مكتب الأردن
د.منال احمد الحسبان
الادكاوي
صباح كل يوم، يأتينا صوته من بعيد، منادياً على بضاعته، بالكاد أستطيع تمييز الكلمة الأخيرة، “الادكاوي”، كانت كافية تماماً لمعرفة البائع وبضاعتة.
أُهرول خارجاً لأنتظر عم أحمد الادكاوي، بائع أم الخلول، أحب أن اشتريها منه طازجة وارخص من السوق، كما أحب رؤيته وهو يقبل القرش ويرفعه إلى جبهته قبل وضعه بحرص في جيب الصديري العتيق الذي يرتديه، يفعلها مع أول زبون فقط، أنظر بعيدا لأطمئن ان أحداًّ لم يوقفه وأنني أول زبائنه، ألمحه يمشي وحيدا على الطريق الأسفلتي الفاصل بين نهر النيل والحقول الزراعية والموصّل لمحطة القطار، خطواته النشطة لا تشي بعدد سنوات عمره التي جاوزت الستين، يستقل القطار من إدكو ليصلنا كل يوم في نفس التوقيت، سعيا وراء رزق حلال يسد به حاجة أسرته، بيده اليمنى (قفة) صغيرة تحتوي على الملح وأوراق التعبئة وغداؤه الذي يتناوله عادة أثناء رحلة العودة، يتدلى من كتفه الأيسر حزام متين من خوص النخيل، مثبت به قفة كبيرة مبطنة من الخارج بالخيش المرطب بالماء ومغطاة بقطعة خيش مرطب بالماء أيضاً، تحتها يرقد محصول اليوم من أم الخلول، يساعد ذلك التبريد البدائي مع وجود الملح في حفظ أم الخلول من التلف.
مع اقتراب عم أحمد، أستطيع تمييز كلمات النداء “إدكاوي يا أم الخلووول .. أم الخلول الادكاوي”، ألاحظ أيضاً أنّ صديريته مبطنة بالجلد من الخارج لمنع وصول البلل إلى جسمه، رؤيته اليومية وسماعي عن إدكو وبلحها الزغلول والسماني وفواكهها اللذيذة، جعلوني أشتاق كثيراً لرؤيتها.
تقع مدينة إدكو على لسان رملي يشبه ضلعي مثلث حاد الزوايا، رأسه عند فتحة البوغاز الذي يصل البحيرة المسماة باسمها بخليج ابوقير، معظم أراضيها تقترب من منسوب سطح مياه البحر، لذا تكثر بها السبخات الملحية، في الماضي كان الأهالي يستخرجون منها الملح بعد أن تجفف الشمس ماء البحر منها، الآن يقومون باستصلاح الأرض بتغطيتها بطبقات من الطين والرمال السوداء التي يحصلون عليها من الكثبان الرملية المحيطة بهم، ثم يقومون بزراعتها بأجود أشجار نخيل البلح الزغلول والسماني والفاكهة.
تفصل أراضي إدكو وما حولها من قرى ونجوع بين بحيرة إدكو وبين خليج أبو قير المفتوح على البحر المتوسط والذي يقع شرق الأسكندرية، قرب ضاحية أبوقير التي اكسبته اسمها ويمتد حتى رشيد الواقعة شمال غرب دلتا نهرالنيل على فرع النيل المسمى باسمها.
وللخليج شهرة تاريخية عالمية، فقد جرت فوق مياهه موقعة أبوقير البحريه التي تمكّن فيها الأسطول البريطاني –بقيادة الأدميرال نلسون– من تدمير وإغراق جميع قطع الأسطول الفرنسي المصاحب للحملة الفرنسية على مصر إبان حكم الأتراك العثمانيين لها، والتي قادها نابليون بونابرت بهدف تكوين امبراطورية فرنسية في الشرق تقطع الطريق بين بريطانيا ومستعمراتها في الهند، غير أن تدمير إسطوله البحري أجهض كل آماله نهائياً، وتسبب أيضاً في فشل حملته على فلسطين وحصاره لمدينة عكا الباسلة التي تمكنت من الصمود بفضل شجاعة أبنائها وتلقيها المساعدة من الأسطول البريطاني المسيطر آنذاك على البحر المتوسط الذي لم يعد للفرنسيين فيه أي وجود، الامر الذي جعل نابوليون ينسحب عنها جاراً خلفه أذيال الخزي والعار، ومخلفاً -تحت أسوارها– مئات من جنوده الذين أردتهم سهام المدافعين، وآلآف ممن حصدهم مرض الطاعون.
