لقطة من فيلم “أبو حراز” الفائز بجائزة المهرجان
ياقوت الديب من روسيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ أن وطئت قدماي أرض مطار مدينة “بيرم” الروسية ، التي تبعد بالطائرة عن العاصمة “موسكو” ساعة ونصف تقريبا ، وقد لمست أن ثمة شيء جاد وحدث مهم وفاعلية قوية ، سوف تدور رحاها صباح يوم التاسع والعشرين من سبتمبر الماضي … هكذا تسللل داخلي شعور بالغبطة والإطمئنان في آن ، بسبب مارأيته من دقة مواعيد وحسن استقبال ، وتملكني شعور بالمسؤلية ، باعتباري جئت لمهمة رسمية في المهرجان ، وكواحد من ثلاثة أعضاء في لجنة تحكيم جائزة “نانوك” الفضية ، التي تمنح لأفضل فيلم ، بأسم “الفيبريس” أو الاتحاد الدولي لنقاد السينما … وصلنا مكان الإقامة في قلب مدينة “بيرم” ، بعد منتصف الليل ، وودعت من قبل المسؤولة عن استقبال الضيوف ، علي أمل اللقاء في صباح اليوم التالي ، بعد أن أطلعتني علي البرنامج المكتوب ، لكل تحركاتي طوال فترة إقامتي ، وقبل بدء فعاليات المهرجان الرسمية بيوم أو يزيد … دخلت غرفتي بالفندق والتقط أنفاسي ، وبت أحلم بقضاء أمتع الأوقات بين سحر السينما وعبقرية التنظيم.
لم يمر اليوم الأول لوجودي في “بيرم” سدي ، حيث كان هناك برنامجا ترفيهيا ، رفيع المستوي ، لقضاء سهرة خارج إطار المهرجان ، فقد ذهبنا ثلاثتنا ، كاتب هذه السطور ، وزميلة من روسيا ، وأخري من ألمانيا ، أعضاء لجنة “الفيبريسي” … ذهبنا إلي دار الأوبرا في المدينة Tchaikovsky Perm State Opera ، لحضور عرض “أوبرا دون جيوفاني” Don Giovanni ، للموسيقار العالمي “موتسارت” (1787) ، وكانت قيادة الأوركسترا للموسيقار اليوناني الشاب “تيودور كورينتزيز” … وهكذا كانت تمر أيام “بيرم” بالنسبة لنا ، بعد تمام العروض السينمائية نهارا ، كان ينتظرنا العديد من البرامج الترفيهية ليلا ، ولن أنسي حضوري مسرحية “آنا كارنينا” عن رواية الكاتب الروسي الكبير “ليو تلستوي” ، علي المسرح الكبير في مدينة “بيرم” ، ولا باليه “سندريللا” تلك القصة الأسطورية التي دارت أحداثها في عصر الفنان العالمي الشهير “ليوناردو دافنشي” … وغيرها من البرامج ، جنبا إلي جنب مع القيام بمهمتنا الأساسية في المهرجان.
مهرجلن فلاهيرتي الدولي للسينما التسجيلية Flahertiana Festival ، واحد من أهم مهرجانات السينما المتخصصة علي المستوي العالمي ، يقصده المخرجون وصناع السينما ، لثراء فعالياته ، ودقة تنظيمه ، وعلو مستواه الفني ، وحرارة الاحتفاء بضيوفه ، والجمع بين الاستمتاع بالأفلام المشاركة والمختارة بدقة ، وبين الاستمتاع بجمال الطبيعة في “بيرم” ، ومبانيها التاريخية الأثيرة ، ومتاحفها العديدة ، والساونا الروسية المتفردة ، التي جاءت علي غير مثال … المهرجان حقيقي متميز في كل مستوياته وفعالياته ، وقيادته من قبل Pavel Pechenkin رجل عاشق للسينما ، حكيم الإدارة ، دقيق المواعيد ، بشوش الوجه ، مخرج كبير ، وهو في النهاية صانع سينما من طراز خاص ، لة العديد من الأفلام ، ومن المسؤلين الكبار عن السينما في “بيرم” الروسية.
