ط
السيناريو والحوار

مونودراما (البعد الآخر للموت) مسابقة النص المسرحى بقلم / سليمان الأسودي .اليمن

للمُشاركة في مُسابقة مهرجان همسة الدولي

السيناريو المسرحي

مُونودراما

”فِئة الفَصل الواحد“

البُعدُ الآخرُ للموتِ

الكاتبُ سُلَيمانُ الأسوَدِيُّ

الأسم / سليمان عبدالرحمن سليمان الأسودي

 أسم الشهرة / سليمان الأسودي

البلد / اليمن

رقم التواصل /

(جوال + واتس)

<00967736889218>

رابط صفحة الفيس بوك /

https://www.facebook.com/salman.alaswady.5

الخِطابُ المسرحيُّ

المسرحُ صامتٌ إلَّا من نزق الرياح الشيطانية ، خالٍ إلَّا من لوح خشبي كبير نوعاً ما في مُنتصف المسرح ، أمامه قشٌّ متناثر و قطعٌ لأخشاب متكسّرةٍ توحي أنَّها بقايا حُطامٍ لزورق ، وبعض الملابس المبللة المنتشرة على مقدمة المسرح ، وبعض العُلَبِ والأشياء التي لفظها البحرُ إلى الشاطىء ، وهنالك أيضاً رمالٌ بيضاءُ على المقدمة ، و على يسار المسرح يوجد قفصٌ حديديٌّ ، و مروحة مثبتة على حائط المسرح الخشبي …

< المشهدُ الأولُ >

 

يبدو المكانُ كأنَّهُ شاطئٌ رمليّ في وقت الغروب ( أصوات رياح وتلاطم أمواج ) .

إضاءةٌ صغيرة مسلّطةٌ على آدم، و هو مُلقىً على اللوح الخشبي بقميصه الأبيض المُهلهلِ ذو الكُمّ الواحد ، و بنطالٍ أسودَ بيَّضتهُ مُلوحةُ البحر ، ويداهُ الممدودتان هامدتان على الأرض ، تتحرّكُ إحدى يديه فجأةً ، الأصابعُ تتحرّكُ ببطءٍ شديد ، يتّكىء على راحتَيهِ محاولاً رفعَ جسده بصعوبةٍ بالغةٍ ، لكنَّهُ يسقطُ من أثر الأعياء البادي على ملامحه ( لحظةُ صمتٍ وتوجُّعٍ وتأوُّهٍ ) .

يتمالكُ أعصابه أخيراً ، يجثو على ركبتَيهِ ، يرفعُ جسدَهُ النحيلَ وينظر إلى الجمهور بعينَينِ زائغتَينِ ،  هه ههه ههههه ، يضحكُ بيأسٍ و أملٍ معاً ، يضحكُ بصوت أعلى اختلطَ بالبكاء ، يبكي ، يتلفّتُ يُمينةً و يُسرى ، حمداً لله ، حمداً لله ، يقفُ على قدميه ، يبحثُ في كل مكان ، يصرخُ : أينَ هم ؟! أينَ أنتِ ؟! ، لايمكنكم تركي هنا بمفردي ، يهدأ فجأةً، ويسقطُ جسدُهُ على ركبتَيهِ، و يدٌ واحدةٌ تسندهُ على الأرض ، يستوي على ركبتيهِ، ويأخذُ حفنةً من الرمال ينثرُها ببطءٍ و يبكي مجدّداً ، (يصرخ) لماذا أنا ؟ ، لماذا أنا بالذات ؟!

تسرَّبتْ حيواتٌ من بين يدي كما يتسرَّبُ هذا الرملُ الناعمُ ، يصرخُ : سارة حبيبتي عودي إليَّ ، عودي يا قطرةَ الندى ، يا دُرَّةَ الدنيا ودانتَها ، يامهبطَ النور المُوَشّى بخيوط الشمس ، وقلبَ الذكريات المُبلَّلةِ بالشهدِ والدموعِ ، أهكذا تُصانُ عهودُ المُحبِّينَ ؟!

