مسرحية
السياسي العاشق
مونودراما
المنظر: غرفة في فندق تحوي سرير، ومرأة معلقة على الجدار أمامها منضدة، بجانبها دولاب صغير للملابس. تلفون ارضي قديم، نافذة تطل على الشارع. ثلاثة كراسي حول طاولة صغيرة. حقيبة سفر قرب الدولاب، وفي داخل الدولاب ملابس نسائية معلقة. فاتن في الثلاثينات من عمرها تلبس فستانا اسود. قلادة حول رقبتها خرزها ازرق مقاس متوسط.
موسيقى حزينة (عزف على الناي). فاتن تجلس على كرسي قرب الطاولة تنظر إلى سقف الغرفة.
تقف فاتن أمام المرآة، تنظر إلى نفسها تتنهد بضجر. تتوقف الموسيقى … (بتساؤل وهدوء)
هل أنا السبب بكل ما حدث معي؟ لم أكن أنا السبب وإنما حظيِ العاثر، (تهز رأسها نافية) لا، (بصوت عالي) لا، لا (تضرب الطاولة أمام المرآة بقيضة يدها) الحظ هو حجة الخاسر، لم يكن حظا ولا قدرا، (تقترب إلى وسط المسرح). لقد كانت مصيبة، ضاعت أحلامي في يوم واحد، ولم اعد افرق بين الحظ والقدر بعد ذاك اليوم المشئوم.
(تقترب فاتن من حافة خشبة المسرح المواجه للجمهور). سأنفض ما تعلق معي من ذكريات، وألم، وحزن، لقد كان حجم الألم كبيراً. لم أعيش قصة حب رومانسية ولا يوما، ولن أجرب أن أحبْ. كانت عائلتي ودراستي وعملي الجامعي رفيق عمري.
(من بعيد تنظر في المرأة وتشير بإصبعها إلى نفسها وتتكلم). (بسخرية وابتسامة حزن). أنت تعرفين حكاية فاتن، دكتوراه في الكمياء. (تضحك بهستيرية) وأستاذة في احدى الكليات.
(تقترب من وسط المسرح وبجدية). بعد سنوات عمري السابعة والعشرين. قررت أن أجرب الحب، ويكون الحبيب القادم شريك حياتي. كانت أمنياتنا كثيرة، رسمناها في أيام قليلة بفرح وسعادة. وتحقق حلم عمري، واقتربتُ من الوقوع في شِباك الحب. (تغني أغنية مليئة بالفرح، وترقص كالفراشة فوق الزهور) (ثم تجثو على ركبتيها وبنبرة حزينة). هل هو حظي العاثر؟ أن أجرب الحب. ويكون الحبيب هو الضحية.
(تعود إلى المرأة وتسألها بعصبية). تعرفين لماذا أنا هنا، في هذه الغرفة. (بهدوء) مر عليَّ أيام مليئة
بالمفاجئات والمغامرات. وضاعت السعادة التي تمنيتها، التي عملتُ سنوات من أجلها. واختفى الحبيب. رحلتُ بعيدا عن دار الحبيب، خوفا من أكون الضحية التالية. (موسيقى حزينة) (تخرج من حقيبة سفرها صورة حبيبها، وتضعها على الطاولة).
(تجلس على الكرسي مقابل الصورة وبنبرة حزينة). بداخلي أحزان وأوهام كثيرة تطبق على قلبي. أشعر
بالاختناق بكيت كثيرا في الأيام الماضية. (تنهض وبجدية) مهما يكون الإنسان قويا في حياته، يأتي يوم يشعر بالضعف.
(وتتمشى ببطء تحدث نفسها). (وتزداد نبرة صوتها تدرجيا). في هذه الأيام الصعبة أحتاج صديقاً مخلصاً، أين أجده؟ لا أعلم. أبكي أمامه بحرقه، أسرد له كل تلك أحزاني.، فكثيرين من أبناء بلدي جذبتهم بقاع الأرض. كل واحد في بقعة، هربا من أتون النار، التي تشتعل كل حين.
(ترفع رأسها للأعلى وتمشي بكبرياء وشموخ).
أمشي في الحياة رافعة الرأس لكي أعيش عزيزة، (تحدث الجمهور) المهم لا يوجد رجال أنذال حولي. لقد خرجت من جوف بركان النفاق، والخَدِيعَة، والمَكْر، والحِيلَة، والخَيانَة، والمَكِيدَة. فقدت الشعور بالأمان، وانتشر الحسد والنميمة والغدر والوشاية.
(تضرب الطاولة بقبضة يدها وبغضب وانفعال). والزواج بالإكراه. حرب بعد حرب، تهجير، خطف، تهديد، ليس حزني على الأحداث التي اسمعها. بل حزني على الزمن الذي جعل السفيه بطلا.
(تفتح النافذة وبصوت عالي تنادي للخارج). هل سأجد صديقا يستحق التضحية؟
(بهدوء تقترب إلى الوسط). والآن! مَنْ سيكون رفيقي؟ لا أعلم. أخاف من الأيام القادمة، أين ذاهبة لا أدري؟
(موسيقى كلاسيكية تقترب من المرآة تقف أمامها تعدل خصلات شعرها وبسخرية تسأل المرآة).
تعرفين يا عزيزتي هند، لماذا أنا هنا في هذه الغرفة؟
(تهز رأسها نافية). لا، لا تعرفين.
تقترب إلى الواجهة الأمامية (بهدوء وجدية). أنا أقول. حطت الطائرة فوق مدرج المطار. في الوقت كان قرص الشمس يختفي خلف الأفق. اتجهت نحو الفندق الذي سأقيم فيه عدة أيام. لحين لقائي المهرب، (بصوت عالي) نعم المهرب. يعمل دليل لأكبر مهربي اللاجئين والاتجار بالبشر.
(تتراقص حركات البالية بهدوء مع الموسيقى). هذه غرفة في الفندق الأحمر، الطابق الرابع. (باستهزاء) لأن غرف هذا الطابق مخصصة لتاجر البشر. (ببرود) استقبلني النادل الذي يعرف لماذا جئت إلى هنا. لأني ابحث عن وطن جديد. فكثيرين مثلي فقدوا الوطن، سجلتُ معلومتي الشخصية عند مسئول استقبال المسافرين، ولن أدون اسم بلدي.
(تقترب من النافذة تفتحها). لقد تلألأت النجوم في السماء، وفتح الليل أجنحته، فغمر الأرض ظلاما. (تقترب إلى الوسط) لا أخاف من سكون الليل، وظلامه، وهدوء الشوارع. فسكون الليل له تنهداته وآهاته. وأبدأ بالتمني وانتظر سعادة قادمة لي. لعل تجرني من حلم إلى أخر، تسمو الروح في حلمي. ربما شمس الغد تشرق عليَّ من جديد.
(تنظر من النافذة للخارج وتصرخ بصوت عالي). هل ابكي أم اشتكي للنجوم؟
(تسند ظهرها على الجدار وتبكي). سأبدأ حياة جديدة ابحث عن المجهول. كان ذلك الأفطس الطالب السياسي، سببا في تدمير حياتي. (بانفعال) مصلحته قبل كل شيء. هو السبب في وجودي هنا. السياسي العاشق هو السبب، يا الله لا أريد أن أتذكر وجهه. ولا كلامه. ذكريات عديدة تجول برأسي، لا أريد أن أفكر فيما مضى. ولهذا حملت حقيبتي ورحلت بعيدا.
(تدور عدة مرات وتجثو على ركبتيها وبانفعال وغضب). أصبح العالم غريب وعجيب، كثيرين هم سفهاء دون عقل، يدَعَون العلم والمعرفة، لكن الحقيقة جهلاء انتهازيين.
(تنهض وتغني أغنية والله يا زمن لشادية). (تهدأ وبهدوء). آه يا زمن، لو أستطيع أن أجد حلا لمشكلتي. وأكتب أيامي البائسة، وعن الأيام الخوالي.
(تقترب للواجهة). أكتب للجميع أن الحب أصبح كذبة صنعته الأيام. وصدقه الأغبياء، وكان عذابهم الهجرة. أنا من يعيش الوطن فيه، وليس أعيش في وطن.
(تنظر إلى ساعة يدها). (بهدوء) الساعة تشير للواحدة بعد منتصف الليل. لقد مر الوقت سريعا، أربع ساعات وأنا في هذه الغرفة. مازلت بملابس السفر، لقد نسيت أن أغيرها. لأني كنت اسرح في ذكرياتي وأحلامي.
(تفتح الدولاب وتختار فستان جميل تنزع الفستان الذي تلبسه وتلبس الفستان الجديد الأسود. تقف أمام المرأة تنظر نفسها بتعجب). كيف كان جمالي وكيف أصبح؟ بدأ جمالي يذوب ويختفي.
قبل مجيء إلى هذه الغرفة كنت اشعر بالجوع، فمنذ صباح اليوم، لم أكل غير وجه طعام الطائرة. طلبت من النادل أن يرشدني إلى أقرب مطعم قريب من الفندق.
(تسأل نفسها بنبرة مختلفة)، لماذا تضحكين يا فاتن؟ هل تناولتِ طعام العشاء؟
(تقترب لوسط المسرح وبنبرة صوتها). آه لو كنت تعرفين، تناولت أطيب وأشهى عشاء. وتعرفت على شاب وسيم. قدم لي بعض قطع الجبن والخبز القديم وقنينة عصير برتقال، وجلست خلف طاولة وبدأت أكل براحة البال، وانظر إليه وهو يمسح بلاط أرضية المطعم.
(تعود للمرآة وتسالها باستخفاف). أقول لك من يكون هذه الشاب.
(بهدوء وصوت خافت وتحدث الجمهور) أنه مقيم في هذا الفندق منذ شهرين، أو مقيم في السجن الذي اتخذه
المهرب، لجمع زبائنه القادمين من جميع الدول، ينتظرون المهرب، وكل أسبوع يقدم لهم موعدا للسفر، وعند اقتراب الموعد يغير موعده، هذا المهرب رجل كاذب، غير ملتزم بالمواعيد، وأنا المقيمة الجديدة القادمة هنا انتظر الموعد.
(تسحب الكرسي إلى وسط المسرح وكأنها جالسة على الشاطئ). لقد أُضيف اسمي لقائمة المنتظرين،
الحالمين بالسفر لشاطئ الثراء على الجانب الآخر من البحر، يِنْتَظَرُوا العبور إلى الجهة الثانية، الذين رَفَعُوا صلواتهم إلى السماء، كأن الشاطئ المقابل أصبح محرابا. للذين يبحثون عن السلام والأمن والأمان. (تنهض وبانفعال) ويبحثون عن وطن جديد، وهوية جديدة تمنحهم حياة كريمة. للذين ذَرَفُوا الدموع للوطن والدار ورحلوا. وخَلَعُوا وطنهم، وسلموا أجسادهم وأموالهم لعصابات الهجرة البشرية.
(وبصوت خافت وهادي ونبرة حزينة). كنت أتوقع أنا الوحيدة المظلومة في هذا الفندق، ولكن هناك العشرات ينتظرون، ولكل واحد منهم حكاية تصلح فلما.
(تقترب لوسط المسرح وتعود إلى المرآة تنظر لنفسها لحظات). أقول لكِ من هو، لقد وجدت الصديق الذي ابحث عنه، لا اسمح لأي بشر أن يأخذه مني. (بنبرة مختلفة) كيف تعرفت عليه؟
فاتن: أرشدني النادل إلى مطعم الفندق ووجدت الشاب الذي تعرفت عليه فهو صيدلي. ويعمل منظف لأنه صرف ما معه من المال، وصاحب الفندق سمح له بالبقاء، مقابل تنظيف الأرضيات. على الفور عرف لماذا أنا هنا في هذا الفندق الذي جمعنا القدر والصدفة. قال لي:(بنبرة هادئة) أكون سعيدا عند سماعي قصتكِ مع القدر، بعدها سأقص عليكِ حكايتي مع القدر، ونحكم من كان القدر ضده أو معه.
(بهدوء وكأنها تخاطب شخص أمامها). قلت له سأكتب قصتي على جدران السماء، ليعرف أهل الأرض معاناتي. عليكَ أن تسمع، وتحكم كم من الظلم قاسيت.
(تتقدم لوسط المسرح وتعود للخلف بسرعة خائفة). حكاياتي مع الأفطس الطالب السياسي العاشق، وماذا فعل معي؟
(وتتحدث بجدية وكل جملة تنقل من جهة إلى أخرى دلالة على ارتباكها). أنا اعرفه ماكر ومخادع، وجهه أسمر لفحته أشعّة الشّمس بوهجها. معتدل القامة رشيق القوام أفطس الأنف غليظ الشّفتين. أذناه قصيرتان، لحيته المهملة، وابتسامة شفتيه عشق من نوع آخر. يهتزّ جسمه النّحيل كلّما داهمته نوبة السّعال. طالب في كلية العلوم وسياسي، يحمل صباح كل يوم كتبه ودفاتره، ويقف وحيدا عند مدخل الكلية.
(تتفاخر بنفسها وملابسها). يترقب وصول أستاذة الكيمياء. التي حباها الله بجمال وضاح. ممشوقة القوام. وشعر منسدل، وعينان واسعتان جميلتان. وأنف دقيق صغير، وفم باسم لطيف. فكانت مبعث إعجاب لكل من يراها، ومنهم الأفطس الطالب في المرحلة الثالثة كيمياء. (تقف فوق الكرسي الموجودة في وسط المسرح). (بهدوء). أنا الأستاذة لم أنتبه يوماً بأن الأفطس يراقبني. أو يقف عند بوابة الكلية، يترقب وصولي لأني اعتبره أحد طلابي. انتبهتُ في أحد الأيام. وأثناء المحاضرة، أن الأفطس يسرح في أفكاره بعيدا. وكأنه يعيش في عوالم الخيال، وليس في قاعة كلية يستمع إلى أستاذته. وكلما نظرت إليه أرى عيناه فيهما نظرة مبتسمة على الدّوام.
(تفتح حقيبة السفر وتخرج مجموعة أوراق تقلبها ويداها ترتجف). لا ينفك يوما واحدا يقضيه مِن دون التفكير، في مدَى قُبحه، وأخيرا اكتشفت أنه مرسل هذه الرسائل، احتفظت بها سأنشرها في كل صحف العالم، وعرفت أنه يضعها في صندوق رسائلي المعلق قرب باب غرفتي في الكلية.
(تقرأ جملة من كل ورقة وترمي الورقة وتبحث عن الثانية هكذا). (بسخرية وارتباك)
أموت عندما أراك بعيدة عني، أتألم وليست مرمية في أحضاني ولن تنثرين شعرك الحريري على صدري، وكل لحظة أقبل جبينكِ ووجنتيكِ المحمرتين خجلا، اجلس بقربك حتى نار الشوق تخمد في أعماقي، وأقول لكِ بصوت خافت واهمس في إذنكِ إني أحبكِ، وتسمعين دقات قلبي، تحكي قصة عشقي وحبي لكِ وأسمع دقات قلبكِ تروي قصص حنينها لي، وأؤكد لكِ حبي ليس له نهاية، ولن أسمح أن تكوني في أحضان شخص أخر، أريدك لي متفرد متوحد، فأنا أناني في حبكِ، وأنا اعشق تلك اللحظة التي تكونين معي، وأكره تلك اللحظة التي تبتعدين عني.
(تبحث عن ورقة رمتها على الأرض مرتبكة زاحفة. تجدها وهي على أرضية المسرح واقفة على ركبتها)
هل ستقبلني أيتها الجميلة أستاذتي؟ وأنا بهذه الهيْئة. أتأمل نفسي واجد كل جوارحي تخبرني بأني ليس وسيما على الإطلاق ولن تقبلين بي، أنا ابن الفلاح المتكئ على مسحاته في حقله، فقير العائلة، ولكني سياسي، أم تحلمين بشاب جميل الطلعة رشيق القوام، غنيً يملك الكثير. أم أنتِ مغرورة متعالية، خبيثة، ماكرة، كذابة، لا تحملين الحب أو الود لي.
(ترمي الورقة بعصبية بعد ما تكبسها بيدها وتتلقف أخرى وتقرأها). الغلطة الكبيرة أنني قدمت لهذا العالم وأنا قبيح. يا حياتي، يا حبي الأول والأخير، الغلطة الثانية أنني ابن فلاح فقير، ولا أملك الكثير.
(تقف وتقرأ في الورقة ثانية ثم تتمشى). أكره نظَرات الناس لي، واشعر أنها نظرات الإشفاق. أو بعضهم ينظرون لي نظراتِ السُّخرية. وأتوقع أن كل من أراد أن يضرب مثلاً بالقبح يصفوني، لا أطيق رؤية وجهي في المرآة، بل أحاول أن أتجنب أي مكان فيه مِرآة أكره حياتي واشعر أن الجميع يكرهوني، والطلاب لا يريدون مصاحبتي لأن المشكلة هي قبيح وجهي. (بغضب وعصبية). عليكِ أن تحبيني مثل ما أنا أحببتكِ. وحبيني غصباً عنكِ.
(تضحك بسخرية وصوت عالي). أهملتُ رسائله ولم أفكر في طالب مهوس بأستاذته. (تقلده وهو صامت) كان يلجأ للصمت ولا يرغب البوح بما يدور بخلده. لأنه يخاف السخرية مني، ولا يحب أن يظهر صغيرا أمامي. يتردد في الاعتراف بمشاعره بالحب والتحدث عن حبه. وكان متأكد أني لن أتجاوب معه، ولن أبادله نفس الشعور. كان يعرف لحظة مصارحتي بالحب. سأرفضه ولن اسمح له أن يتحدث معي. لا يعرف كيف يتقرب مني لكي يقول لي احبكِ. وكل يوم يمر يزداد حبه وشوقه لي، ويحلم بعلاقة معي. وإنما يردني أن أكون بجانبه وشريكة حياته.
(موسيقى مع مؤثرات صوتيه برق رعد وصوت المطر). في صباح أحد الأيام الشتوية وقفت أمام نافذة غرفتي، انظر نحو حديقة منزلنا أرى الأشجار تهتز من شدة الريح، السماء يمزقها البرق، والرعد يصم الآذان والمطر ينزل بغزارة، ازداد الرعد فرقعة، وألهب البرق، كان اليوم شديدا مختلفا، في هذا اليوم القاسي، انقبضت نفسي، وتراجعت إلى الوراء، متسائلة مع نفسي في حيرة، هل أغادر هذا المنزل الدافئ؟ لأواجه هذا الزمهرير الهائج، أم أبقى في البيت. وأخيرا قررت الذهاب للكلية.
(هدأت الموسيقى ليعود البرق وصوت الرعد). ما هي إلاّ دقائق، حتّى استحالت حالته، من حزن وهمّ وحيرة إلى غبطة وسرور وفرح، وهو يشاهدني أترجل من سيارة الأجرة واحمي نفسي بمظلة من المطر. كعادته اليومية، كان الطالب السياسي العاشق واقفا عند مدخل الكلية يترقب وصولي. في هذا اليوم جاءت له الجرأة واخذ قراره ليحدثني ويصارحني بما يجول في فكره. اتجهت نحو مدخل الكلية وأنا ادخل تقرب مني وبدون أي احترام لأستاذته.
(تتقمص دور الطالب وبانفعال). لماذا تأخرتِ عن موعد الحضور للكلية؟
(تتراجع للخلف بفزع وخوف). (فاتن): تأخرت لأني جئت بسيارة أجرة، وانتظرت مجيء السائق.
(ضوء برق قوي قادم من النافذة يصاحبه صوت الرعد قوي). ثم تابعت الدخول إلى عمادة الكلية والى غرفتي. ودخل خلفي الغرفة وأغلق باب، واسند ظهره عليه.
(تنزوي في احدى الأركان بخوف شديد). تراجعتُ إلى الوراء كالمصعوقة خائفة، وأنحبس صوتي في حنجرتي، ولم اعد قادرة على النّطق من شدّة الفزع والاضطراب، وتجمّدت الدّماء في عروقي.
(تقترب نحو الطاولة). (تبكي) لأول مرة أبدو خائفة حزينة منكسرة، تسمرتُ فوق كرسي مكتبي لا اقوى على الحركة. تراجعت للخلف مع الكرسي وشعرت انه يقصدني ومتردد في مصارحتي، ضرب الطاولة التي أمامي بقبضة يده.
(تتقمص دور الطالب وبعصبية تضرب الطاولة أمامها). أنا أحبك، وأنتِ حبيبتي وجميلتي، ودنيتي وآخرتي، بدايتي ونهايتي، أنتِ آية في الجمال، أحبكِ لأنكِ بديعة خلق الله، وأحلى ما في الكون، أنا اخترعت الحب لأجلك؟
(تجثو على ركبتها تعود لشخصيتها وبخوف وارتباك). مَنْ تقصد بكلامك هذا؟
(تنهض وتتقمص شخصية الطالب). أنا في هواكِ تائه وبعشقكِ ضائع، تأخذيني إلى دنيا الأحلام، دنيا العشق والغرام، حيث لا أحد سواكِ، ما عدت أقوى على الحياة بدونكِ. كلمة أحبكِ لا تكفي لوصفك، أنتِ التي علمتني معنى الحب، أنتِ حبيبتي وعشقي أنتِ أهلي وأحلامي السعيدة.
(صوت الرعد يصاحبه وميض البرق)، (موسيقى وتتمايل كالفراشة). أنتِ فوق الحب كلّه، أنتِ حبيبتي التي قد شغلتِ وحيرت الكثيرين من الطلاب بجمالكِ، وأنتِ رائعة الحسن لا مثيل لجمالكِ.
(تضحك بسخرية تقف أمام المرآة تعدل شعرها وتتحسس وجهها). شعرت بخفقان شديد في قلبي وحبست أنفاسي، أتلو بهدوء وصوت خافت آيات من الذّكر الحكيم، وثم أدعو الله أن ينقذني من شرّ هذا الطالب والسياسي العاشق الذي فقد الأدب والاحترام لأستاذته.
(بصوت عالي وترفع يدها علامة للتهديد). لا اسمح لكَ بالحديث معي بهذا الموضوع، أنا أستاذتك وعليك احترامها، تفضل من غرفتي اخرج قبل ما اتصل مع عميد الكلية.
(تتراجع للخلف وكأن أحدا يلاحقها وبنبرة تهديد وانفعال وترفع أصبعها). لن اسمح لأي شخص يتقرب منكِ، طالما أنا على قيد الحياة، أنتِ لي. ولن اسمح لكِ تخطين شهادة موتي بيديكِ، (بنبرة تهديد) انتظريني يا دكتورة فاتن سأجعلك تقبلين يدي. وتركعين تحت قدمي، وتطلبين أن اغفر لكِ فلن أسامحك، (بجدبة وغضب) أنتِ حرقت كل أحلامي وقتلت نفسا كنتِ أنتِ شمسها وطعنتني بخنجركِ المسموم، “لن أغفر لكِ”. (تكررها عدة مرات) (موسيقى صاخبة، تدور حول ذاتها كأنها تبحث عن شيء) تشعر بالدوار تجثو على ركبتيها (وبنبرة تميل للتوسل).
الرّجاء والتوسل والطلب لا أمل فيها، فقد أغلقت كل الأبواب أمامي وألقت المفاتيح في سراديب النسيان، هل كرامتي أهم من قلبي الجريح؟ ينتابني شعور بالضعف، (تبكي) ما أصعب أن ابكي بلا دموع، وما أصعب أن اشعر بضيق وما أصعب أن أقابله ثانية في قاعة المحاضرات، وكأنّ القاعة من حولي تضيق.
(تتلقف تلفونها من حقيبة يدها وتطلب رقما). الو حبيبي، طلبت إجازة من العميد يمكن تأتي وتأخذني من الكلية أحب اليوم أن أكون معك.
(تبحث في تلفونها عن أغنية تحمل معاني الحب والعشق وترفع صوت التلفون يمتزج صوت الغناء مع أصوات الرعد. ينتابها شعور بالفرح والبهجة وتبدأ بالرقص كراقصة بالية ثم تجلس على الكرسي وتجهش بالبكاء). لقد اتصلت مع حبيبي وخطيبي وسأخرج معه اليوم، وابتعد عن هذا الطالب السياسي العاشق، (تقف معتزة بنفسها)، ما أصعب في الوجود أنني لا أبادله هذا الشعور بالحب، وما أصعب الإحساس عندما يكون الحب من طرف واحد، هل القدر كتب لي أن يحبني هذا الطالب؟ هل هذا عقاب من الله أن يتعذب طول حياته؟ ويحرم عليه الحب، أم كتب له القدر أن يعيش في الأحلام، أنا اشعر بحبي واهتمامي لخطيبي، فأنا أحب خطيبي بجنون.
(تتلقف فستان ابيض من حقيبة السفر وتراقصه مع صوت موسيقى هادئة). هذا الفستان لبسته يوم خطوبتي.
(ينتابها الخوف وتنظر من النافذة تترقب مجيء خطيبها) (تقف أمام المرآة وتسألها وتضع الفستان على صدرها). لقد تأخر حبيبي، تعرفين السبب.
(تهز رأسها نافية) (ترمي الفستان فوق السرير). لقد اشتدت بي الحيرة، وعصف بنفسي قلق هائل، تتلاعب بيَّ الأفكار كالريشة في مهب الريح وانتظر مجيء خطيبي.
(تضع يدها على قلبها ترفع بصرها نحو النافذة). أخذ قلبي بالخفقان بشدّة من الخوف، وجفّ ريقي، وتحطمت
معنوياتي وقعت في قبضة الخوف، يراودني أفكار كثيرة.
(ترفع يدها للسماء تدعو بصوت غير مسموع وتجهش بالبكاء). (تمد يدها على القلادة المعلقة برقبتها وتفكها وتنقطع القلادة وتنتشر حبات خرزها على سطح المسرح ينتابها خوف شديد كأنها فقدت اعز شيء عندها، تصرخ بصوت عالي تجثو على ركبتيها وتبدأ بجمع حبات الخرز)، خطرت له فكرة الانتقام مني، ووجه لي ضربة قاضية، وأخذت الخيبة تنهش قلبه واليأس يطغى على نفسه، فقد غابت عن عينيه شمس السعادة، التي يحلم بها واقتنع أنني أحب خطيبي ولا أحبه.
(تبكي وتستمر بجمع حبات الخرز) (صوت هزيم المطر والرعد)
(تبكي) أحس أن قلبي منقبض من يوم ممطر، برياحه الهوجاء وبرده القارص، (بارتباك) رن تلفوني الجوال وكان الرقم مجهول، واسمع المتحدث يقول: تعرفين مصير الخائن، خطيبكِ الدكتور الجامعي، لقد ادخل أحد المعتقلات لتعاونه مع مجموعات إرهابية، ولدينا تقريرا مفصلا عن جرائمه، وارتباطه مع إرهابين يخططون لقلب نظام الحكم واغتيال مسئولين سياسيين. (تضرب بكفيها خشبة المسرح).
(تنهض وتقف كأنها محامي في محكمة تدافع عن متهم). غاب نور العدالة، وأصبح الظلم سائدا بين الناس، والحكام الجالسين على الكراسي هم من ظلموا وطغوا وأفسدوا.
(تدور حول نفسها تضرب فخذيها بيدها كأنها تبحث عن شيء). بهذه السرعة اختفى حبيبي، أنها اليد الطويلة التي حرمت الأبناء من آبائهم، وحرمت الأمهات من أبنائها، وحرمت الزوجات من معيل يقدم لهم لقمة العيش. اتصل معي سكرتير العميد قائلا: دكتورة فاتن، عميد الكلية بانتظاركِ تفضلي إلى غرفته.
(تمسح دموعها بكم فستانها) (تمشي ببطء وهدوء وتقف وسط المسرح). (تقلد صوت العميد وبانفعال). تعرفين دكتورة فاتن أن كليتنا مختلطة، وعند مجيء الأستاذة أو حتى طالبة باهرة الجمال، وشعرها المنثور على كتفيها، بملابسها المغرية الضيقة والقصيرة والمفتوحة، وتبرز مفاتن أنوثتها وجاذبيتها، له سيئاته الكثيرة، انه من غير اللائق والأصول أن تقف دكتورة مثلكِ أمام طلابها كأنها تقدم لهم مشهدا إغرائيا، وليس محاضرة في علم الكيمياء.
(تعود لشخصيتها). أنا واقفة أمامك بملابسي المحتشمة.
(بنبرة تهديد وغضب). اعتبري قرار صادر من مجلس الكلية، بإيقافكِ عن التدريس، وإحالتكِ على لجنة الانضباط.
(تجلس على كرسي تجهش بالبكاء). أنا غير مصدقة ومذهولة مما تقول يا عميد الكلية. ليس من الضروري مراجعتي للجنة، اعتبرني مستقيلة من الكلية.
(موسيقى حزينة) (وبنبرة باكية). حملت حقيبتي وخرجت من الكلية وعند باب الخروج، (بجدية) أرى الطالب السياسي القبيح واقفا، وارتسمت على ثغره ابتسامه عذبه، وفى عينيه نظرة سرور ومرح، وغمرته سعادة لا توصف، وفرحة عارمة، ينتابه شعور رائع لا مثيل له في العالم، فقد استطاع إهانتي بعد أن لفق لي قصة بالكذب والخيال لدى العميد، جاءت رغبته بالانتقام نتيجة الإحباط بعد ما رفضه، تمثلت في حنق وغضب شديدين، وفي داخله ثورة عارمة بحيث يفكر بمئات الخطط ويجعلني اركع تحت قدميه.
(تجمع أوراق الرسائل المنتشرة على المسرح)
الطالب معروف لدى الجميع انه يتفاخر بعلاقاته وصداقاته مع المسئولين والسياسيين من الحزب الذي ينتمي إليه، والجميع في الكلية يعرف أن هذه العلاقة توصله لكل شيء يريده، فعندما شاهدني اخرج من الكلية باكية احمل حقيبتي وكتبي، تقرب مني وعرض عليَّ مساعدته قائلا: كل شيء يعود مكانه، إذا وافقت على الزواج مني.
(استلقت على السرير محدقة في السقف). لماذا تصرف العميد معي هكذا؟ هل يعي أنه بتصرّفاته ربما يتسبب في تدمير حياتي؟ لماذا لا يعي خطورة سلاح الكلمات؟ والتي كانت سبب في تقديم استقالتي.
(تنهض وتبقى جالسة على السرير وبهدوء). في المنزل دخل والدي العجوز إلى غرفتي قائلا: يا ابنتي خذي الأمور ببساطة، ولا تحملين نفسك فوق طاقتها، واحكي لي ما حدث. سردت له ما جرى خلال ساعة واحدة، واختفى خطيبي وأنا قدمت استقالتي.
(تقف وبخشوع تقلد والدها). إذا كان العميد يتأثر بكلام طالب، فعليه ترك العمادة، ولكن لابد من وجود سبب كبير، وتحت تأثير ضغط سياسي، بحث أصبح مستقبله مرهونا بإصدار هكذا قرار. لا تجعلين الحزن يأسرك ويقيدك بقيوده، ويأخذ من وقتك الكثير، ولا تحملين هم الدنيا على رأسكِ، وأنتِ تعلمين أن حالك أفضل منه، أنا متأكد أن العميد سيتصل معكِ، ويعود إلى رشده، لأن الطلاب سيحتاجون لأستاذتهم. وأنا وعمكِ سنجد حلا لخطيبك.
(تقترب من المرآة وتكلم نفسها) (تضحك بهستيرية). ببساطة والدي حل المشكلة، وعميد الكلية سيتراجع، ويجدون حلا لخطيبي ونسى أن هناك شرط وضعه السياسي العاشق، وهو القبول بعرضة والركوع تحت قدميه. (تدور حول نفسها). الساعة الرابعة عصرا دق جرس باب المنزل، أخذ قلب والدي يخفق بشدّة من الخوف وجفّ ريقه. فتحت الباب وكان مفاجئة لي وإذ احدى الطالبات، يسيطر عليها الخوف تتلفت يمين ويسار مرعوبة ممن يراها تدخل المنزل، رحبتُ بالضيفة الغير متوقع مجيئها لأنها أول مرة تزورني، عيناها ممتلئتان بالدموع وصوتها يرتعش.
(بصوت خافت حزين). دكتورة فاتن أرجو المعذرة لمجيء في وقت غير ملائم وبدون موعد. لا أريد أن ادخل في نقاش من أين اعرف هذه الأخبار، الطالب والسياسي العاشق بلغ عليكِ. أنتِ متهمة أيضا مع خطيبك بالتعاون مع الإرهاب. أرجوك أتوسل إليكِ اخرجي من المنزل، واختفي حتى تنحل المشكلة، لأن الأفطس سياسي متمرس محنك يعرف كل الخبايا، ويقدر أن يفعل ما يريد.
(تنزوي بزاوية وتستد جسمها بجدار). شعرت بفزع واقشعر بدني وسرت فيه رعشة من الخوف وخرجت من المنزل بعدما حملت بعض احتياجاتي، واختفيت عند عائلة صديقة. كان الوقت غروبا على الحي السكني حاصره الظلام، أسند والدي ظهره على أريكة يداعب حبات مسبحته، يدرك أن الليلة ستكون للقهر، يعرف مهمة الأغراب القادمين، سيدفع لهم ما يريدون حتى لو نهبوا المنزل، سيضع كل شيء تحت تصرفهم مقابل الابتعاد عن ابنته.
(تقترب نحو وسط المسرح). فتحوا الباب وإذا ببشر كثيرين مدججين بالسلاح، يحملون مصابيح تعمل بالبطارية، اقتحموا المنزل دون استئذان، وسلاحهم هو تصريح دخولهم، في لحظات انتشروا داخل المنزل، جالوا بين غرفه يفتشون كل محتوياتها، قلبوا أسِرَّة الغرف وافرعوا الدواليب، تفاجئوا بعدم وجودي في المنزل. مسح والدي دموعه التي ترقرقت رغما عنه، يعرف أن حياته أصبحت مهددة وتقف على حافة سؤالهم، أين ابنتك؟ سمح الكبير بينهم لوالدي إطفاء المدفئة النفطية والفانوس، ثم قفل باب المنزل وبسرعة شديدة غادروا المكان ووالدي معهم. في الصباح استدعوه، إلى الغرفة المشهورة والمعروفة لدى كل المعتقلين غرفة التحقيق، جلس المحقق وكأنه الملك الديان ينفث دخان سيجارته في سماء الغرفة، استقبل المحقق والدي بصفعة كف مفتوح طرحه أرضا. صرخ على حراسه، انقلوه إلى المستشفى مات العجوز بالسكتة القلبية.
(موسيقة جنائزية ترقص كفراشة تطير ثم تسقط على الأرض. تغلق الستارة).
انتهت
بدري نوئيل يوسف