علي السباعي*
إذا كان عدد أيام شهري رمضان وشعبان ثلاثين يوماً، تصحبها رياح شرقية، ستظهر عربة يجرها حماران رماديان كل منهما بأذنين مقطوعتين تقودهما امرأة من يتبعها يجد الخلاص. / هذا ما قاله البهلول/
نبوءة تغرغرت في حلق ذئب.
حصار الذئاب في اتساعهِ، رياح شرقية وأدت مدينة. ليلاً. صوت ذئاب تعوي، عواؤها حاصرنا، أمس. أوّل أمس. قبل عام، منذ سبعِ سنوات والبهلول ممسكٌ بندقيةً محشوةً. أرث أسلافه. لكن ! لا أصابع تضغط على الزناد. فقط عيونٌ ترقب الذئب والزناد. الزناد وذئابٌ تعوي. عواؤها صار: شواهد. دلالات. أمكنة. حضارات، وحصارات تجري داخل قوقعة الروح الأبدية: أجسادنا. أقدامنا تطأ تراب الحصار، بخبطات عارفة، كمطارق الحدادين تعرف طرق الحديد وهو ساخن، وجوه أحفاد البهلول تدار ناحية امرأة تقود عربة خشبية يجرها حماران رماديان كل منهما بأذنين مبتورتين، تعلن عن بضاعتها مناديةً:
- تعويذة ضد الذئاب.
جلس البهلول وبجانبهِ حفيده أمارجي1 على دكةِ السنة الثامنةِ للحصار يرقبانها تصيح:
- بلسم يقيكم شر الحصار.
في خلخلة العربة المتخمة بصرير عجلاتها تندفع قعقعتها سارحةً في ألمٍ حديدي قاسِ يوخز صـوت رنينه المشروخ آذانهم، تنطفئ ملامحهم وهم يشاهدونها تعرض بضاعتها معرفةً:
- شرابٌ يمنح الثراء، العافية، الراحة، القوة، ويطيل العمر.
تقيأتْ العربةَ صراخها الحديدي صديداً سكن العيون المنثورة على أرصفةِ المدينةِ، العيون لينّة. فاترة تقافزت أجفانها النحاسية كرتاجات صدئة. قفلت اندهاشاً، فتساقط عجبها نحاساً بارداً هشاً فوق عتبات المحلات التجارية، تسأل:
- لقد مللنا سماع الأباطيل. مللنا.
ساحتْ الشَّمس كخريفٍ رممَّ رتوق جسده بصباحات متسولة أخذتْ تتثاءب بأسنان ذهبية استوطنتها بلازما خريفية مائعة كجسد حلزون، سحبتْ لجاميّ حماريها بغلظة ، توقفتْ العربة ، ترنمتْ :-
- بلسم شاف لمرضى الحصار ، جرعةٌ واحدةٌ تقيكم برد الشتاء. جرعتان تمنعان عنكم الجوع، ثمان جرعات تُكسَّر الألم داخلكم، عشر جرعات تمنحكم قوة مائة فارس.
شهق أحدهم متسائلاً:
- وماذا نصنع بهذه القوة؟
قالتْ بحماسٍ:-
- بإمكان المحاصر كَسْر عنق عشرة ذئاب دفعةً واحدةً.
وهي تكلمهم بانتْ شحمة أذنها اليمنى مشروخة من خلفِ عباءتها الغبارية المنفرشة بلدونة عجين سائح بينما تكدستْ على طياتها ذؤابات ملحية عريضة، جادلوها:
- كوننا نعيش حصار الذئاب تكذبين علينا بزقومكِ هذا.
نعتها مشعوذٌ بجبهة خالية من الحاجبين:
- محتالة.
قال آخر:
- دجالة.
عجوزٌ تصأصيء بصوت فأري:
- ساحرة.
مطّتْ شفتيها الزرقاوين برعب مستتر خلف متاريس دهشتها، قالتْ مستاءة:
- جربوا البلسم. فقط جربوه.
- استمروا.فقط. استمروا ضائعين.
قالها البهلول بانكسارٍ من على عتبة الحصار وسط شوارع مدينة غرقتْ بلعابٍ كاكي كالمهل انساب من شدقي ثورٍ مجنح حوصر من الوريدِ إلى الوريدِ بسكاكين قرمزية. تغرغر الأحفاد بالمهل. ازدردوه. إلاَّ البهلول بصقه متسائلاً:
- أتبيعين أحلاماً يا امرأة؟
عيناها تشعان صمتاً قديماً بارداً هلامياً كمح بيضة اليربوع، تنظران صوب بلدة الغبار والزقوم، تدحـرج صوتها متآخياً مع هرجهم:
- كنْ أولَ من يجرب البلسم يا بهلول.
تكفنتْ طرقات البلدة برياح شرقية أغرتْ حمار الطاحونة على الدورانِ وعيناه خرزتان تدمعان لعاباً شطف تروس المطحنة نفسها التي هرستْ أصابع البهلول، و البهلول دون كيشوت الحرب، لوّح بقبضتين خاليتين من الأصابع للمرأة أن: كيف يتناول بلسمها؟
سقطت بندقيته على الأرض مقمطة بصدئها. بهت ناعقاً:
- بندقيتي! بندقيتي!!
بندقيته: عزاءه وخيبته. محشوةٌ أبداً وجاهزةٌ للإطلاق دائماً.
- ياه. صار الوقت للأنياب وليس للأصابع.
قالها خائباً بعدما كنس أحفاده بنظرة، تأمره هادئة:
– امسك بندقيتك الصدئة من المنتصف.
– قروننا من طين./ يتندر البهلول مأزوماً /
تمازحه:
- وبندقيتك كذلك.
استعرتْ أرصفة الترقب بضحكات مجلجلة أحرقتْ قلب المدينة، ضخ القلب في شرايينها سيلاً بشرياً متعباً. أنهم دم الشارع ، فأنسكبوا كعصير زقومي تدفق من ساعة رمليةٍ مثلومةٍ، تململ الحماران الترابيان لهطول دم الشارع بين حوافرهما أرتجَّ بطناهما الأبيضان بلدونة طيعّة أثر حراك قوائمهما كمن يؤدي تمريناً عسكرياً، نادتْ:
- تعويذة تقيكم شرَّ الذئاب.
أجفان أحفاده ِشمعّية ثقيلة بزرقةٍ نيلية تنفرش عائمةً حول العربةِ، أكد البهلول:
- تعويذتكم بندقية!
أرثـك بندقيةٌ متاَبدة بلاَ انتصارات، بلا هزائم. صدئة. لا تطلق الرصاص، مشهورة بوجه تظاهرةِ اعتصمتْ فيها غيوم لولبية تكاثفتْ حول عرش المدينة بهشاشة غبارية حادة وموجعة كنابي ذئب، كون الذئب بندقية مصوبة نحو القلب، والقلب مدينة، والمدينة فتاة انتهكتْ عذريتها. لِمَ البندقية، وعَلاَمَ العبث مع الذئب؟ إذن لتنم كل البنادق محشوةً برصاصها يا بهلول. تنام عارية، يتناوب جنود الصدأ في وطئها، هدرتْ:
- أنا أم الحصار اقتلّعتُ أنيابه عنكم.
باعد أحد الحمارين قائمتيه الخلفيتين، فتلقـفتْ الأرض العكرة شلال بولهِ الساخن، توزع صدى انصبابه مزروعاً بجسدِ الشارعِ، قالتْ:
– سن الذئب تعويذتكم ضد حصار الذئب.
– ……………………………………….. / لا جواب من المحاصرين/
– لا ذئب بعد اليوم .
– ………………………………/ ولا نأمة/
– دعوا أحفاد البهلول يلهون قرب البئر .
– ………………………………/ لا. خرساء قصيرة يتيمة /
* * *
- إني اسمع نبض الحصار./ هذا ما قاله البهلول/.
* * *
- اطلبوا تعويذتكم ، ما حاجتكم للبنادق؟ / قالتها بثقة /
ذرِّتْ الشمِّس حفنات ضوئها فوق المدينة التي تقلّد أبناءها/ سن الذئب / تعويذتكم الجديدة.
- خرجنا من الحصار لندخل في حصار آخر.
/ صرخ البهلول / بعدما أتكأ على أرثِ أسلافهِ/ بندقيته/ فوجئوا بكَمٍّ هائل من أنياب الذئاب، سألوا:
- أنىّ لكِ أنياب الذئاب؟
أجابتْ:
ـ أوقعتها في الفخ!
الأرصفةُ موشومةٌ بأفواه مفغورة دهشةً، استطردتْ:
ـ وضعتْ لها ثمار الزقوم في البحيرةِ. شربتْ منها، فتساقطت أنيابها.
دواليب الغبار دعستْ النفوس فتركتها مجرد فزاعات، قالتْ بتسلطٍ:
ـ لا ذئب بعد اليوم.
ظلال الفزاعات طويلة. رفيعة. باهتة. جهرت بكلمات ناشفة:
ـ انتم الآن آمنون.
الغبار مظلةٌ كاكية تعوي بفيئها الذئاب، بلا أنياب. تساقطتْ أنيابها. ناب اثر ناب، كانكشاف لعبةِ بعد لعبة، بذلك أصبح الاقتراب من أوكارها يعني: الآن! عظمتين قذرتين تغطيان جمجمةً خجلةً بلا أنياب. تقدمتْ طفلة بجديلتين سوداوين من العربةِ، رحبتْ أم الحصار:
ـ أهلاً بحواء الصغيرة.
حواء، دائماً، حواء الأولى. السبّاقة لقضم تفاحة النار، سألتها:
ـ ما اسمك يا حلوة؟
أجابتها:
ـ هند.
أهدتها جرعةً من بلسمها قائلةً:
ـ ستكونين أوَلَ طفلة لنْ تطالها الأنيابُ. أنت الآن آمنة.
شمرَّتْ عن ساعديها فظهر وشمٌ بحروف زرق داكنة كبيرة مغزولةِ فوق ساعدها الأيمن: أم الحصار. بعدما حَزَمتْ وسطها بعباءتها راحتْ تمنح حلواها السحرية مقابل وزنها ذهباً. تزنها بميزان إلكتروني حساس ذي كفةٍ واحدةٍ. كيف والميزان أنفق عمره بكفتين؟ دائما كفتان، في كل كلفةٍ توزن جنة ونار. النفط مقابل الغذاء. حب وكراهية، الأرض مقابل السلام، اصلي ومزيف. البندقية مقابل التعويذة. ياه. كدت أنسى: الأمان مقابل الصمت، خير وشر. سألها جدنا البهلول:
ـ مم صنعتِ بلسمك؟
علقتْ:
ـ من عصارة مسحوق قرن الخرتيت2 .
* * *
البلدة أرخبيل الزقوم، أنبتتْ أرضها الزقوم والأحفاد، والأحفاد موكب نمل كَرَعَ قدور المهل الكبيرة تجرعوه. التهبتْ أجسادهم السمر الطيّعة. توجعوا. انبعثتْ من مناخرهم اللدنة زفرات وبائية خبيثة.
/ دارتْ الرؤوس / الجسد إلى الأمامِ والرأس إلى الخلفِ، لو عكستْ قلبتْ، والعكس صحيح، يتساءلون:
/عَمّ يتساءلون / أعن التي دارتْ رؤوسهم ؟ سألها البهلول شاهقاً:-
ـ لمَ أدرتِ رؤوس أحفادي؟
أجابتْ:
ـ كبيرهم حطمهم.
روائح كريهة مضمخة بعفونة القار تنبعث بلهبه وحشية حارقة نفثتها مناخر أبناء البلدة المستغيثين بهستريا:
ـ أينْ أسرافيل ؟
ـ تحملوا حصاركم بكبرياء. / هذا ما قاله البهلول /.
المعوذون زعقوا:
– أيها الحصار متى تنتهي؟
حمار الطاحونة يدور حول محور ثابت، يظل يدور حتى ينفق. وحده خارج لعبة الكفتين. على عتبةِ المطحنة تفقد أمارجي عباءته، تمتم بانكسار:
ـ آن ليّ أن أطوي عباءتي وأمضي.
أمره جده بحزم:
ـ اجلس.
أحفاد البهلول المنطرحون أمامه في أنفساح الأرض، كلهم من البهلول، والبهلول من آدم، وآدم لم يكنْ ذئباً كان تراب فوق كفة الميزان منذوراّ لموازنته. صعودًا ونزولاً يجلو ما تعكز بذراعيه من أشنات الحصار، صدحَ جدنا البهلول:
ـ أوئدوا حصاركم . أقبروه .
زناخة أنفسهم أطفأتها عينا الحمارين، هّش الحمار الأيسر بذيله طارداً كومة ذباب طنان تجمعتْ عند مؤخرتهِ، نخر الحمار الأيمن بشدة. هّش الأيسر ثانيةً بذيله أصاب مؤخرة الحمار الأيمن، تحركتْ العربة تشق سحباً قطنية مدماة تسف خلفها روائح بخارية زنخة أنشأت حصاراً أميبياً خبيثاً، قذفتْ أم الحصار قدورها الكبيرة. نقعتْ الأرض. راحتْ تحتسي أنسياحات القاراللاهثة بجانب العربةِ، وطأت عجيزتها خشب العربةِ المتشقق / وكشفتْ عن ساقيها/ ذاتي القدمين المحناتين بسخام قدورها، هَدَرتْ:
- مَنْ أراد منكم الخلاص فليتبعني ؟!!
تساءلوا:
-إلى أين؟
جهرتْ:
-إلى لارسا.
تساْلوا مستغربين:
- وهل الخلاص موجود في لارسا؟
الأرض حبلى. تلد الزقوم وآذاناً بشرية تصيخ السمع لتساؤلات سكان القبور:
– متى تنفخ في الصور يا أسرافيل؟
لا جواب. المنذرون برؤوسهم المداراة صيوانات رادارية تنتظر التقاط زفير أسرافيل. نفخة الولادة تعقبها صرخة البداية. لكن! النفخ في الصور حكاية تناقلتها الأجيال. تساءل الأحفاد:
- يا جدنا. هل صحيح أن الخلاص في الذهاب إلى لارسا؟!
لا جواب. تساءلوا:
- أينْ حكمتك يا جدنا؟
لا جواب.تساءلوا:
- أشر علينا نحنْ أسلافك؟
تمتم مرغماً:
- لارسا سراب.
جأروا:
- انفخ في الصور يا أسرافيل.
والنفخ في الصور حكاية عرج بها الأسلاف ناحية الجهات الأربع. أنّى تولي وجهك فثمة حصار. الأسلاف. يشاهدون الجهات الأربع تطلق جدهم عارياً. البهلول دون كيشوت الحصار عارٍ. يستر عريه برصاصة مرقطة والرصاصة أنثى. مَنْ يستر نفسه ببندقية؟ مَنْ؟!
أبى البهلول ستر عريه بأنثى كاكية. كونه بلا أصابع. بادرهم متألماً:
- عذراً يا أحفادي ! لقد أورثتكم بندقية صدئة .
قاطعته:
- مَنْ ذَهَبَ إلى لارسا فهو آمن.
سألها البهلول:
- والذئاب؟
قالتْ:
- الذئاب في رأسك يا بهلول! في رأسك.
تكلم :-
- سآخذ بندقيتي معي إلى لارسا.
صاحتْ:
- كل من دخل لارسا فهو آمن.
قال متخوفاً:
- لكن! الخروف بلا بندقية لا يساوي ذئباً.
قاطعتهُ:
-الذئب يسكنك أبداً يا بهلولنا.
أعترف:
- الخوف ظلي.
نطقتْ:
- ياه. دعني أكون ظلك؟!
كانتْ العربة تسير باهتزازات تخلخل أم الحصار في جلستها، تصوب بصرها ناحية القواقع البشرية التي تنفث زفيراً عمره ثمان سنوات، نادتْ:
- مَنْ أراد الفوز فليتبعني؟
♦ ♦ ♦
- لنْ نصل إلى لارسا ولارسا سراب / همس البهلول في أذن حفيده أمارجي/.
* * *
مزقتْ مومياء الغروب كفنها النحاسي، درّعْت قوقعته الضوئية، لطعتْ بلسانها القرمزي وشاح السماء. أحترقتْ بنيران لازوردية، رمتْ قماطها المشتعل بعيداً، كطفل شره تعلق مومياء الظلمة جؤجؤ السماء، من بعيد ظهرتْ بنات نعش يحملن رفوشهن، تراجع أمارجي مخطوف اللون يسأل جده:
- لِمَ بنات نعش يمسكن رفوشهن ؟
أجابه كدراً:
- يحفرنّ قبراً.
سأل باندهاش:
- لِمنٌ؟
وأدتْ بنات نعش جثمان الشَّمس. أهالتْ مومياء الغروب قار ظلمتها الأسود منسكباً فوق رفاتها. بدأتْ مساءات الحصار يطلقنّ عزاءهن/ إحدى وعشرون أنثى / يسترن واحداً وعشرين حفيداً. آنئذ. أقامَ البهلول صلاة الميت. رتل متنبئاً:
-عودوا . حتى في لارسا حظنا عاثر. عودوا !
(الكواصد)3 موشومون على مومياء الطريق متخذين شكل يأجوج ومأجوج برؤوس مدارة. الأطفال شرانق مشدودة إلى جذوع أمهاتهم بلا لغوٍ أو صراخ يسيرون بامتدادات ترابية ومتطامنة، نادى فيهم البهلول:
- تعويذة للذاهبين إلى لارسا.
سأل أمارجي:
- ما هي؟
مّد النمل ارتقى أرث الأجداد أجابه بعدما سلمها لهُ:
- بندقية.
صهلتْ أم الحصار:
- أصمت!
سألها:
- وحكمتي ماذا اصنع بها؟
رعدتْ:
- قل حكمتك وأمض ِ.
جاءتها حكمتهُ محشوةً في أرثِ الأجدادِ: ضغط أمارجي على الزنادِ، أطلق قرن الطين إناث رصاصته / إحدى وعشرون زقوماً / جندل واحداً وعشرين ذئباً وحواءٌ واحدةٌ./هذا ما لم يقله البهلول /.
- أمارجي: أله الحرب لدى السومريين.
- من عصارة مسحوق قرن الخرتيت: خرافة تقول: لو سحق قرن وحيد القرن وشرب نقيعه فأنه يطيل العمر.
الكواصد: وهم من عامة الناس يذهبون إلى أضرحة الأئمة ليؤدوا نذورهم وهم يحملون الرايات أثناء سيرهم الطقسي