لا تتركيني أصارع هذهِ الحياةَ القاسيةَ الأنانيةَ بمُفردي ، (يقفُ على قدمَيهِ) ينظر إلى الجمهور بحِدَّة) (صمتٌ) تتوسعُ عيناهُ ويفتحُ فاهَهُ كأنهُ تذكَّرَ شيئاً ما ، ثم ينهار باكياً ، و يصرخ مجدداً : سامي عُدْ أرجوكَ ، لِمَ لا تُجبني ؟! ، ألستُ مَثَلَكَ الأعلى أم ( يسقطُ على ركبتيه مُنهكاً ) أم لعلّكَ نسيتَ ؟ يتداركُ القولَ ، أجل أجل لقد نسيتَ فقط ، لكنكَ ستعودُ، أثقُ بك يا بطلي الصغير ، عُدْ يا بطلي الصغير و لن أخذلكَ هذه المرّةَ ، أعِدُكَ أن أشتريَ لكَ دراجتَكَ الهوائيةَ ، فقط عُدْ  ( يخبطُ رأسَهُ براحة يدهِ بقوةٍ ) يتلفّتُ هنا وهناك ، آية آية آية .. أينَ أنتِ يا قمري الجميل ؟! يا قطعةَ السكر ، صغيرتي أميرتي الباسمة ، أنتِ أيضاً رحلتِ عني ، جميعُكم رحلتُم دون وداع ؟!

ألن تُقبِّليني ككلّ يومٍ تغادرين فيه المنزلَ ذاهبةً إلى المدرسة ؟!

دون حضنٍ ، بسمةٍ ، أو وداعٍ في أسوأ الأحوال ؟!

من سيناديني وهو متمطقٌ بلسانه (بابا أريد حلوى حامضة حين أعود) من سيسبر أغوار أسراري سواكِ ؟ ، مَنْ سيعبثُ بكلّ رتابتي غيرُكِ ، مَنْ سيتعلَّقُ برقبتي حينَ الكتابةِ غيرُكِ أيَّتُها المشاكسةُ الشقيَّةُ ؟ ، أينَ أنتم جميعاً ؟!

آهٍ يا عائلتي الثمينة ، هل ستبعثرنا الأقدارُ كما بعثَرَتِ الحربُ كلَّ أحلامنا ؟!

(يمشي ذهاباً وإياباً على مقدمة المسرح)

يلمحُ وِشاحاً أحمرَ مُلقىً على مقدمة المسرح ، ينتفضُ إليه مسرعاً ، يحتضنُهُ ، يشتمُّهُ بعمق ، آهٍ ، ينظر إليه نعم إنّهُ هو ، (يبتسم) لا بُدَّ أنها رسالةٌ من البحر يخبرُني أنها لا تزال على قيد الحياة ، (باستغراب) لا تزالُ على قيد الحياة ؟!

وهل من الممكن أن تكون مااااا ، لا لا لا معاذَ اللهِ ، تباً لهذه الهواجسِ اللعينةِ .

يعودُ إلى منتصف المسرح يمدُّ يدَيهِ المُمسكتَينِ بالوشاح الذي يُسمع وجيفه من أثر تيار الهواء الآتي من مروحة مثبتة ، يُغنّي وكأنهُ يُراقصُها ، أتذكرين هذه الرقصة يا عزيزتي ؟!

يومَ كُنا نخالُ أنفسُنا أميراً وأميرةً في بلاط العشق الخالد !

أتذكرين أحلامنا الورديَّةَ التي رسمناها على جبين القمر ؟!

أتذكرين وعدَكِ لي ألَّا تفارقينني أبداً ما دام في الصباح روحٌ يتنفسُهُ ؟!

(يبكي) يسقط على ركبتَيه ،

أين أنتِ إذاً ؟! ، لِمَ نقضتِ عهودَ الوفاء ، لماذا أفلَ نَجمُكِ باكراً؟!

لماذا رحلتِ ؟!

أيتُها الأنفَس بين أتراب الحِسان ؟!

و إنْ كان للرحيل بدٌّ ، فلِمَ رحلتِ قبلي ، أما كان من حقوق حبّي لكِ أن تنتظري موتي ثم ترحلي ؟!

أهكذا تضعين نهايةً لذاك الحبّ الرائع ؟!

(يعود إلى مقدمة المسرح)

ينظر إلى الجمهور وقد زمَّ شفتَيهِ وعقدَ حاجبَيهِ قائلاً :

هل أنتم سعداءُ الآن بشتاتنا ؟!

أهذا ما تودُّونَ رؤيتي عليه ؟!

تباً لكم جميعاً ، لن أسامحَكم ماحييتُ ، وكيف لي أن أسامحَ تجَّارَ الحروب وأربابَها ، (بصوتٍ عالٍ) : كلَّا لن أسامحَكم أبداً ، سأتمنَّى لكم فقط حياةً آثمةً ، لماذا تُشعلون فتيلَ الحرب في أوطانكم ؟! ، تقسِّموننا ، تجعلوننا شِيَعاً ، زُمَراً ، تشتِّتون الشعوبَ وتجعلوننا آحاداً ، ألا يوجد فيكم رجلٌ رشيد ؟!

لِمَ هذا الصمتُ المُطبقُ على أفواهكم ؟ ألن يجيبَني أحدٌ ؟!

آه ، حسناً (يقولها بحزن)

ربَّما ليسَ من حقّي الغضبُ مما ترتَّبَ على قراري الشخصي بالرحيل ، (يجلسُ القُرفصاءَ) نعم ليس لي أيّ حقّ ، ربما يتوجَّبُ علينا أن نموت في أرضنا ، كسائر الموتى الذين نجَوْا من هذه الحياة بأعجوبةٍ ، لكننا رسمنا أحلامَنا النرجسيَّةَ على ذاك الملاك الخشبي (يشير إلى بقايا حُطام الزورق) ظننا أنّهُ سيحتضنُ كلَّ أمانينا وأمالنا المعلقةَ عليه ، أتذكرين يا سارة ؟! (يقولها وهو يربط وشاحَها الأحمرَ على مِعصمه)

أتذكرين أيامنا الخوالي ؟!

وتلك الليلةَ المسفوكةَ بدماء الضحايا ؟!

حين فاحتْ بها رائحةُ الموت النتنة ،حينها توهَّجتْ في رأسي فكرةٌ بائسةٌ ، تحاولُ الخلاصَ من مغبة الحرب ، تلكَ الوهجةُ أضاءتْ ماحولي من غياهب الظلام ، ( يلتفِتُ يمينَ المسرح و يسارَهُ ) يا إلهي ! حتى الأفكار لها طابورٌ خامسٌ ، لها أعينٌ ، آذانٌ و وشاة ، فسارعتْ كلُّ الشرور تطلبني ، من قذائف و شظايا حارقة ، أحاطتْ بمنافذ الأملِ كلّها ، طوَّقتْ بوابات الفكر (مخاطباً الجمهور) لا تعجبوا فقد اتُّهِمنا حينها بالجُبناء ، لكنّ الجبنَ في غير الفتنة يُعدُّ جبناً فعلاً .

أتذكرين تلك الظَّهيرةَ الهاجرةَ ؟ وذاكَ الزورقَ الذي بالكاد يتَّسعُ أربعةَ أشخاص ؟!

كنا حينها عشرةً على مَتنهِ ، و كان الزورقُ يتأرجحُ من وبيله ، أربعةُ رجالٍ ،امرأتانِ و طفلتانِ و ولدانِ  ، يا إلهي .. ! أيُّ جشعٍ يملأُ قلبَ ذاكَ المُهرِّبِ الآثم اللَّغوب ، حشرَنا جميعاً كما تُحشرُ الدَّوابُّ ، وكنا خانعين صامتين ، كلُّ ما يشغلُ تفكيرَنا هو أن نتلاشى فقط ، أن نتوارى عن الأنظار ، قبل أن تُدركَنا أشباحُ الحرب العبثيَّةِ وغوائلُها التي تعشقُ ممالأة العدو ، ما أغبانا حين سلَّمْنا أرواحَنا لعبدِ الدراهم ذاكَ .. !

(يعود لمحاكاة الوشاح)

أتذكرين حين  تنفَّسنا الصُّعَداءَ، لمَّا صرنا في عُرض البحر ؟ أتذكرين يا عزيزتي سوادَ الليل المكفهرّ وهدوءَ البحر ؟!

كُنَّا قابَ قوسَين بين النجاة و الموتِ ، لم نستسلم ، أتذكَّرُ كلَّ لحظةٍ عِشناها في تلك الحقبة الزمنية الصغيرة المستقطعة من خارج أعمارنا ، ويكأنها حلمٌ في الكرى ، أو وهلةٌ من وسنٍ ، أتذكَّرُ نبضَ قلبكِ المُتسارعِ حين ضممتُكِ إلى صدري ، أتذكَّرُ خوفَ آيةَ و سامي، و هُما مُمسكان تلابيبي بقوةٍ ، يالها من ذكريات مرعبةٍ تختطفُ المسرة ، و تحبس الأنفاس ،

 و في صباح اليوم الثالث من رحلتنا ، و فجأةً هاجَ البحرُ بنا ، كانتْ أمواجُهُ ترتفعُ كالجبال المنيفة ، في خِضَمِّ الطوفان ، و هزيمُ الرعد صمَّ أذاننا ، والزورقُ يتقاذفُ بنا كَكُرات سنوكر .

( يبتسم للوشاح الأحمرِ ، و هو رافعٌ كفَّهُ أمام عينيه ).

أتذكرين يا عزيزتي جورج ، ذلك الرجلَ الصنديدَ الإنسانَ المُعتَّقَ بالشهامة ، الجَزلَ كماء السماء ، حين التهمَ اليَمُّ الباخعُ على حين غفلةٍ مني آيةَ ؟!

( يصرخُ بصوتٍ عال ) فتحدّى ذُرا الموج و انطلق قافزاً إلى غيابة البحر كالصاروخ ، ( يبتسمُ بسخرية ) لم أكنْ أدركُ ما حدثَ لم أرَ إلا يداً تقذفُها للزورق ثم تختفي رويداً رويداً ، كانَ الوَصبُ والنَّصبُ والإنهاكُ قد نالا منها ، حينها نبَّهتِني أنتِ لإنقاذه ، فركبتُ البحرَ دون مركبٍ أو شراعٍ ، ألقيتُ نفسي لإنقاذ ذاكَ الجسد الطافي ، ( بحماسة ) كنا نغامرُ بأرواحنا دواليك في سبيل المروءةِ والإنسانيةِ ، غرقنا معاً ولكن ذلك الشابَ الذي ينعتونهُ بذوي العقول الخاوية مهمَّشٌ بسبب بشرته السوداء ، ذلك الشابُ الأبيضُ القلبِ المُقبلُ على الحياة بروح معنويةٍ عاليةٍ ، ذلك الشابُ الذي هاجرَ ليبنيَ مستقبلَهُ على أرض هشّةٍ ، ليستْ أرضَهُ ، لكنها ملاذُهُ الوحيدُ من مَغبَّةِ الحرب ، وتصنم الأحلام ، ألغى كلّ معلمٍ لحبّ الذات ، خلعَ قميصه وقميصَ رفيقه وربطَهما في حبل كان مُلقىً على ظهر الزورق ورماهُ إلينا ، و بالكاد أمسكتُ الحبلَ بيدٍ واحدةٍ ، والأخرى ممسكةٌ قميصَ جورج ، فقد كان فاقدَ الوعي حينها ، لم تُثنِ ديانةُ جورج المسيحيةُ عن إنقاذَ طفلةٍ مُسلمة ٍ ، ولم يثنِني إسلامي لانتشاله من مضارب الموج ، كلانا تحدَّى الموتَ ببسالة وشرفٍ ، فلا دينَ ولا مذاهبَ ولا عنصريةَ كانتْ تحكمُنا ، تحكمُنا الإنسانيةُ والعُروبةُ فحسب ، لم نكنْ من ذوي الفكر الضيِّقِ ، لم نكن إلَّا بشراً ، لا تحكمُهم الأديانُ ، ولا يقيِّدُهم اللونُ ، ولا أيُّ شيءٍ من تُرَّهات هذا العصر الآثم ، فالدِّينُ لله ، والأوطانُ والإنسانيةُ والسلامُ للجميع .

(يتقدم خطوتين ، يقولها بحسرة) : أيُّها الراحلونَ عن الرَّمضاءِ المتوجِّهون نحوَ الجحيم ، أوطانُكم التي جعجعتكم في رحاها ستفيضُ عليكم قمحاً ، لا شيء يأتي بسهولة ، لا بُدَّ من صبر حتى يعقبه الفرج ، أوطانُكم أحقُّ بكم ، تُناديكم ، ستلوكُ أحلامَكم أفواهُ المستثقلين ، ستمضون إلى دروب المهالك دون وجهةٍ أو بوصلةٍ ، لن ترسوا بأمانيكم على تلكَ الحدودِ الموصدةِ بالأسلاك الشائكة أو بخفر السواحل ، لِمَ خرجتُم عن ولاة أمورِكم ؟ ، لِمَ شططتم أيُّها البائسون ؟!

لِمَ أسقطتُم أنظمةَ الحياة عوضاً عن إصلاحها ؟!

هذا ما أردتُموهُ لنا ؟!

ضياعٌ، شتاتٌ، فُرقةٌ و دمارٌ

(تنبعث أصواتٌ من بعيد)

مُكبِّر الصوت :

هناك لقد رأيناهُ على الشاطىء المتاخم للمدينة .

(يصمتُ بخوف)

يصيغُ السمعَ واضعاً يدَهُ خلفَ أذنه كَلَاقِطٍ للصوت ، يتلفَّتُ يُمنةً ويُسرى ،

يا إلهي لقد رأوني ، إنهم يتقدمون نحوي بِخُطى حثيثة ،

يفرُّ إلى خلف المسرح ، تَخفُتُ الإنارةُ في جَنَبات المسرح ، ويُسلَّط الضَّوءُ على آدم ، في حين تنسدلُ الستارةُ …

< المشهدُ الثاني >

(يقف آدم خلف القفص الحديدي متشبثاً بقضبانه ، مُنزَلقاً إلى الأسفل)

أبهذه الصورة تكون نهاية المطاف ؟!

(يقف على قدميه)

ما أتعسني بالغربة التي رسمتُ ملامحها بألوان زاهية (يرفع كفه محاذاة وجهه وكأنه مرآة) يا إلهي كم أبدو نكرة ، وتزيد بشاعتي بهذا الشعر الأبلق ، يا إلهي كم تجتاحني عواصفُ الماضي الجميل ، ويهزُّني الحنينُ إليه .

(يضع سبابتَيه في حواف نواجذه)

يشدُّهما إلى الأعلى محاولاً رسم ابتسامة مصطنعة .

من أنا ؟!

لِمَ لا تبدو لملامحي ملامحُ ؟!

لِمَ يبغضُني الفرحُ ، و يعشقني الألمُ ؟!

تبَّتْ أيادي المهجر ، ما أحقره !

(يتصنع قهقهات مُبتذلة)

هههههه ههو ههوو هههوو ههههاي ،

(يعبس فجأة في وجه الجمهور مخاطباً أياه)

من أنا ؟!

لِمَ لا أجيد فنّ السعادة ؟!

ملامحي الجادة ، نظراتي الحادة ، كلاهما موقوفة للحزن ، أنا لم أعدْ ذاكَ الشابّ الضحوكَ ، المَرِحَ ، الطَّلِقَ اللسانِ ، صرتُ شخصاً آخر ، لايمتّ لي بأيّة صلةٍ ، لا أشبهُني ، كأنّي من كوكبٍ آخرَ ، من عالمٍ آخرَ ، تفنّنَ القدرُ بترويض صبري ، بتعليل نفسي ، بصياغة تاريخي الحافلِ بمصارع السُّوءِ ، (ينظر للأعلى بزهوّ) لكنْ بي ثمّةَ أيقونةٌ للثّبات ، أدهشتْني بعنفوانها ، بجموح تشبّثها (يتبختر في مشيته _ رافعاً كفيه بخيلاء ورأسه سامقٌ للسماء) خلقتْ لنفسها من الأمل فضاءً رحباً ، صنعتْ لها رؤىً عدّةً ، و آفاقاً أُخرى ..

(يومئ برأسه قبالة الجمهور بحزن) منذ نعومةِ أظفاري ، كنتُ أشعر أني طفرةٌ ، كنتُ أحسُّ أنّي لن أدركَ ما أصبو إليه ، إلاّ بعد أن تجفّ غصونُ رغبتي ، (يبكي) و ها هي قد جفَّت بُعيدَ فقدان الشريان الأخير لحياتي ، أسرتي ، كنتُ أحلم أن أكون ذاتَ يومٍ شيئاً ما ، شيئاً يليق بطموحي ، بأحلامي ، كنتُ أدرك أن أقربَ ما أشتهيهِ ، لن أنالَهُ باكراً ، (يلطم خديه بقوة _ وبلهجة ساخطة)

من أنتَ أيها المسخُ الحقيرُ ؟! ، لِمَ لم تنهني عن الهروب ؟! ، لماذا شتَّتَني ، بعثرتني ، لماذا أحييتَهم بالموت وقتلتَني بالحياة ؟!

(ينهار باكياً _ ممسكاً بقضبان القفص الحديدي) (يتمالك نفسه) محدِّثاً الجمهور ، بداخلي شخصٌ آخرُ  ، يضمرُ لي الشرَّ ، و يبادلُني العداوةَ ، لا نطيقُ بعضنا البعضَ ، داخلي عالَمٌ من التّناقضاتِ ، مهووسٌ بالسّفر و ركوبِ الأخطار ، و ها أنا صرت قابعاً كالحجارة ، شَبِقٌ ، وقدُ صرتُ أرملَ بكلّ ماتحملهُ الكلمةُ من مرارةٍ ، عاشقٌ مُحِبٌّ للسّلام ، و أحيا في بوتقةِ الحربِ ، و التنافر و الخسارة .

(يلتفت للجمهور بنظرات حادة مخاطباً إياهم)

لماذا أنتم صامتون ؟!

أتحزنون لمصابي ؟

أم هي نظراتُ شفقة ؟!

تأنسنوا ، خذوا نفساً عميقاً أيها البائسون ،تنفسوا الصُعداء ، وأطلقوا تناهيد حقدكم الحارة المشحونة بالبغضاء والحقد والكراهية ، هذه ليلتكم المنشودة ، وهذا عيدكم الأغر

(يقترب أكثر منهم ، يأخذ نفساً عميقا ويقول بصوت منخفض) :

نعم نعم تنفسوا هكذا ، فقد منحتكم شرفَ الشماتة ، أيها الأنقياءُ نقاءَ الأنبياء والمرسلين ،

أنا العربي الإنسان ، لا دينَ ولا مذهب ولا طائفة ولا عنصرية ولا لون يكسر عندي شوكة الميزان ، أخلاقي هي ديني ،  كل العرب أخواني فأنا لا أتعامل إلا بأنسانيتي بضميري وأخلاقي

(يجلس القرفصاء)

لا تدَّعوا الكمال ، فالكمالُ للهِ تعالى ، لا تبتذلوا الخصال ، لا تغرَّنَّكم أحوالي السيئة ، فتجدوها مرتعاً خصباً للأذية ، فقط عاملوني بما أنا أهلٌ له ، لا بما فُرض عليَّ .

(ينفض قميصه بيده)

وبلهجة رزينة قائلاً : دعوني الآن أنفض غبار الفرقة عني .

(يدير ظهره إليهم وينظر للخلف وهو ينفض كتفه)

فهلَّا تركتموني لخبثي ، ولحماقاتي الساذجة ، كونوا بخير ، احتفلوا بجرحي ، وارقصوا على أوتار أوجاعي ، واسكروا على قبري الملطخ بدماء إنسانيتكم ، (يلتفت) ما أجمل حقدكم الدفين الذي ترعرعت في كنفه منذ البدء !

ولأنني أحبكم أيتها القنابل الطائفية العنصرية الموقوتة ، بُحتُ لكم بسرِّي ، وأطلعتكم على مكنون نفسي ، وسلمتكم زمام أمري ، ولأنني أحبكم أكثر ، كونوا فقط بخير ، وانعموا بالذم في الكلام ، فأنا مرثية الأنام ، بُكائية اليمام ، أيقونة الحُبِّ والسلام ، أبشركم بتباشير الحمام ، ولأنني أضعتُ في قوافل حقدكم راحلتي !

استبشروا فأنا لستُ على ما يُرام

(صوت يصدر من بعيد)

<النزيل رقم (٢٠٢٠) عليك المُثولُ أمام هيئة المحلَّفين لإلقاء كلمتك ، لا تنسَ ، ضع الكمامة و لا تلمس أيَّ شيء في طريقك ، فقط قل ماعندك ثم انصرف>

(ينتفض آدم مسرعاً نحو الصوت في اتجاه باب القفص محدِّثاً الجمهور)

لا بُدَّ أنهم وجدوا عائلتي أيضاً (يا بشرى ! )

(إظلام تام لهنيهة)

(تُسلط بؤرة ضوئية على أدم وهو قابضٌ على قضبان القفص الحديدي مرتدياً كمامة غطتْ نصف وجهه تقريباً)

محاكياً هيئة المحلفين ، سيدي القاضي :

أنا النزيلُ رقم (٢٠٢٠) القابعُ تحتَ الإقامةِ الجبريَّةِ المُهجَّرُ من وطني إلى المَنفى ، المَنفيُّ خلفَ أبعاد السحاب ، أبثُّكم أسمى معاني الصبرِ و أرقَّ آياتِ الانتظارِ ، مُقيمٌ أنا ، و هذهِ رُدهَتي المَنسيَّةُ ، أُعايشُ الواقعَ ، و أتأقلمُ معهُ قَدْرَ الإمكانِ ، لا مجالَ لي للهروبِ من واقعي ، و لامناصَ من مُسايرتي لأحداثهِ التراجيديَّةِ المُبكية ، أعيشُ أقسى أنواعِ الغُربةِ ، نعم منْ هُنا، من المَهجر ، المرحلة الزمنية السوداء في عمري ، أبايعكم على الرحيل ، (يمدُّ ذراعيه من خلف القضبان متوسلاً بصوت عال منكسر)

فقط أعيدوني مع عائلتي الثمينة المفقودة ، فلازالَ صوتُ المستقبلِ يدوي بأُذني لِمَ لا تبحثُ عن طريق للعودة للوطن ، فليسَ ثَمَّةَ ما يدعوكَ للبقاءِ ، لا زالَ صوتُهُ مُلتصِقاً بجُدرانِ ذاكرتي كالطَّلاءِ ، نعم ياسيدي القاضي فلقد وجدتُ رغبةً جامحةً و طاغيةً للفِرارِ من سجني الإنفراديّ المُهترِئ القُضبانِ هذا ، حتى أعود إلى ربوع وطني الكبير بصحبة عائلتي الصغيرة .

(يجثو على ركبتيه باكياً)

سيدي القاضي : لم يَعُدْ في المُقَلِ دموعٌ ، فقد حجرَتْها المِحَنُ و نوائبُ الدهرِ المُتتاليةُ .

(يقف ناظرا نحو الجهة الأخرى)

هيئة المحلَّفين الأفاضل :

صدِّقوني ، لستُ جاحداً للوطنِ ، لكن حينَ تقفرُ رياضُ الأحلامِ ، و تجُفُّ جداولُ الصبرِ ، يصبحُ البقاءُ كابوساً يُؤرِّقُ المنامَ ، حينَ يسودُ الظُّلمُ المكانَ ، و يضجُّ صخباً بالأنامِ تَخِرُّ السماءُ ، و تتساقطُ الأحلامُ كِسَفاً ، و تطيرُ كلُّ حَمائمِ السلامِ ،

أنا المَنفيُّ خلفَ أسوارِ الظلامِ ، المَبنيُّ على أكوامِ الرُّكامِ ، المَبتورُ اللِّسانِ قسراً ، و المحظورُ عن الكلامِ ، أُقرِئُكم و أقرأُ على وطني السَّلامَ …

(تخبو الأضواء تدريجياً)

(تُسلط بؤرة ضوئية على آدم فقط ، وهو جاثٍ على ركبتيه يبكي بحرارة)

يا إلهي رفقاً بقلبي فإنه لايحتمل ، أنا السبب في كل هذه المصائب ، أنا من يحمل أوزاري وأوزارهم جميعاً ، بل و أوزار العالم برمته ، يمشي قليلاً داخل القفص ويخرج من جيبه قلادة فضية ، مطعمة بالذهب ، يفتحها وبداخلها صورته وصورة سارة ، يُقَبِّلها بحرارة ، أي حبيبتاهُ سارة ! هذا آخر ما تبقى لي من ذكراكِ . (ينظر نحو الجمهور وهو يصرخ بحدة)

يقولون : إن سارة ماتتْ ، هل سمعتم ؟!

سارة حبيبة قلبي ونصفي الثاني ماتت ، هل تصدقون هذه التراهات العقيمة ؟! ، سارة لم تمتْ ولن تموتَ

(يمسك بقضبان القفص وينزلق على ركبته)

يتأمل في الجمهور بعيون يتيمة ، يحدثهم بلهجة هادئة مطمئنة ، كلّا سارة لم تمتُ ، فقد وعدتني قديماً ألَّا يفارقَنا سوى الموت ، سو سوى ماذا ؟! لا لا (يصرخ) قلتُ لكم لم تمتْ ، لِمَ لا تصدقونني ، يهدأ قليلاً ، لقد ذهبتْ تبحث عني ، و ستعود نعم نعم ستعود ، أنا على ثقة تامة وعمياء أنها ستعود ، أو لعلها ذهبت لتبحث عن سامي و آية ، و أوقعتْ هذه القلادة سهواً ، (يصرخ) يا رب يقولون : إنهم وجدوها ميتة ، وأنت الحي الذي لا يموت ، فهل هذه إرادتك ؟!

إن كانتْ هذه مشيئتكَ فلن أعترضَ ، (يجلس و يبكي بحرارة صافعاً وجه القاع براحتي يديه) ولكن لطفاً بي يارب ، لطفاً بي يارب ، لطفاً بي يارب .

  (يقف و يلفُّ على نفسه بارتباك عابثاً بشعره الأشعث) ، سامي و آية  أيضاً، يقال بأنهم وجدوهما على جادة الساحل طافيَين ، (يقف و يبكي بحرقة) لكنهم لم يموتوا ، هم دائما تروقهم لهم لعبةُ الاستلقاء على الظهر في الماء ، (يبتسم بأمل) ههه ، يا لهم من أوغاد لقد خدعوهم بهذه اللعبة ظناً منهم أن خفر السواحل سيظنوهم أمواتاً ، (يجثو مجدداً على ركبتيه) ويصرخ ، وماذا لو كانوا فعلاً في عداد الصرعى ، لا لا كُفّي أيتها الأفكار اللعينة عن إخافتي ، سيعودون جميعاً ، وسنعود إلى الوطن ، (يستطرد قائلا)

نعم سيعودون وسنعود جميعاً إلى الوطن ، (يقف بغرابة) ألا تصدقون ؟! ، إذاً فانظروا إليّ ، (يتحسس صدره وجسده)

ها أنا ذا لم يصبني أيُّ مكروه ، و نحن أسرة لا تفارقها سوى المنية ، نعم هي المنية فقط من تفرّقنا ومن تجمعنا مجدداً أيضاً ،

(يمسك قضبان القفص ويلطم رأسه بها)

لماذا نحن بالذات ؟!

لماذا نحن بالذات ؟!

لماذا كُتبَ على حيواتنا الشقاءُ وصادقتها التعاسة ؟!

(يتمالك أعصابه قائلاً)

نعم لن تفرقنا سوى المنية وما أشهاها في الوقت الحاضر ،

(يُخرج من جيبه الآخر قنينة دواء)

(يرفعه إلى محاذاة عينيه)

يقولون : إننا وصلنا إلى المياه الإقليمية لدولة تفشى فيها مرضٌ غريبٌ ، سببه فيروس يسمى (كورونا) ويقولون أيضاً أنني أصبت بهذا الفيروس ، وهذا هو ترياقه الشافي ، يجب عليّ أن آخذه جرعة واحدة ، و إلا سوف ينتشر الفيروس في جسدي في غضون ساعة وسَيُقضَى عليّ .

(يتأمل القنينة بتمعن)

يقلبها في جميع الاتجاهات قائلاً بغرابة) :

أبهذه القنينة الصغيرة تُرتَهن حياتي ؟!

وعائلتي ؟!

و تلك الأحلام الجميلة ؟!

(يبتسم بسخرية مادَّاً يده الحاملة للقنينة باتجاه المسرح)

هه أيَّةُ حياة ؟ و أيَّةُ أحلام دون عائلتي ؟!

دون وطني ؟!!!

(يُسقط القنينةَ من يده فتنكسر ، و يمد كلتا يديه و كأنه مرحبٌ بضيف كريم )

ما أشهى الموت على ذكر الوطن …

(يمسح جبينه بظهر كفه)

يا إلهي ما كل هذا التَّعرق الشديد ، أشعر بدوار .

(يغمض عينيه كأنه مخاطبٌ أحدهم)

هذا أنت أيها الموت الرحيم ؟!

(يبتسم)

أحسستُ بقدومك

اجمعني بهم أيها الزائر الكريم ، فقد خذلتُهم كثيراً في الدنيا

(إظلام ، وبؤرة ضوء تحيطه)

 يا خسارة ، كلُّ ما حلمتُ به يوماً ، لم يكنْ إلَّا محضَ حُلُمٍ مستحيلٍ ، إنَّهُ مجرَّدُ فكرٍ لرجلٍ بائسٍ ، فقيرٍ ، يحلمُ بصنع تاريخٍ و حضارةٍ …

حُلمٌ لمهمَّشٍ صغيرٍ يسعى للخروج من بوتقةِ الحروب والدّمار ، و لا يملكُ اسماً ، و لا جوازاً ، و لا حتَّى استمارةً ، كلُّ حقوقهِ كنايةٌ ، و كلُّ حياتهِ استعارةٌ .

(يمشي الهوينى بتأرجح)

فليرفعِ العمرُ يديه عنّي ،

أنا الكومبارسُ في مسرح الحياة ،

أموتُ حينَ ترتفعُ السّتارةُ …

(يسقط على الأرض)

<إظلام تام>

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى