً داخلَ المغارةِ فيضربُه مازنٌ على رأسِه إلى أن يفقدَ النحاتُ وعيَّه، أراد مازنٌ أن يحتفظُ بالأدلةِ الموجودةِ في المغارةِ فرفضَ أن يحرقَ النحاتُ مع الاعشابِ والحشائشِ التي أحضرها، انما فكرَ في طريقة أخرى للقتلِ، اتّجه صوبَ الساحةِ وهناك أخذ َ بخلطِ الجبصِ مع الماءِ داخلَ القلابِ ثم أسرع َ في إحضار ِ النحاتِ وسحبِه من داخلِ الحرشِ، ثم قامّ بدفعِه داخلَ أحد ِ التوابيتِ، وبعد أن ثقلَ الجبصُ، أخذ َ بصبِّه داخلَ التابوتِ، كانَ مازنٌ يُقنعُ نفسَه بأن ما يفعلُه انتقاماً لوالدهِ ولنفسِه، غير أن شعوراً غريباً انتابه وهو يقوم بذلك، أخذ َ يتلفت ُ حوله وكأنَّه مراقبٌ من أحد ِ ما…وفورَ ان انتهى من صبِّ التابوت ِ أسرع َ باتجاه ِ غرفتِه، حدّقَ في كاميرا المراقبةِ، لَمَحَ شيئاً معتماً بين الاشجارِ، قرَّبَ الصورةَ أكثر َ فكانَ الرجلُ النحاتُ يراقبُ مازنًا وهو يقومُ بصبِ التابوت بالجبصِ، أدرك مازنٌ تورطَه في جريمةِ قتل ٍ أخرى، لم يُمهلْ نفسَه كثيراً حتى فهم ِطلاسمِها، النحات لديه قناعٌ على هيئتِه كان قد صنعَه في السابقِ لمثلِ هكذا موقفٍ، وقد فكَّ قيودَه في اللحظةِ التي مثَّلَ أنه قد فقد َ الوعي، لكن السؤالَ الذي يبقى، من الذي داخلَ التابوتِ؟
يَتَلقى مازن ضربةَ على رَأسه تَتَسَبَب في افقاده وعيه، يفتحُ عينيه مُكَبَلاً بين ثلاثة توابيت، وتحيط به من كُلِّ الجهات قوات الشرطةِ والجنائيين والإسعاف، التابوت الأول كان حَوض نرجس نَبَتت على الأجنّة المستَأصلة من الخالة سناء، والتابوت الثاني كان الجار الذي أنهيتُ عليه دون قصد، والثالث كان لسناء الذي دسّ القاتل في فمها خصيّة خنزير وجَعَلَ غَلقَ الباب متزامنٍ مع صَوت طفلٍ يبكي.
وبعدَ انتهاءِ مازنِ من سردِّ حكايَتِهِ، يبدأُ فهدٌ في الحديثِ عن جريمتِهِ، كان جالساً في غرفةِ مكتبهِ حينَ جاءت سيارةٌ سوداءُ ضخمةٌ، دخلت ساحتَهُ الاماميةَ وهي تستديرُ إلى الخلفِ، نهضَ منها اثنان، اتجهو صوبَ صندوقِها الخلفيِ وأخرجوا منه تابوتاً منَ الخشبِ الأحمرِ، أنزلوه إلى الأرض ِ ثمّ عادوا أدراجَهم مسرعين. وأمام صدمتِه بما شاهدَ من نافذةِ غرفتِه يُهرولُ صوبَ التابوتِ، يسحبُه إلى القبوِ، ومن ثمّ يكسرُ قفلَه، وأمامَ لهاثهِ المتسارعِ وضرباتِ قلبهِ العنيفةِ، ينفتحُ التابوتُ على جسدِ حبيبتِه العاري تماماً والمحبوكِ بدرزاتٍ من حديدٍ في منطقةِ الصدرِ على شكلِ حرف اللام، يَفُكُ الدرزاتِ بملقطٍ صغيرٍ ومقصٍ، وما أن يفتحَ الإخدودَ في صدرِها حتى يتأكدَ من سرقةِ قلبِها.
يتخلصُ من الجثةِ من خلال دفنِها داخلَ قبوِ منزلِه، يعمدُ فهدٌ الى شراءِ الكثيرِ من أمعاء ِ الخراف التي يقومُ برميها فجراً قرب حاوياتِ القمامةِ الموزعةِ في محيطِ الحيّ، كي لا يعتقدُ السكانُ بشيءٌ من رائحةِ الموتِ فتختلطُ هذه بتلك.
يقضي وقتَه في البحثِ عن أصدقاء ِ الميتم ليفهمَ المغزى من قتلِ حبيبته، وسرقةِ قلبِها وإرسالها له على هذا النحوِ، …وينتهي الأمر ُ بالرضا عن هذا الاتهام، ويحملُ القضيةُ كلها نيابةً عن رفاقِه، ويعترفُ للقضاءِ بجريمةٍ لم يرتكبْها، بعد أن عرفَ أن القلبَ الذي اجتثوه من صدرِ حبيبته كان مطابقاً لقلبِ “ام حبيب” السيّدة التي ربّت أيتامَ البلّدةِ، وكادت أن تموتَ بقلبِها المتعبِ، لولا هذا القلب.
يتقدمان نحو الاعدام بحضور ثلاثين شخصا، ابرزهم اسقف الكنيسة وشيخ مُسِن، اضافة الى شخصيات امنية وسياسية ودينية، قبل تنفيذ الحكم لا يُمانع مدير السجن من كلمة الاسقف على ان لا تتجاوز الخمس دقائق، يسردُ الأسقف ُ شيئاً عن حياةِ فهد الذي عُثِرَ عليه في إحدى الحاوياتِ بملابسَ أنثى، ثمّ مضى به نحوَ السيدةِ أم حبيب، لتقومَ على تربيتِه. أدرك َ مازنٌ أن َ حكايةَ فهدٌ هذه تنطبقُ على أخيه ِ الرضيعِ الذي غرقَ في الحوضِ ممّا يعني أن ّ أخاه لم يمتْ، وقد أرشدَه إلى ذلك حديثُ الأسقف ِ عن شكلِ ثيابِه والتي كانت أنثوية ً بيضاءَ مرقطةً بالأحمرِ وعن البللِ الذي كان على الرضيعِ نتيجه مياهِ الحوض، وبعد عشرين عاماً يجدُ الأسقفَ َ رساله في يدِ التمثالِ يسوع، مفادها أنّ ابنك لا زالَ حياً في السجنِ تتكشفُ الكثيرَ من الأمور ِ في هذه اللحظاتِ الحاسمة ِ ومن أجل منع الإعدام وحتى يعرف فهد بأنه ابن سناء الذي اتّهم مازن بقتلِه داخلِ الحوضِ وهو طفلٌ صغيرٌ، صاحَ بصوتٍ عالٍ من على منصةِ الإعدام: ‘ قائلاً عثرتم على أربعة ِ جثثٍ غير أنكم إلى الآن تجهلون حقيقةَ الجثةَ الخامسةَ”، وفي هذه اللحظات وأمام تجهم الجميع وتساؤلاتهم يصدرُ مديرُ السجنِ أمرا ً بإيقاف ِ الإعدام ِ وإحالتِهم الى التحقيقِ مجدداً، وهنا تنتهي الروايةُ.