وتتصل بحيرة إدكو بخليج أبوقير بفتحة واسعة (بوغاز) تسمح لمياه البحر بالدخول إلى البحيرة والخروج منها بحرّية تامة، وبالقرب من تلك الفتحة نشأت مدينة صغيرة بها أهم ميناء لقوارب الصيد في المنطقة تسمى معدية إدكو، بينما أنشئ فوق الفتحة جسرين، أحدهما للطريق البري القديم والثاني خاص بخط سكة حديد الاسكندرية – رشيد.
أعتقد أن كلمة (معدية) الواردة في اسم المدينة (معدية إدكو) تدل دلالة أكيدة على أن الانتقال بين ضفتي البوغاز قبل بناء تلك الجسور كان يتم بواسطة القوارب.
كنا نحب أم الخلول التي يتم صيدها من ساحل خليج أبوقير، أكثر من تلك التي يتم صيدها من أي مكان آخر، نسميها أم الخلول الادكاوي، تمييزا لها عن غيرها.
قد تكون القشريات متواجدة بجميع أنواعها على شواطئ كل بحار الدنيا، إلا أنّ أم الخلول تحتاج إلى ظروف مناخية وبيئية خاصة لتنمو وتتكاثر، فهي تحتاج لشواطئ رملية هادئة وغير ملوثة، إذ يقضي التلوث على الأسماك عموماً ويمنع تكاثرها وخصوصا ماً يطلق عليه إسم (قمامات الشواطئ) كالقشريات عموما وعديمة الأرجل خصوصاً، ولقد لوحظ أيضاً أنها تنمو بأحجام كبيرة حين تتغذي على العوالق التي كانت تحصل عليها من فيضان مياه نهر النيل حين كان يصب مياهه في البحر المتوسط بالقرب من رشيد ودمياط قبل بناء السد العالي وانقطاع وصول مياه الفيضان إلى البحر.
وتتكاثر أم الخلول بان يتمدد جسدها للخارج قليلا ثم تقوم بإغلاق مصراعيها عليه بقوة لاقتطاع جزء منه ، ومن ثم يقوم الجزء المقطوع ببناء قشرة صلبة حوله لتقيه شرّ الأعداء، فسبحان الله على آلام وصعوبة تلك الولادة، ولما كانت ام الخلول من القشريات عديمة الأرجل فهي لاتستطيع الهروب من اعدائها، ولا الدفاع عن نفسها بأي وسيلة سوى بدفن نفسها بسرعة فائقة في الرمال، وإغلاق مصراعيها بعضلاتها الضامة القوية جداً، حتى أننا كنا نجد صعوبة بالغة في فتح الطازج منها بأظافرنا، صحيح أن بعض الناس كانوا يقلونها في الزيت فتنفتح فوراً، إلا أنّنا لم نكن نحب تلك الطريقة، لأنّ طهوها يفقدها نكهتها المميزة وطعمها اللّذيذ.
تؤكل أم الخلول طازجة في نفس يوم صيدها بعد تمليحها بملح خفيف، وتغمس الواحدة منها –بعد فتحها– في (الحباش) المكوّن من مزيج فاتح للشهية ومغذّي جدا، يُحضّر بواسطة خلط طحينة السمسم مع زيت الزيتون وعصير الليمون والملح والخل والبهارات.
