ط
مسابقة القصة القصيرة

موت غير مصرح به.مسابقة القصة القصيرة بقلم / حيدر الأسدى من العراق

قصة قصيرة (موت غير مصرح به)

حيدر الاسدي

العراق – البصرة

هاتف : 07716475023

البريد الالكتروني : [email protected]

لمْ يكُن يعرف ذلك الشاب الفارع الطول بجسده الرشيق انه سيعود للحياة ، بعد ان خاض اخر معاركه الشرسة ضد جيش احدى دول الجوار ، قبل ان يسرح من الخدمة العسكرية بعد ان قضى اكثر من ثلاثة سنوات ونصف في عالم العسكرية الذي يشبه رحلة في عالم البرزخ ، لان الالاف ممن دخلوا عالم العسكرية هنا اما عادوا لاهاليهم وهم يهلوسون بواقعهم المر او عادوا كجثث ملفوفة باعلام الوطن …تلك هي الخدعة التي قتلونا باسمها الدفاع عن الوطن.الوطن ذلك المفهوم الفضاض الذي يبحث فيه الساسة عن تفصال يلبسوه بما يلائم مقاساتهم.

–         عن ماذا ندافع؟

كان دائما ما يخاطره هذا السؤال وهو يحمل بندقيته المتهرئة ويعتمر قبعة العسكرية الخاكية ببدلة رثة.

