ط
مسابقة القصة

ملخص رواية : لعنة الرقم خمسة عشر . مسابقة الرواية بقلم / حكيمة جمانة جريبيع/ لجزائر

 مشاركة في جنس الروية :    

الأديبة حكيمة جمانة جريبيع/ لجزائر

   djoumana [email protected] الإيميل :

عنوان الملخص: لعنة الرقم خمسة عشر

  توطئة ( يصبح الجمال خطيئة في مجتمع تحركه نزوة الغريزة،تتحمل تداعياتها أنثى ولدت لتعيش دون حياة، لتجد نفسها وجها لوجه أمام أسوار الجمر وهي لا تعي جريرتها وتدفع من عمرها ضريبة على ذنب لم تقترفه. )   

  

                               لعنة الرقم خمسة عشر

 

   تساءلت لٍمَ أنا هنا، لم أكن يوما بطلة وطن تؤرق أصحاب الكراسي، ولا امرأة أعمال تخطت القوانين

 لتؤذي اقتصاد بلدها ولا ولا.. كل الأسئلة الممكنة التي تمترستُ وراءها لأحتمي بسؤال واحد عله يكون دافئا حتى يواسيني ثمّ أعيشه ولو كــذبــة تؤنس جرحي النازف هنا..؟!

 لم أكن أومن يوما بالحظ ولا بالأرقام التي تجلب مغانمه حتى اللحظة التي وجدتني فيها قبالة الرقم ( 15)  اغتلت بداخلي أحاسيس مبهمة غامضة تتجاذبني يسرة و يمنة تتحدى قلبي الكسير بملء فيها ( رقم حظ العاثر خمسة عشر، ابشري ياسيدة البهاء، يا سيدة المقامات الرفيعة، افتحي عينيك جيدا..ألا تبصرين..؟!)

  يطفو الهاجس على سطح واقعي كأنّه غواص خارج لتوّه من العمق، يحمل أحجاره ودرره بكل ثقة وثبات.. يؤكد لي أكثر يصفعني بالحقيقة وأنا أحاول الانفلات من قبضته.. أدفن رأسي تحت البطانية النتنة

أدفنها بين ذراعيّ.. عبثا أحاول، لا جدوى لامناص من الهروب.

   ها أنا ذا في سجن النساء، رقم الزنزانة خمسة عشر، من أشهر قليلة ألقوا بي هنا كــومـة بــاردة؛ مجـّرد جــسد ذابـل هجره الوهج وأنطفأ بتفاصيله الأخرى.

  وها أنـا اليوم عارية من كـل شيء أيضا، مسلـوبة الدفء يظللني الإحباط، وحــده ساخـن يثقل كاهـلي بمرارته اللاذعة التي حلّتْ محلّ دمي الذي أجمع الأطباء على أنّني أفتقر إليه بسب قوام منحوت كان قد كلّفني ضريبة لا يعرف مذاقها ولا كلفتها إلا من شرب من كأسي بحجمها ولونها.. كم أجتهدت لأكون دمية جاهزة محنطة على مقاس ارتضوه لجيوبهم ولأرصدة ثقيلة بالأصفار يصعب علي قراءتها أم من اليمين أم من اليسار.. أنا من اكتفيتُ طول حياتي بقراءة رقم خمسة عشر فقط الذي لم ينجُ من عاصفة التغيير التي لفتني ولا من فقر الدم الذي أصبتُ به من جرّاء وجبات الحمية التي امتصته، بعدما جادت علي بقوام دمى باربي الذي يبهر الأعين ..كيف تقوى الدمية على تحمل قسوة المكان على القذارة التي تنبعث من الجدران   والأرضية و البطانية التي صار لونها رماديا وانا اتفحص نهايتها لمحت خيوطا زهرية أيقنت أنّها كانت بلون زهري ولكثرة ما علق بها ضارت بلا لون واضح أقرب إلى رمادي تماما كحظي الكاذب لبضعة سنوات ليستحيل إلى سواد جرفني إلى زنزانة نتنة

   باب الزنزانة موصد بأقفال صلدة موصولة بسلسلة من حديد،أنا الوديعة الهشّة من يخشى الحرير ملمسها،

 يخشاها الآن الحديد ويحتاط من جسدها حتى لا يفلت منه بطش أوعدوان، لا أعرف ولا أذكــر أنّه كانت لي يوما قوّة ؛ أنا من يرعبها خفق جناحي عصفور، أنا من تهتز روحها لدمعة طفــل وتـتلوى لانكسار جــائع أو مظلوم.. انا من تهتز روحها لقطف وردة من بستان، يفرحها فقط بقاؤها بين جنباته من فوقها شمس تغذي البتلات، يمدّها صبح زاهي بأزكى ندى.. كان ينبغي أن أكون مثلها في بستاني الذي يليق بشذاي، يسقيني بطلّ الحياة لكن جدبها امتد بقوة اقتلعني من عائلة كنت أعيش تحت سقفها بالقدر الذي أتيح لها من محبة.

أكثر شخص كان يمدني بها هي أمي المغلوبة على أمرها، تعطي أكثر مما تأخذ، تضحي أكثر دون أن تنتظر  كلمة شكر من أي كان من افراد عائلتي، كثيرا ما كنتُ أراها تـُداري دمعها في صمت و تكتفي بابتسامة عريضة تختزل حياة  بكل تفاصيلها لأجلنا فقط  كي نركض كما العصافير و ننطلق وتبقى هي أسيرة الأعراف و المباح و المحظور.   

من أنا؛ لا أعـرفني اليوم..رسموني ببشاعة، عرضوا صورتي الأخرى صورة المجرمة وصدقها الناس، لم يخطر في بالي أن أوضع في هكذا موقف ظالم قاس .. آه ما أشدّ مرارة الظلم، قُدّر لي أن أتجرع من كؤوسها تباعا دون رحمة يا دعاة الرحمة أين أنتم اليوم، هل تسمعون صرختي، هل تشعرون بوجع الطعنات المتتابعة التي لم ترحمني من زمن يعيد و ما تزال تتبعني كأني غريمتها ..اعتقيني لقد مللت لقد جننتُ.. وحدي المظلومة أجترّ سرّي في صمت..  هل من قلب رحيم هل من صدر عادل يحتوي الوجعي ويغسلني من كل الدرن..

    باب الزنزانة خمسة عشر؛ يا لـه من قــدر.. رقم خمسة عشر طاردني وما يــزال، سرق أنوثتي سلبني

 كرامة الحياة، خمس عشرة جمرة أشعلت ثورة العشيرة على أنوثة طفلة. 

   أقفال الباب تعزف نوتة الصباح و تراوغ قلبي، فكلما سمعتُ له صريرا انتفض له من موضعه انتفاضة

من يسابق الزمن ليس مخافة من الموت بل أنّني أستجدي الباب مهلة لأجل توبة قبل لقاء الله.. مثلي لم يعد أمامه غير أيام معدودات.. هل يغفر لي الله ما اقترفت ..لا لا لم أذنب هم السبب، هم من أوصلوني إلى هنا

 لم يرحموا ضعفي يا إلهي لم يكن أمامي خيار آخر، كانوا كلهم صقورا وضعتني الظروف في طريقهم فلم يفوتوا الفرصة أبدا..

 صرير انفتاحه على يد السجانة البدينة يحبس أنفاسي، و يهرّبها إلى عالم هلامي بلا معالــم، ربما اللحظــة

الحاسمة قد أتتْ، ولم أتهيّأ لها بعد.. ينفتح الباب بلا تشفير، يا ليتهم وجدوا شفرة لقلبي لئلا يهتز دون سبب  وينفتح مكشوفا كالتهمة، و تلج صباحي الرمادي امرأة منمقة بفرح قزحي، تجلس قبالــتي، تعرض بهجتها الجلية في هندامها المنسق في حقيبة يدها في شعرها المتماوج البني كقهوة الصباح التي حرمت منها.. تقرأني من كـلّ الجهات كما خبيرة آثار تتفحص تحفة مهرّبة تتبيّن زيفها من أصلها، تحدقني من أعلى حتى أخمس قدميّ العاريتين، نسيت أنّهما كذلك بعدما اعتادتا أجود الأحذية الباريسية والإيطالية والمحلية، أصابعهما تحتفظ ببعض النعومة والطلاء الزهري اللذين يشيان بمسافة الحرير التي زرعــتْ على جـوانبها مسامير صـدئة أوصلتني إلى هنا..