كنت محظوظاً حين واتتني الفرصة لمشاهدة طريقة صيدها أثناء مسحي لأحد السواحل النائية شمال دلتا النيل، يمشي الصياد على قدميه في الماء الذي يغمره إلى منتصفه تقريباً، ممسكا بإطار متين من عصى الخيزران مثبت به شبكة خاصة ذات عيون ضيقة للغاية، يدفع الشبكة داخل الرمال ثم يسحبها وهو يهزها (يغربلها) فيخرج الرمل من عيونها الضيقة تاركا أم الخلول داخل الشبكة تصدر أصواتا يطلقون عليها (الشكشكة)، يقوم بغسلها مرات عديدة وهي بداخل الشبكة لتخليصها من الرمال قبل أن تغلق مصراعيها عليها ولا تفتحهما ثانية إلا عنوة بواسطة أظافر عشاقها على مائدة الطعام.
لا أظن أن تلك المعلومات كانت تهمّ عم أحمد في شيء، كل ماكان يهمّه هو بيع مالديه من محصول اليوم وعودته لبلده لتحضير محصول اليوم التالي، يتفنن في الإعلان عن بضاعتة وترغيب الزبائن فيها بصوته الشجي، يراني فيتجه نحوي، يضع عنه حمله الثقيل ليأخذ قسطاً من الراحة ويجتمع إليه الزبائن تحت شجرتنا وارفة الظلال، يكشف الغطاء عن أم الخلول ليريني البضاعة ثم يسألني مبتسماً: (عايز بكام؟) أناوله القرش بفخر قائلاً: (بقرش صاغ!)، يقبله مرتين ويرفعه إلى جبهته ثم يضعه في جيبه قائلاً: (الله يجعل استفتاحك أحلى استفتاح)، ينحني على القفه الصغيرة فيتناول ورقة من كتاب قديم ثم يعتدل واقفاً ويلفها على هيئة قرطاس، ثم ينحني ثانية على القفة الكبير ويبدأ في تعبئة القرطاس بأم الخلول، ألاحظ أصابع يديه المنتفخة بسبب البلل الدائم بالماء والملح، لا أنسى أن أذكّره بكلمات تشعرني بتأدية واجبي على الوجه الأكمل: ( نقيها كبيرة يا عم أحمد ، اطوسى شويه ياعم أحمد)، كنت أعرف أن أمي– رحمها الله– سوف تسألني إن كنت قلتها له أم لا، كنت وقتها لا أحب الكذب، يردّ بكلمات سريعة اعتاد أن يقولها للجميع: (حاضر، دي أحلى أم الخلول، وأكبر أم الخلول)، يعتدل في وقفته محركا القرطاس بين يديه لضبط محتوياته، ثم ينحني للمرة الأخيرة ويتناول حبتي أم الخلول ويضيفهما إليه ثم يغلقه بإحكام، بما يعني انتهاء عملية الشراء.
تتجمع الزبائن من البنات الجميلة حولنا، أعمارهن دون العشرين (على وش جواز)، يعجب عم أحمد بجمالهن فيشرع في ترديد كلمات مهذبة لا يحيد عنها أبداً: (حلوة قوي وطعمة قوي)، يقصد أم الخلول بالطبع!.
حتى إذا ما اشتد طربه بالتفاف الجميلات حوله، وبيع كمية كبيرة مما لديه من محصول، وما يعنيه ذلك من تناقص حمله الثقيل، وتزايد وزن النقود في جيب صديريته العتيقة، راح يغازلهن – على سبيل التحية–بكلمات عفيفة ومنغّمة أيضاً فيقول:
(وإن سألوك ع البنات .. قول دا البنات جميلات .. وإن سألوك ع البنات .. قول دا البنات جميلات)، يظل يرددها مع التصفيق بيديه جزلاً وقد فرّج بين أصابعه المنتفخة, وراح يهز رأسه للأمام والخلف، تجري الجميلات وهن يتغامزن ضاحكات بعد حصولهن على حاجتهن من .. الادكاوي!.
رحمة الله عليك يا عم أحمد وعلى زمنك الجميل الذي عشناه دون أن نفكر كم كان جميلاً، والذي تسربت –بلا عودة– أيامه ولياليه من بين أصابعنا دون أن ندري.
_____________________________
من رواية (زمن الفيضان) لـ: عبدالسلام القطري.