–         عن من نقاتل؟

عن الوطن وشرفه وابنائه …ام عن كرامة الرئيس وخطاباته ؟ ، سؤال لم يخرج من رأسه حتى وهو يرى صورة ذلك الصنم تتمزق في مخيلته …وكان قد تنبأ بسقوطه وموته مسبقاً قبل ان يأتي هذا الامر بعشر سنوات لاحقة او ما يزيد.الحرب والخدمة العسكرية هما جل ما يفكر به الشباب هنا في بلد الموت ، حيث يتحتم عليك اذ اردت ان تكون رجلا يشار لك بالفحولة ان تخوض على الاقل غمار معركة او معركتين وتخدم تحت طائلة بنود الدكتاتورية ثلاثة سنوات ونصف وتأكل ما تاكله الحيوانات وتعيش ما تعيشه هي الاخرى، وفي احسن الاحوال ان كنت تملك شهادة تعليمية مرموقة فسيطول مقامك وسنة ونصف لا اكثر.انها هالوك النسل ومرض العصر الذي سيطر على جماجم كل الشباب الذين ينتظرون اقدارهم عن كل عام ، حيث يتم استدعاء التولدات الجديدة ممن لاح عمرها الثامنة عشر او ما يسموه بالعمر القانوني (للموت) فعلا انه العمر القانوني لتقتل الاخرين عبر حروب طاحنة لا مفر منها ولا ناقة لنا فيها ولا جمل ، حروب دافع فيها الشباب عن بلد انتهك من قائده الصنم ومن بلدان اخرى تقترب معنا بالحدود وتشاركنا نفس الهوية …الهوية الاسلامية ، كان ذلك الشاب الريفي الجميل الذي سماه عمه ( بدرُ) يستغرب هذا المنطق الذي يجعل البلدان الاسلامية تطاحن بعض وتقاتل بعض من اجل بضع كلمات تخرج من فم هذا او ذاك ممن جير الوطن بكافة تمفصلاته بحروف فمهم المتلعثمة على الدوام…انها قسمة ضيزى ان نوزع الموت على افراد شعوبنا من اجل ترهات قيلت هنا وهناك ، في مؤتمرات لا يقال فيها سوى بقايا كلمات تجر خيبات بقايا شعوب تلوعت مرارة الحرب طويلاً.جاء من اقصى جنوب الوجع في بلاد السواد ليقضي ما تبقى من خدمة العلم ، هنا عبر الحدود الملتهبة او حدود الخطوط الحمراء.عاد بعد ان ترك جسد اخر اصدقائه مرمياً في جبهات الموت…عاد بعد ان تخلت نفسه عن رائحة بارود اخر رصاصة حرب بعد ان قضت اوزار الحرب عند تلك الرصاصة العابثة بعد ان تصالحا قواد تلك الحرب.وكم تشبه مفردة قواد تلك الحرب بفكرة القوادة التي تجد لها مرتعاً في شوارع المومسمات عند ناصية المدن المسحوقة حيث يتجمع الشباب الاعزب عند تلك الشارع لتجتذبهم النسوة العاملات بهذه المهنة ، كم تشبه مهنة قوادة الاجساد الممشوقة بمهنة قواد الحرب الذين يبيعون اجساد الاخرين للموت الرخيص مقابل نزوات مريضة تدور في رأسهم .انها الحرب قاتلها الله ولعنها لا تبقي ولا تذر اخذت الكثير ولم تبقي الا النزر القليل.كان هذا ما يدور في راسه وهو لم يصدق ما جرى هناك في جبهات الموت بعد ان هزم الجيش اشر هزيمة وغادر ذلك البلد عائداً محطما من شتات الحرب وما تبقى منها فبلداننا هذه توزع الحرب على ابناء شعبها بالتساوي دون تفرقة وبعدالة مفرطة تماماً.لم يكن يحمل وقتذاك سوى صورة تلك الفتاة التي كان يقضي نصف اجازته ليكتب لها مراسيل،  تلك الفتاة المنحدرة من العاصمة والجميلة الوجه واللسان والعقل ، تلك العشرينية التي لازالت تدرس في كلية الهندسة ، تلك الفتاة التي تعلق قلبه بها وتعلق قلبها به .بدر هو كالبدر ، وهي شمس كالشمس، اسميهما يحيلا الى فلك كوني وطاقة لا مجال لاحتضانها من العوالم الارضية والواقعية التي كانت تشاركهم الحيوات ، اهليهما لم يكن لهم اي دور لعرقة ما كان يجمعها بعد ان تمت قراءة سورة الفاتحة شكلياً ، هي كانت شابة نزقة بالمعنى الرومانسي الشرقي ، وهو كذلك مارسا كل جنون الحب عبر الرسائل التي كتبها لها وكتبتها هي له…عاد منكسرا وكله امل ان يتمم ما تبقى من حياته مع فتاته الشمسية الناعمة ….عاد عبر سيارة الواز التي توحي بشكل ساخر لهيئة حرب مكفهرة كل اوجنتها عاد من اجل ان يعيش ما تبقى من حياته ، رغم حطام الحرب الذي خلف وراءه..عاد وهو بين نشوتين خروجه من الحرب وامل اللقاء بشمس وبين ما تركه خلفه من اشلاء اصدقائه واقرب المقربين منه .لفت سيارة الواز مئات الكيلومترات قبل ان تنزله في الساحة التي تبعد عن داره بخمسة عشر دقيقة ، استقل سيارة اخرى لتوصله لمكان سكنه في قريته الشعبية تلك التي تقع غرب مدينته الجنوبية .اطل من النافدة على بقايا المدينة المتحطمة من صواريخ الحرب الرعناء ، وهو ينتشي بخمر اللقاء وسكرة الموت التي خلفها ورائه فقد مات للان ثلاثة من اعز اصدقائه بين يديه في ساعة واحدة فقط!!!كان احدهم قد تخرج مؤخراً من كلية الحقوق.

-الحرب …تبا لك  ( تفووو)

هكذا هاج وهو يضرب بيده باب السيارة ويبصق على الفراغ من النافذة ويلعن الحرب ومسببها ، فعلها وهو بحالة انهيار حتى ان سائق السيارة لم يكلف نفسه بسؤاله سوى انه استدار وما ان حدق  في بدلته خاكية اللون والرثة تماماً،حتى عاد للقيادة مرة اخرى وكل همه ان يكون باب السيارة سليماً.

وفي اطراق مدينته الشعبية الجميلة بناسها والقبيحة بعمرانيتها .كان ثمة هدوء قاتم لم يعهده من قبل ، هدوء يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة ، هدوء لم يرى له مثيلاً من قبل ، حيث اختفى حتى الصبية الذين تعود ان يراهم يلعبون في ساحات المدينة كرة القدم والتي قضى هو الاخر صباه يرتع فيها …اختفوا تماما وكانهم تلاشوا شيئا فشيئا ، لم يرى تلك النسوة اللواتي يتلفعن بعباءاتهن السود وهن يجلسن عند عتبات الدار يتبادلن اطراف الحديث والمشاكل التي تحصل في بيوتهن..هنا الناس على فطرتهم وسجيتهم يتحدثون بكل شيء يخص عوائلهم ويشكون لبعض اهاتهم والامهم ، هنا الناس على طيبتهم يدخلون على دور بعض دون استئذان ، كل الدور هنا تحسها دارا واحدة وعائلة واحدة يتقاسمون الكرامة والهناء والالم والفرح ، كل شيء هنا يتقاسموه مع بعض ،طيبتهم ومشاكلهم وافراحهم.هذه الصورة بدت تلوح له وصورة مناقضة اخرى هي الهدوء الساكن في هذه المدينة لحظة وصوله .كأن ملك الموت اختطف كل سكان هذه المدينة وافرغها من اهليها.فزع بدر لوهلة مشاهدته لصورة مدينته التي بدت وكانها مهجورة….قطعة من السواد لاحت له من بعيد معلقة على مدرسة المدينة لم يتفحص ما كتب به ولكن خطر له انها لاحد ما قد فارق الحياة مؤخراً.فنحن بلد قد غادره مفهوم موت الله الطبيعي.وكل موتانا يقتلون على يدي بني البشر!!

–         ياترى اي مسكين اخر غادرنا ؟

قال هذه العبارة وقد قاربت قدماه المتلاطمان عتبة بابه ..دخل دون استئذان او طرقات باب تعودها الاهالي هنا قبل ان يدخلوا حتى وان كان الباب مفتوحا او كان الفرد من سكان الدور.لاقته امه بجناح منكسر وثوب اسود وما تبقى من دموع كانت قد نزلت بغزارة قبل اسبوعين ، لاقته بفرحة مغمسة بحزن دفين ، وهي تدرك تماما مدى تعلقه بشمس التي لم يراها منذ ستة اشهر وكان كل وقته في الجبهة يكتب لها الرسائل لتصل عبر ساعي البريد ولكنه في اخر اسبوعين لم يتلقى منها شيئا يذكر مما زاد قلقه.حتى رسالتيه في الاستفهام عن سبب التاخير لم تلاقيا جوابا يذكر. ، لاحظ بدر الكأبة التي تحوط ببيته والبيوت المجاور، بيته لم يكن فيه سوى امه واخيه الصغير اما اباه فقد غادر قبل عشرة اعوام في حرب مع دولة مجاورة اخرى ، اي بلد هذه نصف امواتها قضوا بحرب مع دول الجوار وعلى يدي افواه بنادق مسكت بانامل مسلمة تتوضأ للصلاة يومياً.رمى حقيبته الخاكية من يده والتفت الى اروقة الدار لم يجد سوى الحزن يخيم على وسط داره ….اخته المطلقة كانت تنزوي مع طفليها في نهاية احدى الغرف لاحت له من بعيد وهي تكفكف اخر دمعة هاربة من عينيها .

–         ما الذي جرى؟

قالها وقد اعتلته رجفة كبيرة هزت كيان جسده الرشيق .بكت معها امه التي جاوز عمرها السبعون عاماً ، قبل ان ترمي له سنارة الموت لتصطاد احلامه وترميها على قارعة طريق محفوف بالمخاطر والمزالق، رمت له بكلمات لم يفهم منها سوى ان الفتاة التي كان يحبها اكثر من كل شيء في حياته قد فارقت الحياة ، بصاروخ  اعمى قيل عنه خاطىء زار دارها ليصطحبها معه الى عالم الاخرة .فبعد ان جاءتهم التبليغات من المسؤول الامني في المدينة بضرورة ترك المنازل ورغم انهم نفذوا هذا الطلب على عجالة الا انها بعد خروجها من منزلها بساعات عادت وتذكرت بانها كانت قد نسيت رسائل الحب والغرام التي كتبها لها بدر ، طيلة فترة تعرفها عليه ، رجعت لمنزلها لجلب تلك الرسائل معها في رحلة التشرد والهروب من الموت الوشيك ،رجعت للمنزل رغم رفض والدها والحاحه على بقائها وعدم عودتها خوفاً من حصول اي مكروه ، رجعت ولم تعرف ان الموت يقبع لها داخل ذلك المنزل وان صاروخاً اعمى في الانتظار ، جاء وقع الخبر عليه كقنبرة مدوية وقعت على راسه وهو يتلقى خبر وداع غير معلن وموت غير مصرح به، خبر وداع اقرب الناس له ، تلك الفتاة التي كانت تحتفظ له باخر القصائد التي كتبها من اجل نشرها في صحيفة المدينة ، تلك الفتاة التي غادرت وانتهت معها اخر اسراره التي كتمتها طيلة سنوات تعرفها عليه ، غادرت بصاروخ مقيت هدم البنيان الذي كان بينهما..لم ينبس ببنت شفة وقد غادر بملابسه المشتملة على اثار الحرب ، غادر البيت مسرعاً الى حطام دارها او ما تبقى منه ، والذي استقبله بقطعة سوداء كتبت عليها ( انا لله وانا اليه راجعون ….انتقلت الى رحمة الله الشهيدة الشابة شمس محمد علي اثر حادث مؤسف…… ) جن جنونه وهو يقرأ اخر حرف بهذه القطعة التي تعودت عليها عيناه في السنوات الاخيرة ، وقام بلعن الحرب وهو يمزق تلك القطعة السوداء ويصرخ باعلى صوته ساباً وشاتماً الحرب ومسببيها، خرج له والد شمس وهو يحاول ان يواسيه بانكسار ، تعانقا وبكيا طويلاً قبل ان يغادر  بدر مسرعاً الى محطة السيارات التي تقوده الى المقبرة ، ساعات طويلة قضاها صامتا وهو يطالع العالم عبر النافذة قبل ان يترجل في المقبرة وهو يقترب شيئا فشيئا من حبيبته التي لم يرها منذ اشهر ، كان على موعد معها في هذه الرحلة ، انها اخر رحلة له وبعدها سيعلنان موعد زفافهما ، ولكن موعد موتها جاء عرضيا ومسبقا ليقتل فرحة التلاقي والزواج.بكى عويلاً كالام الثكلى وهو يحتضن حجر لفت به حبيبته شمس.ولاول مرة يغازلها بالم ويكلمها ولا ترد…كان لحظتذاك يتمنى منها ان تشاكسه كما كان يعتاد منها ذلك ، تتغنج كما كانت تفعل ….الا انها بدت صامتة تماما كالحجر الذي يلفها…غادر المقبرة ومعها غادرت اخر احلامه وهو يترك المدينة بكل ما حملت وضجت به ، تلك المدينة التي بدت هدائة وقتذاك كهدوء المقابر التي زارها للتو تلك المقابر التي تحتضن الاف الاسرار ، غادر متجها صوب المدن الاخرى علها تسد فراغا خلفته حبيبته فيه ..كانت وجهته بلد اخر هذه المرة فهو تمنى انه قد مات في الحرب بدلاً من هذا الموت البطىء الذي يعيشه، غادر المدينة رغم توسلات امه وعائلته ، ومن تبقى من اصدقائه ، غادر المدينة  التي بات يراها صحراء بدون شمس، وظلام قاتم لا تضيء ايامه سوى شمس التي بدت محلقة في عوالم الفضاء الخارجي ولا تلتقيه الا في عوالم احلامه الاثيرية….لم يمضي سوى شهرا واحدا حتى جاءت رسالة الى اخيه الصغير تبلغه بان اخيه تلقى رصاصة بالخطأ في راسه بعد شجار اثنين من الشباب ينحدران من بلد مجاور اخر ، تقاتلا قرب حانة للمشروبات الكحولية من اجل اثبات ونفي مسالة تتعلق بعقيدة كل منهما !!! لقى على اثر تلك الرصاصة الطائشة حتفه ….بعد ان قضى الشهر المنصرم يتسكع في ذلك البلد باحث عن وجه يشبه وجه حبيبته شمس التي فارقت الحياة بصاروخ تبين انه من نفس ماركة السلاح الذي قتل فيه بدر في ذلك البلد الغربي الذي كان يضم الكثير من المهاجرين العرب غير الشرعيين.لم تتلقى عائلته سوى رسالة اعتذار من ذلك البلد المجاور ، لتنضم هذه الرسالة الى مجموعة الرسائل التي كتبها لحبيبته شمس.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى