مسابقة مهرجان همسة الدولي للآداب والفنون 2025
فرع الأدب / الرواية الطويلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسم الكاتب: زيزيت زكي محمد متولي
البلد: مصر
اسم الشهرة: زيزيت سالم
اسم الرواية: ” نساء نبيلة “
الهاتف: 01557542098
واتساب: 01002865066
صفحة فيسبوك:
الإيميل:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تتكلم رواية “نساء نبيلة” عن العنف الجسدي والنفسي وعن المحاولة المستمرة لتبريره من جهة والسعي لمقاومته من جهة أخرى.
تحكي عن ثقل أن يكون لديك ضمير، عن صعوبة أن تكون رحيما ومشقة أن تكون ناجيا، أحداث مؤلمة عن الحاضر الذي يكتبه الماضي من خلال ذاكرة مشوشة، حيث تنتظرك نبيلة لتحكي لك حكايتها شديدة الخصوصية.
تكشف الرواية أيضا عن جدلية المصائر، هل تختارنا مصائرنا أم نحن من نختارها؟ وهل يمكننا الهروب من الأحداث الحزينة والبدء من جديد؟ وهل جوائز السماء تنهال على الصابرين أم تختار لنا الأقدار نفس المصير مهما تغيرت الظروف والأشخاص؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والآن لا تتذكرين سوى حياتين فقط، لكل حياة وقتها، لا تدركين على وجه اليقين متى بدأتِ تدوين ما تذكرينه، تعرفين أنها كانت أحداثًا مؤلمة حين وقعت، وأكثر إيلامًا في ليالي الأرق التي أعقبتها، ربما اختلط عليكِ الأمر، فقد تولّد لديكِ انطباع أنكِ عشتِ هذه اللحظة من قبل، تشعرين بمسار الأحداث وكأنها حدثت بالأمس، بأحاسيس الحكايات تتكرر، تشاهدينها تطفو فوق سطح الذاكرة كالزَّبَد فوق مياه البحر، أحاسيس الألم والفشل والخيبة، فيسري في جوفك خوفٌ غامض كدبيب نمل يزحف على جسدك، يشلُّ عقلك وتفكيرك، ولكنْ شيءٌ ما يبقى، تناضلين لتنسجيه بخيوط متينة حتى لا يصبح كخيوط العنكبوت.
***
الحياةُ الأولى
****
هناك رأيتِه، شاب وسيم يشير إليكِ من شرفة البيت المُقام على قطعة الأرض المقابلة لكم، لكنكِ لم تعيريه انتباهًا، فقد ظننته يهتم بقريبتك التي ترافقك.
******
أشاح أمجد بوجهه عنكِ بعد أن رآكِ تبكين وقبض على يدكِ وسار بكِ إلى المكان الذي اعتاد اختياره، لم تحاولي التملص من قبضته حتى وصلتما إلى مطعم صغير بجوار الجامعة غير مألوف للطلبة، يعزمك فيه أغلب المرات على شطائر، يختار لكِ نوعية الشطائر دون أن يسألك عن رأيك.
******
سِرتِ في ممرات المطار المضيئة ترين مستقبلك القادم بآماله وطموحاته، ترين أطفالَا صغار يلتقطون ذيل فستانك الوهمي ويحومون حولك كفراشات الضوء، أربعة أطفال، في نيتك أن تنجبي أربعة أطفال، ولدان وبنتان.
صار المسافرون يقبلون على نداء الطائرة ويتجمعون حول بوابة الخروج، يفسحون لكِ الطريق ويبتسمون، ثم بدأ بعضهم بالتصفيق وهمسات تدور “عروس جديدة” وكأنهم يزفونكِ إلى عالمك الجديد الملآن بأمنيات حالمة بتكوين أسرة جميلة وبدء حياة سعيدة.
******
وقفتِ في وسطها وفركتِ عينيكِ الجافتين بظهر يديكِ، استمررتِ في ذلك حتى باتت عيناكِ محمرتين وملتهبتين، نعم، كانت بدروم العمارة بالفعل، بدرومًا لا يدخله الشمس، مكونًا من حجرتين صغيرتين ومطبخ ضيق وحمام وصالة صغيرة مفروشة بأثاث متهالك، الشقة ليس بها مكيِّف واحد، إلا من مروحة وحيدة تنتقل معكما من حجرة النوم إلى الصالة وهكذا، وتليفزيون صغير وثلاجة فارغة من الطعام على الدوام، فعرفتِ أن أيامًا سوداء تنتظرك كلون العباءة التي ارتديتِها.
فوجئتِ بها عند دخولها الشقة بصوت شهقتها المعروفة حين تستهجن شيئًا، خبطت على صدرها ونظرت إلى أمجد نظرات نارية قائلة:
– يا عيب الشوم! أمك يا أمجد سترضى لها أن تعيش في شقة الميتين هذه؟! هذه مقبرة يا ابني! أنا رخيصة عندك لهذه الدرجة؟!
أخذتِ تلطمين وجهك وأنتِ في حالة هياج:
-ـ يا وكستك يا نبيلة! ماذا أقول لأهلي وأنا أخفي عليهم حالي؟ أمك رفضت أن تعيش في الشقة وأنا رضيت؟ أنا غبية.. أنا أستأهل..
******
تعرفتِ إلى جارتك أهداب الفلسطينية منذ اليوم الأول من وصولك إلى المسكن الجديد، تحكي لكِ عن عائلتها وإخوتها المبعثرين في أنحاء العالم يحملون الصبر والأمل بالعودة؛ والداها مهاجران من حيفا عام 1948، نزحا مع النازحين إلى الأردن، بسبب المباغتة وهول الأحداث تاه منهما أخوها الصغير الذي تجاوز السنتين بقليل ولم يخرج معهما، حاول أبوها الحصول على تصريح لم الشمل عن طريق الصليب الأحمر بكافة الوسائل ليدخل حيفا ويبحث عن ابنه الصغير، وعندما لم يستطِع غامر بالعودة تسللًا عن طريق مساعدة بعض أصدقائه الذين لم تسمح ظروفهم بالخروج، ومن وقتها لم يعُد، فقد عرف أن ابنه أخذته عائلة يهودية لتربيه، وبسبب ضياع بعض أوراقه الثبوتية من أبيها، لم يستطِع أن يطالب به؛ لذا فضَّل أن ينضم إلى المقاومة ليظل بالقرب منه، ربما استطاع أن يعيده إلى أحضانه يومًا ما.
أخبرتكِ إنها تعلِّم تلاميذها الصغار في المدرسة أن جسر الأردن له عدة أسماء؛ في الأردن يسمونه جسر الملك، والفلسطينيون يسمونه جسر الكرامة، وسائقو الباصات والتاكسيات يطلقون عليه جسر اللنبي، أما هي وأهلها فيسمونه جسر العودة.
قالت لكِ أهداب:
تعرفين بالطبع أنني حامل في شهري السابع، وأتمنى أن أضع مولودي الأول في حضرة أسرتي، سأختار اسم أبي للمولود إن كان صبيًّا، واسم أم زوجي إن كانت صبيَّة، أريد أن أنجب اثني عشر ولدًا وبنتًا، لكنهم سيولدون غرباء في المنفى، لن يعرفوا شيئًا عن وطنهم وعاداته وتقاليده.
سأخبرهم عن الحقول ومزارع الزيتون وأشجار التين وعيون الماء وحقول اللوز والشعاب والجبال، فأشجار الزيتون هي مصدر حياتنا؛ الزيتون لم يكُن ينبت في التراب فقط، إنما ينبت أيضًا في قلوبنا، كنا نقتات عليه طوال العام، سأحكي لهم عن قصصنا المتوارثة من جيل إلى جيل، صحيح أنها تتغير وتتبدل، لكن جذورها ثابتة في ذاكرتنا لا تتزحزح عن مكانها كجذور أشجار الزيتون العتيقة، ليتني أعرف عن أبناء عمومتي وأبناء أخوالي، فقد توزعوا بين المعتقلات وسجلات الشهداء ومواطن الأرزاق في البلدان المختلفة.