 تفرد سيدة الصباح أوراقها، ونهم السؤال من لسانها يفتك  من حلقي الكلام  المختبئ في أدراج الحزن:

   ( – ما سمك ؟

     _ نجاة 

     _ كم عمرك ..؟

     _ خمس وعشرون سنة

     _ ما هي تهمتك.. ؟ 

     _  جريمة قتل .

 كان تخصصها الاجتماعي يملي عليها ملء الأوراق وكذا اقتناص الكامن في أغواري بأجوبة ولو كـانت

كاذبة ؛ المهم كلام كثير تفرغه على البياض لاستكمال مهمة أعتقد أنها لن تكتمل بسهولة.

  شدّني قلمها اللامع بين سبابتها و إبهامها المَرمريْن، فأبحرتُ في الماضي وسرحـتُ في الزمن بلا شراع،

وخفقتْ بصدري حمامة مطعونة في جنبها الأيسر، كم تمنيتُ أن يكون لي قـلم بهذه المواصفات..صغير حاد

ولامع كالسيف لكن هيهات.. مثلي قُدّر له أن يحمل جمرات من علب الزينة، وأطنان من الألبسة التي أسدلُها أسبوعيا على هيكلي ( الموديل) لتقبل فيما بعد الثريات والنجمات لاقتنائها، كان لزاما على أصابعي أن تحمل قلم كحل لرسم عينين مطفأتين وإعادة بعض البريق الكاذب إليهما لاسيما بعد بكاء يستحثه ظلم وقسوة أولئك الذين يتحكمون في اللقمة، جبروت الذين يفرضون علي الحمية و امتصوا دمي.. ووضعوا في يدي أقلام حمرة شفاه و أقلام رسم الحواجب بدل قلم حبر يكتب الحقيقة على ورق أبيض يرشد الناس، يطالب بحق الفتيات المستضعفات وأطفال الشوارع و شيوخ الأرصفة .. آه لو حملتُ قلما كنتُ سأنقذ أبناء و بنات قريتي

وأشعل لهم شموع الطريق ليهتدوا إلى سبل النجاة..

 هكذا يوقظ قلمها الجميل لوعة الروح و يشعل فتيل الجرح، حتى أشعر بألم في يدي اليمنى كأنها تلومني على خيانتي لها، أو على بخلي في مداواتها بما تريد.. ألهج بمرارة ( عودي إلى وضعك الأول، لم تخلقي لأجله، إن كان الحلم يؤلمك لا تتخطي واقعك لن تجني غير الشوك متأكدة هو الذي كان يخزك من قليل فلا تطمعي فيما هو ليس لك انسي، قدرك علبة ألوان ومساحيق مائعة تستهوي جياع الجسد )

  وابل من أسئلة يسقط فوق رأسي ولسان الأخصائية الجائع، يتحالفان كلاهما على جرحي؛ ليتها كانت أسئلة حق، ليتها أسئلة تنصرني و تنتشلني من مستنقع الظلم، الـلعـنة على الشعارات والكلام المدبّج الذي يقرؤونه في الندوات و يرددونه على المنابر حول حقوق المرأة والمساواة.. أين الحقيقة منه ؟

  ويسقط على صدري سؤال حارق كسوط السجينة البدينة التي جلدتني البارحة بعدما رفضتُ الأكل الذي لا

يشبه أيّ أكـل، حملَتـني على التهامه و حملتني معدتي على إرجاعه ؛  يا لها من مفارقة عجيبة..

  سؤال نتن كأكل البارحة تقريبا وهي تفرغه على أذنيّ ( هــل كانت لك مغامرات عاطفية ؟ )

   أسـرحُ، أهيمُ في الزمن البعيد وأنا أتأمل قلمها الجميل المغري بالحلم، يقفز جرحي من تلافيف الذاكـرة وهو يلامــس إصبعي الذي ما فتئ يضغط أكثر على قلبي.

 لقد حرموني من القلم لأنّني أنثى، سلبوني حريتي لأنّني أنثى، فيوم تحصلتُ على الشهادة الابتدائية، تلقيتُ

هدايا جميلة قنينات عطور و إكسسوارات، لكن هدية والدي كانت مختلفة و صادمة.. فقيد القبيلة و سلطة العـرف التي يحملها في جيناته الذكورية أملتْ عليه حكمها؛ سمعته يحدّث أمّي المغلوبة على أمـرها: ( والآن لا دراسة بعد اليوم.. لقد كبرت البنت، انظري جيدا إلى جسد ابنتك ! )

 لم تنبس ببنت شفة واستسلمت الـكسيرة لقراره الجائر،حاولتْ التودد إليه بكل ما أوتيت من حلو العشرة     ومرّها ، ومن جهتي تحـايـلتُ على نفسي وارتديتُ ملابس ذكورية، قصصت جديلتي الطويلتين، ضغطتُ على صدري بقطعة قماش لففتها عليه حتى لا يظهر نهداي الصغيران ..فعلتُ كلّ شيء لكن دون جدوى.. وهجرني حلم القلم، وجنتْ عليّ أنوثتي التي نضجت في غير موسمها وأينعتْ ثمارها في فصل غير فصلها، هكذا أقيمُ إقامة جبرية في منفى أنوثـتي، أصارع السـأم بكذبة قد تاتي من الباب أو يحملها إليّ القدر، أقــرأ يوميا خوف والدي من عينيه الزائغتين،أسمع جملته التي  أملتها عليه ثقافته الشعبية التي لم أكن لأفهمها آنذاك ( الأنثى في البيت قنبلة موقوتة )،أدركتُ فيما بعد أنّني كنت حربه الأولى التي لا سلاح لي فيها.. كم مؤلم جدا أن يرى أهل القرية اكتمال الأنوثة حربا وهم يحتاطون لها بكل ما أوتيوا من حيل ومكر.

  كان يراني قنبلة صغيرة متحركة، لا أحـد يعلم ميعاد انفجارها..العار، الشرف من شظاياها، وكم كـان جمالي يُخيفه بالرغم أنّني ما أزال طفلة ؛ فيتفق مع عـمي ليزوّجني من ابنه لمّا أبلغ الخامسة عـشر و يؤّمـن نفسه

من القنبلة،ويداخله بعض الإطمئنان فيهدأ قليلا، و ظلّ يترقب العامين بلهفة بحّار، يلاحق حلم الكنز في جزيرة مجهولة..

    تتفحصني الأخصائية بعيون خبيرة الآثار، يلفني الخيال بلحاف الماضي فأخالني تحفة أو مومياء من زمن

فرعوني، و الكثير يدفعه الفضول إلى استقراء تفاصيلها واستكشاف سرها الكامن في أدراج الحزن المرتبة باحكام في خزينة الروح المتأهبة دوما لنفض محتواها.. كأنها أمام ربة منزل تعيد ترتيب أثاثها في موسم العيد. 

  تخرج الأجوبة من حلقي مقتضبة منقوصة لبرودة أسئلتها، ولافتقارها لنبض الحياة، وحـده القلم الذي بين

سبابتها و إبهامها ثـري و مغري كالحبّ الأفلاطوني وهــو يقـلّب أوراق زمني الزاحـف من مغـاوره الـتليدة.

  حلقي استحال إلى واحة جفّتْ جداولها، يجول فيها شبح أو سرب يغـري بقطـرات الحياة حينا ويختفي حينا آخـر لأركض خلفه وهو منتشٍ لركضي الذي سينتهي بسقوطي لا محالة.

  كم أنا عطشى إلى السلام و إلى الماء أيضا، لكنّني كرهـت الماء، يذكـرني بخطيئة لم أقترفها، حتى الماء لم يرحمني ظلمني هو الآخر ذكرني برقـم خمسة عشر وبحلم الخمسة عشر الذي ترقبه والدي، وكيف سرقه منه القدر حتى أنّه لم يمهلني لأتمّها كاملـة غير منقوصة.