للمهرجان مبني ضخم خاص به ، يعمل طاقمه طوال العام ، من دورة لأخري ، تقدم فيه كل فعاليات المهرجان ، علي تنوعها وطبيعتها ، حيث يخصص للعروض والفعاليات السينمائية أربع قاعات بجانب القاعة الكبري ومكان الورش السينمائية ، وقاعة للاحتفالات ، أقيم بها الحفل الختامي للمهرجان ، أما حفل الافتتاح فكان في السرح الرئيسي لمدينة “بيرم” … تبدأ عروض الأفلام عند العاشرة صباحا وتنتهي حوالي الثانية ظهرا ، لتناول الغذاء وقضاء فترة استرخاء ، قبل الانطلاق للبرامج الترفيهية الليلية ، التي يحددها الضيف بنفسه من قائمة اختيارات عديدة ومتنوعة ، وبشكل دائم يقام مساء كل يوم حفل موسيقي راقص تقدمه إحدي الفرق الروسية أو الأجنبية ، في خيمة مركز المهرجان ، يتخللها تناول الأطعمة الخفيفة والمشروبات من كل نوع.
أما عن الأفلام المشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان ، فقد بلغ عددها سبعة عشر فيلما ، جاءت لتتنافس علي جوائزه من كل أنحاء العالم ، شاركت الدولة المضيفة (روسيا) بثلاثة أفلام: “الدم” Blood إخراج Alina Rudnistskaya ، فيلم Del and his Predel إخراج Elina Laskari ، وفيلم “الكتاب”The Book إخراج Vitaly Mansky ، من بولندا فيلمي: “أبو حراز” Abu Haraz إخراج Maciej J. Drygas ، وفيلم Children Calling إخراج Andrzej Mankovski ، من ليتوانيا فيلم Yesterday will be tomorrow إخراج Janina Lapinskaite ، من إيران فيلمي: Iranian Ninja إخراج Marjan Riahi ، وفيلم Mashti Esmaeil إخراج Mahdi ZAMANPOOR ، من هولندا فيلم Escort إخراج Guido Hendrikx ، من كندا فيلمي: Father Figures إخراج April Butler, Gillian Hrankowski ، وفيلم The Manor إخراج Shawney Cohen . ومن الأفلام ذات الانتاج المشترك كان هناك أربعة أفلام: فيلم Love and Engineering (فنلندا ، ألمانيا ، بلغاريا) إخراج Tonislav Hristov ، فيلم The special need (ألمانيا ، إيطاليا) إخراج Carlo Zoratti ، فيلم Life almost wonderful (بلغاريا ، بلجيكا) إخراج Svetoslav Draganov ، وفيلم Happiness (فرنسا ، فنلندا) إخراج Thomas Balmes. وللأسف شارك الكيان الصيهيوني بفيلمين: The Ceremony ، وفيلم Violet, My Life ، في الوقت الذي لم أري مشاركة من أي نوع من مصر ، باستثناء مشاركة كاتب هذه السطور ، كعضو لجنة تحكيم جائزة “الفيبريسي”.
اقترحت علي الزميلتين عضوات اللجنة ، أن يحدد كل منا فيلما واحدا أو فيلمين علي الأثر ، عندما نجلس في جلسة الترشيح النهائية ، وبالفعل قبل أربع وعشرين ساعة ، جلسنا ثلاثتنا ، وكان في جعبة كل منا الفيلم ، أو الفيلمين موضوع النقاش ، وكانت المفاجئة أننا جميعا طرحنا فيلمي: “أبو حراز” البولندي ، و “الدم” الروسي للنقاش النهائي ، إلا أن زميلتنا “كريستين” أضافت فيلما ثالثا هو The Manor الكندي ، لكنها سرعان ماسحبته من النقاش ، وتركزت جلستنا حول اختيار فيلم من إثنين: “أبو حراز” ، و “الدم” ، والحقيقة كنت ميالا لفيلم أبو حراز منذ أن شاهدته في أول يوم عرض ، وقد تحقق حلمي في فوز هذا الفيلم التحفة بجائزة “الفيبريسي” وهي Silver Nanook ، وكانت المفاجئة الكبري والتي أثلجت صدري هو منح نفس الفيلم الجائزة الكبري Golden Nanook من قبل لجنة التحكيم الدولية. ولم يكن لنا حق منح جوائز أخري أو تنويها ما Mention ، اللجنة الدولية فقط كان لها هذا الحق ، وفقا للائحة المهرجان ، وإلا كان للفيلم الأخر “الدم” مثل هذا التنويه ، وهو يستحق. وكان لي شرف إعلان نتيجة لجنتنا في الحفل الختامي للمهرجان ، وعمل بعض اللقاءات الحية للتليفزيون الروسي.
فيلم “أبو حراز” ABU HARAZ جاء في حيثيات منحه الجائزة ـ كما كتبتها ـ هي تفوقه علي سواه من أفلام المسابقة في جانبيه: الفكري ، والجمالي ، فهو علي المستوي الموضوعي يتناول قصة أهل قرية “أبو حراز” السودانية ، عندما تعرضوا للهجرة القصرية من قريتهم إلي قرية أخري ، قبل أن تغرق المياه قريتهم ، بسبب بناء سد علي النيل المطلة عليه “أبو حراز” ، دون مراعاة لمشاعر الإنسان النكوب والمغلوب علي أمره ، بعد أن أجبر علي الهجرة ، تاركا ذكرياته وتاريخه ورفات أهله وذويه تغرق وإلي الأبد … علي الجانب الاستطيقي السينمائي ، يحفل الفيلم بالعديد من المؤثرات البصرية ، والمؤثرات الصوتية ، التصوير السينمائي الأخاذ ، مونتاج الانتقالات الناعمة ، الموسيقي التصويرية المعبرة عن الموقف … هذع المرتكزات الفنية والعناصر السينمائية ، أضافت للبعد الدرامي للفيلم الكثير والكثير ، الأمر الذي خلق الحماس داخلي للفيلم ككل.
بقي أن نشير ونؤكد علي أن تواجد مصر في مثل هذه المهرجانات الكبري ، يعد فرصة ثمينة لتوصيل رسالتنا إلي العالم الأخر ، الذي يفتقر إلي معرفة الحقائق ، والتعرف علي مصر تاريخا عريقا وتراثا إنسانيا معتبرا ، ولو عن طريق السينما ، وبشكل أكثر دقة عن طريق السينما التسجيلية ، التي لاتكذب ولاتعكس غير الحقيقة. وللأسف لم يكن لمصر هذا التواجد المطلوب ، وتلك المشاركة الفعالة ، خاصة بعد أن لمست وقيل لي صراحة أنهم في المهرجان متشوقون لمشاركة السينما المصرية في المهرجان ، وقد وعدتهم بالسعي لتحقيق ذلك ، بحث مخرجينا التسجيليين علي المشاركة في الدورات القادمة.
المهرجان علي العموم كان فرصة عظيمة بالنسبة لي ، للتعرف علي ماوصلت إليه السينما التسجيلية في العديد من دول العالم ، وفرصة للقاء جمع كبير من مخرجي السينما وصناعها ، لتبادل المعرفة والخبرات وبناء جسور صداقة ، هي لاشك أهم مايمكن أن يعود به أي منا ، من أي مهرجان يتاح لنا شرف حضوره أو المشاركة فيه … وللحديث بقية حول الأفلام الفائزة في مسابقتي المهرجان الرسميتين: الدولية ، ومسابقة جائزة “الفيبريسي”.
باقوت الديب
بيرم / روسيا