******
هجم عليكِ أمجد ودفعكِ على السرير وبرك فوقك وانهال ضربًا على وجهك، استجمعتِ قواكِ وبدأتِ تدفعيه عنكِ وتوجِّهين له لكمات في صدره، قام عنكِ مجبرًا بعد أن بدأتِ تنبشين وجهه بأظافرك، بصق بجانبك على السرير ثم رمى عليكِ يمين الطلاق.
جررتِ نفسكِ إلى الحمام، ارتطم تيار ماء الصنبور البارد بوجهك المتورم، تزيلين بعض الدماء التي انسابت من زاوية فمك، تناولتِ قُرصَي مسكن من دولاب الأدوية الصغير الموجود بالحمام، وألقيتِ بجسدك المنهك على السرير، لا تدرين كم من الوقت مرَّ وأنتِ مستغرقة في النوم، لكنكِ استيقظتِ وهو يحاول ممارسة الحب معكِ، فقاومتِه وامتنعتِ عنه بشدة، لكن خارت قواكِ من المعركة السابقة فلم تقوي على مزيدٍ من العراك، تركتِ جسدك له كلوحٍ من الخشب، ولما انتهى منكِ قال:
– لقد رددتُكِ الآن، قومي لأحضر لكِ هدية حلوة، أمي مصرة، لكي تعرفي ماذا تفعل معكِ وماذا تفعلين أنتِ
*****
صاح بغضب ممسكًا بقبضة يديه القويتين ذراعك:
– ألف عين تبكي وعين أمي لا، أتفهمين؟
ثم دفعكِ على الأرض فارتطم رأسكِ بحافة المنضدة، لم يهتم، غادر وصفق الباب خلفه بشدة، انساب خيطُ رفيع من الدماء على وجهك، تتألمين من شدة الوجع ويلفحك الهوان بسياطه الباردة، ترتجفين من صوت بكائك العالي ونهنهتك الممزقة، تحاولين النهوض متحاملةً على نفسك ومتجهةً نحو باب شقتك.
أدرتِ مقبض الباب بصعوبة واتكأتِ على الجدران إلى أن وصلتِ إلى شقة جارتك وطرقتِ الباب، مجرد أن فتَحَتْه سقطتِ فوق عتبتها مغشيَّا عليكِ.
حاولت جارتك إفاقتك حتى عدتِ إلى وعيك وانتبهتِ إليها، ساعدتكِ على النهوض وأجلستكِ على مقعد، نظرتِ بعينين زائغتين إلى محتويات شقتها.
وبأنامل مرتعشة أمسكتِ بالهاتف وصوتك يتهدج بالبكاء:
– سيرسلني لكم جثةً في صندوق، أنجديني يا أمي.
******
يطاردك احساس بأن حياتك ما هي إلا كابوس، عندما تتأملين الحدود الضيقة التي حبستِ نفسك داخلها، وكيف تتبدد طاقتك في سبيل الحصول على الكفاف من الضروريات الجسدية والنفسية التي لا غاية من ورائها سوى اطالة حياتك التعسة، وكل ما تحصلين عليه لا يفضي إلا إلى استسلام سلبي، حينما تتأملين هذا كله، تلوذين بالصمت.
قام أمجد من مكانه مضطربًا، فأسرعت أمه تتصنَّع البكاء، مشى خطوات نحوك، فراحت تبكي بصوتٍ عالٍ، مددتِ يدك تجاهه تستعطفينه فأخذت تندب حظها في أولادها، تراجع متجهًا إليها وأشاح بوجهه عنكِ، فاستشطتِ غضبًا.
انهال عليكِ بالصفعات واللكمات حتى نزف أنفك، سرَت قشعريرة في جسدك المرتعش كما في المرات السابقة، كنتِ منشغلة بالزحف إلى الخلف لتفادي ضرباته الموجعة، زادت كبريائك وعدم صراخك فزاد من عنفه، اهتزت أمام عينيكِ ملامحه القاسية وضاق تنفسك كما لو أن كرة من النار انغرزت في أحشائك.
*******
رفعتِ رأسك مفزوعة، تحدقين ببلاهة إلى شعاع من الضوء اقتحم زجاج الشرفة، معلنًا قدرته على قهر أي عوائق تحول دون دخوله إلى الصالة، بينما تعجزين عن قهر عجزك ومقاومة مَن تركوكِ بالمنزل يومين وحدك وأغلقوا الشقة بالمفتاح من الخارج، سمعتِ صوت زقزقة عصافير تمرح على الأشجار، صوتها الذي لم تسمعيه قبل الآن، لا تدرين لماذا كنتِ غافلة عنه! سمعتِه وأنتِ ملقاة على الأريكة ممسكة بطنك التي تتلوي من مغص يأتي ويروح، مصوبة عينكِ نحو باب الشقة الذي لم تريه يُفتح منذ يومين، صار لديكِ الكثير من الوقت للتفكير، متألمة من الجوع ومن الرعب الذي تملَّكك إن متِّ وحيدة، فالتفكير الكثير أسوأ من الموت، التفكير مؤلم، ومعرفة حقائق الأمور مؤلمة، احساسك بقهرك من خجلك الذي منعك أن تخرجي إلى الشرفة وتصيحي كي ينجدك أحد خوفًا من الفضيحة، ولا تدرين من أي فضيحة كنتِ تخافين!
سمعتِ صوت المفتاح يدور في الباب ورأيتِه يدخل وينظر لكِ وأنتِ ملقاة على الأريكة، كان وجهك شديد الشحوب ملطخ بكدمات زرقاء، وعينكِ اليسرى مغلقة من شدة التورم، ونفسك خامد كأنكِ في عداد الأموات. سرَت تشنجات في عضلات خديكِ فأخذ يهزك فلم تستجيبي، ارتعب وحملك إلى المستشفى.
سُمِح بخروجك من المشفى على الرغم من أن جسدك لم يحظَ بوقتٍ كافٍ للالتئام، عُدتما إلى البيت في اليوم التالي ومازال خدك الأيسر متورمًا ويضغط على أسفل عينيكِ اليسرى، بحيث تعجزين عن فتحها بشكل طبيعي.
******
في المطار، وأنتِ تخفين عينيكِ بنظارة شمسية، وتلفين وشاحًا حول الجزء السفلي من وجهك، مشيتِ واعية بالضغط الطفيف الذي يفرضه الوشاح على خدك المتورم، يعيق الوشاح تنفسك، ومع هذا واصلتِ المشي. تحضنين نفسك وتذوبين في احساس بالحسرة لا حد له، يرافقك احساس آخر بالانتصار حيث تتحرك المشاعر مع بعضها حرة، لدرجة أنكِ عانقتِ نفسك ببطء وثقة كانسان لديه سر غريب وحركات دائمة من التذكر، ومسافات انطوت لتعلن نهاية الطريق.
كانت صالة الانتظار خالية إلى حدٍ ما، اشتد عنفوان البرق الذي كان يلوح منذ برهة خلف الحاجز الزجاجي، ثم سمعتِ الرعد، علا صوته فوق صوت السيدة التي توجه المسافرين لأرقام بوابات الوصول والمغادرة، أصابك الذهر من احساسك الصادم به، لدرجة أن وضعتِ أصابعكِ في أذنيكِ.
*****
الحياةُ الثانية
****
عشقها للأطفال جعلها تتخيل حياة كاملة مع طفلها المفقود، تتخيل كيف ستكون ملامحه الآن بعد أن يتم عامه الأول، كيف ستنام وخدها يلامس خده الناعم، كيف ستشعر بروعة إحساسها حين تصحو على ضحكته المبهجة!
كثيرًا ما حدثتها نفسها قائلة:
-ـ من حقك أن تشعري بالانتصار يا نبيلة كما كتبت لكِ ناهد، ناهد التي أوضحت لكِ بصراحة إعجابها بكِ على الرغم ممَّا تسببت فيه من خلافات، لإصرارك على عدم الرضوخ للإهانة والتعسف والظلم، لديكِ أيضا من الشجاعة ما يجعلك فخورًا بنفسك، فقد نجحتِ بضعفك في أن تنالي ما أخفقتِ في أن تناليه بقوتك.
أعاد إليها صوت عصفور صغير، ينقر بمنقاره على زجاج النافذة، الأمل في تحقيق أمنيتها المؤجلة أن تصبح مُدرسة تعلِّم العصافير الصغار وتقضي وقتها معهم تأنس بهم، إلى أن يمنحها الله عصفورها الخاص.
***
لم تتوقع نبيلة أن تعاني في بيت أبيها وأمها كما تعاني الآن؛ فبيت العائلة بمنزلة واحة الأمان لها، لكن معاملة أخيها الأوسط عادل إياها جعلته جحيمًا، ومهما حاول أبوها أن ينهره، فإنه يستمع إليه ويبتعد عنها قليلًا ثم يعود الحال لما كان عليه من شجار وإهانات.
**********
بالفعل، اتفقتا على موعد بعد يومين، وصل شريف في موعده تمامًا وانتظر بجوار باب المدرسة، ورأى هدى ونبيلة تتهيآن للخروج، وعندما أصبحتا خارج حدود المدرسة اتجه نحوهما ومد يده بالسلام إلى نبيلة وابتسم ابتسامة عريضة.
حدث قبول بين شريف ونبيلة منذ اللقاء الأول، وخرجا بعدها عدة مرات، شعرت نبيلة براحة تامة تجاهه عكس ما كانت تظن، حركاته الموزونة وأسلوب كلامه الرصين ووطأة يده الثقيلة، كل هذا جذبها إليه دفعة واحدة، لم يبقَ من شخصيتها القديمة سوى الرماد، أحست بنفسها ضعيفة أمام قوة شخصيته الناضجة.
تلاشت المرأة التي تجرعت يومًا من رجل مرارة الاهانة والتحقير، وتجسدت امرأة سوية تملك من الجسارة والوعي أن تبدأ حياة جديدة.
****
لم يدخر شريف وسعًا في محايلة نبيلة ومحاولة إقناعها بتأجيل زيارة الطبيب، وتحت إصرارها ذهبا معًا إلى طبيب معروف وطلب منهما تحاليل وأشعة، والنتيجة أن كليهما ليس لديه مانع للإنجاب.
لم تتخيل نبيلة يومًا أن يضربها أخوها لأي سبب، في الوقت ذاته فوجئت بشهامة زوجها ورجولته اللتين تيقنت أنها تستطيع أن تعتمد عليهما للأبد، فقد وقر هذا التصرف البطولي في قلبها، وبخاصة بعد أن حاولت أن تشرح لشريف ملابسات الأمر، لكنه رفض أن تسترسل في الكلام وأخبرها أنه يفهم ما حدث ويثق بها.
*****
لم تعلق في البداية على أسلوب شادية، مفترضةً حسن النية، إلى أن تطوَّر الأمر، فرضت نفسها وزوجها وبنتيها على كل سفر يقومان به شريف ونبيلة في الأعياد أو الإجازات الرسمية، تعمدت إحرِاج شريف وطلبت منه بالحاح أن البنتين تشتاقان للسفر مع بابا شريف والاستمتاع بصحبته، فيرقص قلب شريف من السعادة ويحجز لهم في الفندق نفسه بسماحة ورضا ليقضوا معهما الإجازة.
بدأت تستاء وتلفت نظر شريف إلى أن طريقة شادية غير لائقة، فيهوِّن عليها الأمر بأنه أخوه الوحيد ويحب بنتيه كما لو كانتا من صلبه، ويروق له جدًّا أن تنادياه بابا شريف، إلى أن جاء يوم وهم يتناولون العشاء في بيت نبيلة وتأخر بهم الوقت فاقترح عليهم شريف أن يبيتوا ليلتهم عنده، وبخاصة أن الغد إجازة رسمية، فحدث ما لم تتوقعه.
انسحبت شادية غاضبةً إلى الغرفة الأخرى التي سبقها إليها منصور والبنتان وأغلقت الباب، احتارت نبيلة كيف تفسر جرأة شادية، وكيف تتخذ موقفًا حاسمًا يعيد لشريف صوابه؟
*****
ما حدث يوم الجراحة بدا مخيفًا ومؤلمًا، أصر شريف أن يرافقها بنفسه حتى دخلت حجرة العمليات، دخل معها بعد أن ألبسوه ملابس معقمة، وانتظر ممسكًا بيديها إلى أن بدأ المخدر يسري في عروقها، صار صوتها يخفت تدريجيًّا حتى سكن بعدها تمامًا.
أُجريت العملية بنجاح وعادت نبيلة إلى البيت بعد أسبوع استعدادًا لعمل مسحة ذرية لمعرفة نتائج العملية.
مر يومان في انتظار النتيجة، أحست خلالهما بنوبة ألم حادة تجتاح جسدها، آلام مبرحة متواصلة في أسفل ظهرها لم تنتهِ بأقراص المسكنات ولا بالحقن، انتابها إمساك شديد أعقبه نزيف، فأسرع بها شريف إلى المستشفى مرة أخرى، وهناك عرفا من نتيجة المسح أن الورم ظهر في منطقة أخرى من جسدها؛ ورم أكبر من سابقه في المبايض ويحتاج إلى استئصال.
كلما هاجمها الألم تغمض عينيها وكأنها تنفصل عن جسدها شيئا فشيئا لتحاول أن تحلق أبعد ما يكون عن موطن الألم، أصبح لا بُدَّ من الاستعانة بممرضة أو سيدة تساعدها على العناية بشؤونها الشخصية وتُناولها الأدوية في مواعيدها، تعتني بشؤون البيت واعداد الطعام، وخاصة في عدم وجود شريف.
******
أخبرتها سماح عن زوجها الأسطى جابر الذي يعمل على أحد التكاتك التي يمتلكها الحاج عبد القوي صاحب القهوة الكبيرة الموجودة على ناصية شارعهم بحي المرج، وعن تعاطي زوجها الحشيش على سطح منزل أحد أصدقائه بالمنطقة.
قالت لها:
ـ اعتدت أن يضربني جابر كل ليلة تقريبًا بعد ليلة العرس، بلا سبب، ربما لاثبات سيطرته عليَّ، ثم أصبح السبب الرئيسي بعد ذلك أن يأخذ مني أُجرتي التي مهما حاولت أن أخفيها عنه، فإنه يجدها أو يجبرني على منحه إياها بالضرب والإهانة ليصرف على مزاجه في تعاطي الكيف..
استطردت سماح قائلة:
ـ في البداية شعرت بالحزن والإهانة، ثم أُصيبت روحي باللامبالاة، صرت بعد العلقة أرقد على بلاط الحجرة البارد، أسرح ببصري في شقوق السقف وأبكي آلام جسدي وأنظر إلى السماء من بين القضبان المعدنية لنافذتي، حتى أروح في النوم.
أخبرتها عن جارتها أم صابر التي تسمع صراخها في ليالي المساء، فتنتظرها على موقف الميكروباص في الصباح وتطيب خاطرها وتلومها بلطف:
– لماذا تقفين جامدة بلا حراك وتتركينه يكيل لكِ الصفعات يا سماح؟
قالت لها إنها كانت تلوذ بالصمت ولا تجد إجابات عن تساؤلات أم صابر، جل ما تعرفه أنها اعتادت أن ترضى وتستسلم لما يمنحها الله إياها.
******
جاء تقرير الشرطة وتحليلها لما حدث أنه ربما عبثت الصغيرة في كل ما طالته يداها إلى أن وصلَت إلى البوتاجاز المسطح الموضوع فوق المائدة الخشبية الصغيرة، راحت تعبث بمفاتيح الغاز وأعواد الكبريت إلى أن امتلأت الغرفة برائحة الغاز لحظة إشعالها لآخر عود ثقاب بالعلبة، فانفجرت الحجرة وتحولت صغيرتي إلى حفنة رماد تطاير غبارها صاعدًا إلى السماء كأنه يعرف طريقه جيدًا.
حارس المسجد عم مدبولي عرفني من كثرة ترددي على المسجد، كنت أواظب على صلاة الجمعة في الحسين مع جارتي وأصطحب معي صفية، أحَب عم مدبولي صفية الصغيرة وأغدق عليها عطفًا وحنانًا، لذا أشفق عليَّ وقرر أن يدخلني خلسة بعد صلاة العشاء إلى المسجد قبل أن يغلق أبوابه لأبيت فيه ليلتي دون أن يشعر أحد بذلك.
******
نظرت نبيلة إلى الشارع على امتداد بصرها، فرأت أطفالًا يلعبون ويضحكون مع ذويهم، وفجأة أصابتها الدهشة التي تأتي في نهاية حلم يقظة، دهشة تخفف من حمولة القلب المثقل، فقد تجسَّد لها طفلها الذي رسمته من خيالها بالقلم الرصاص على الورق الأبيض في الأمس البعيد، رأته يقف قبالتها أسفل النافذة ينظر إليها مادًا يده نحوها كأنه يناديها، فارتسمت على ملامحها ابتسامة جميلة على الرغم من شحوب وجهها، وحدثتهُ قائلة:
ــ أيمكن ألَّا أذق طعم السعادة معك؟ أو أدركها على حقيقتها، لكن من منا أدرك السعادة على حقيقتها، ما أدركه جيدًا أن كل ما يصيبني لابد وأنني المتسببة به بطريقة ما، لا أدري على وجه التحديد كيف، ربما أدرك ذلك بعد فوات الأوان.
اختارت الكلمات والحجج التي ستقنع بها طبيبها لينهي آلامها، وهي الحجج نفسها التي حاولت اقناع شريف بها ورفض مجرد الانصات إليها، شعرت أنها متعبة نفسيًّا وبدنيًّا، حالة السكون التي انتابتها في تلك اللحظة غير مفهومة، قدرٌ من الإنهاك البدني أصابها نتيجة السكون الذي فرض نفسه عليها، السكون من دون فعل شيء وانتظار ما قد يأتي، أمر أهلكها إلى أقصى الحدود.
**********
أُعجبت به نورا وسألت عنه أباها، فأخبرها أنه موظفًا مجتهدًا وذكيًّا ويوليه ثقته، أبدت رغبتها فيه، فدعاه أبوها إلى قصره الفخم وعرض عليه أن يزوجه ابنته، قَبِل على الفور على الرغم من أنها تكبره بخمس سنوات، فهم جيدًا أن هذا الزواج سيمنحه الجنسية السعودية وسينتقل بين يوم وليلة إلى البيت الكبير الفاخر، بعد أن عيَّنه والدها في منصب مدير عام الشركة، وأصبحت امرأته السعودية من وقتها صاحبة الكلمة العليا، تفعل ما يحلو لها دون اعتراض من جانبه.