  في تلك الظهيرة الساخنة، ذهبتُ إلى شلال القرية ،أملأُ الجرّة حينا وأفرغ منها حينا آخر على رأسي وأوغل

قـدميّ في سبائك الماء.. انكشف ساقاي البيضاوان الممتلئان، لم أنتبه أمام لذّة الماء التي خدرتني بينما كان

هو خلف الصخرة يرقبني، أ تعرفون من هو.. إنّه هو ينعتونه بالشيخ معرفة لا عمرا، شيخ بما حصله من معرفة تاريخية ولغوية في الثلاثين من عمره أنذاك،  كان والدي قـد أخذني إليه وأنا في السادسة من عمري ليحفّظني بعض السور ويعلّمني المبادئ الأولى للغة الضاد..؟!

 هاهـو ينقضّ عليّ كذئب جائع.. وأعود إلى بيتنا بلا مـاء، بلا معنى، بلا نـدى وبلا رائحة، لم أتبيّن ما لـذي

سرقه منّي بالضبط لكنّني شعرتُ أنّه أخذ شيئا معه وترك لي وجعا أبديا.

 أعلمتُ والدتي ؛ لطمت وجهها، جذبت شعرها، و انكسر حلم والدي وتعفّر شرف العشيرة، وفكرة تزويجي

من ابن عمي لم تعد مدرجة في مفكرته، و تبخر فجأة  ما خطه لي على  ماء الشلال الغادر.

   كنتُ أتوّقع أنّ والدي وعشيرتي سيثأران لي من الجاني لكن كلّ هـذا لم يحـدث إطلاقا، بل أنّهم اتفـقوا على

 قـتلي، أنا الضحية في أعينهم صرتُ مذنبة وهكذا أموت مرتين..على يد الشيخ الشاب و بحكم  قاس من العشيرة التي عميت عن الحق و جرفها العرف البائد إلى مستنقع عفن أدمى روحي و أوصلني إلى الضياع.

  وتحينُ اللحظة الحاسمة، و يحين الموت  يقتربُ منّي أكثر وتساءلتُ يومها.. كيف أموت؛ أ بطلقة رصاصة أم بجـرّة خنجـر أم  بخنقة حبل أم …؟!

  تخيّلتُ كلّ وسائل القتل التي أعرفها ولا أعرفها وأخرى شرحتها لي أمّي الصامدة.. وتعجبتٌ كيف يقوى أب على قتل فلذة كبده وهو موقن كل اليقين أنها ضحية، كيف يطاوعه قلبه و يقتلع منها الحياة و يواريها التراب بيديه التي كانت تمسح وجهها و تداعبه ذات عمر هارب،  يقتربُ الموت والعدّ التنازلي بدا انّه على عجل يسابق ما تبقى من مشاهد أخيرة لصورة طفلة بريئة أينعت في موسم غير موسمها و في تربة ترفض شتلتها..

   تحفّزني أمي على الهرب ، وأهرب في أمسية باردة كما برد أسئلة الأخصائية، تقلني دروب القدر إلى

مصيري المجهول و أنا لم أتخط عتبة الطفولة، وأنـا في منفى أنـوثة لم تـرحمني ولم أرحَم لأجلها، ولــم

تشفع لي طفولتي عندهم.

   هاهي الأخصائية المغناج تحاصرني بأسئلة الملح، هي لم تفتك منّي أجوبة وافية، كان عليها أن تسألني

من جنى عليك ومن قتلك ؟!

 فأنا لم أكن جانية هم من جنوا عليّ ، كما جنت عليّ أنوثتي أيضا..

  قالت :  ( كيف قتلتِه ؟ )

   أدركتُ أنها سطحية قاسية مثلهم، لا تحفر في الكلام .. ولا في الروح  لترى الجرح المصقول على عذابات  بني البشر.

 أجبتها :

     _دفعتُهُ، فسقط حتى أنّه قام بعد لحظات قليلة فقط ليعدل بدلته المنكمشة بينما  أنا انصرفتُ لأصوّر إعلانا عن منتوج تجميلي جـديـد لشركة تعاقدتُ معها مؤخرا.

     _ لماذا دفعتيه بكل قواك ؟

    _ لأنّـــهُ.. ( ولم أكمل كلامي )

_لماذا دفعـتِهِ ..؟ ( كررتها بلهجة حادة )

    _ لأنّه طلب منّي شيئا مخلا بالحياء بعدما اشتكاني إليه أحد عملائه، فرفضت أن أكون بقرة لقد سـئـمتُ.

وأعود إلى أوراق زمني التي لم تجف؛ وحدي أنا من جفتْ.. أوراق خضراء تنقل الواقع بالألوان كأنها حدثتْ

 لتوّها،غريب يا زمن ؟!

وبعدما فررتُ من القرية أمضيتُ عاما على الأرصفة، متسوّلة على أبواب المساجد حتى جاء ذاك اليوم الذي

 رأني فيه، كان يبدو طييا وائتمنته لم يكن أمامي خيارا آخـر.. وقلتُ في قرارة  نفسي لابـد أن أجــرّبَ بعدما

خسـرتُ كل شيء وليس لدي ما أخسره الآن؛ اقتادني إلى دار رعـاية الأطفال ؛ وكم حمدتُ الله على نـعـمته،

  وكان يتردد عليّ من حين لأخر، يشتري بعض الألعاب و الهدايا في الأعياد خاصة، ولم أكن أعرف أنّني مجرد مشروع عنوانه ثماني عشرة سنة، كان ينتظر أن أبلغها ليكمل صفقته وكنتُ أجهلُ تماما ما يدور في رأسه.   

  وبلغتُ ثماني عشرة سنة وأخرجني من الدار وغمرتني آياديه الرمادية، وعملتُ عـارضـة في دار أزيـائه

الجديدة وصرتُ وجها معروفا و شخصية مشهورة وتعرفتُ على وجهاء وسياسيين ورجالات دولة ونماذج

بشرية مختلفة ومتفاوتة.

  أنا من ارتقتْ في سلم الحياة؛ من هاربة من الموت ثم  متسوّلة إلى مشهورة فجانيةٌ لم تقـترف أيّ جـُرم..

كان السيد المحترم يبيعني كلّ ليلة لوجهاء وأعيان،وعندما عرف قلبي الحبّ الحقيقي، سمعوا خفقه و أوشوا

 به، وفي صمت مباغت اختفى من سميته طبيبي وحبيبي من الوجود.. بحثتُ عنه كثيرا ولم أجده حتى اللحظة، كنتُ أعرف أولئك الذين يطلّون على الناس من الشاشات ببدلات فاخرة وربطات عنق تخنق الشعب أكثر مما تزيّن قمصانهم، كل ليلة أراهم كالبهائم ؛ بلا عقل وبلا شعور مخمورين مبتلة سراويلهم..

 أعرف نقاط ضعفهم،أعرف كيف يلوكون ألسنتهم بخطاباتهم المنمقة ليمتصوا دماء الكادحين بالوعود الكاذبة

وصكوك الغفران، تساءلتُ ذات مرّة هل أنا كادحة مثل شعبي أم أنّني خلعتُ جلدي وخلفتُهُ عند صخرة الشلال

 ولبستُ جلـد الأفـعـى وصرتُ من طينتهم .. جـرحي مفتوح ؛ قيحه ودمه يلامسان الضمير فيفـتر صوتــه.

    يتعب الكلام من الركض على سطور بياضها، وانحناءة قلمها الفاخر أوحـتْ لي أنّها تحييني تحية أخيرة ،

أبتسم لها ، أستسلمُ لقدري ولهبة الأيام المقبلـة..

خرجتْ لتخلّفني وحيدة في الزنزانة رقم خمسة عشر، لا شيء غـير ذاكرة متوهجة تطـلق حممها على عينيّ

 وقلبي وحقيقة باردة أعـرفها وحـدي و جسد جـميل أتعبتني ثماره اليانعة بروح تعاف أفواه الجوعى الفاغرة

 إلى قطافه. جمرات من انتظار قد يطول فيها عمر المحاكمة، تحرقني في أيامي الآتية.. ربما ينصفني الزمن وتوهب لي حياة ثانية

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى