قبو سفلي معتم إلا من نافذة عالية تكاد تلامس السقف . جدرانه المائلة عبارة عن رفوف محفورة تزدحم جنباتها بالكتب و المجلدات . في مقدمة الجهة اليسرى للركح تجثم تميمة محرك البحث غوغل الشهيرة على شكل مجسم بلوري شفاف . جنباته المضاءة تشع بألوانه التي تشكل رمزه الأيقوني . ينتصب فوق المجسم مانيكان بلوري مضاء تنكفئ على قمته قبعة طويلة صفراء مزينة بنجوم زرقاء و خضراء و حمراء وتتدلى منه لحية زرقاء طويلة مضفورة و سلهام أحمر باذخ مبطن بالحرير الأزرق مما يوحي بلباس ساحر غربي . بينما تجثم في مقدمة الجهة اليمنى منصة عتيقة مخصصة للخطابة فوقها مطرقة خشبية كبيرة و شاشة ورقية رقمية ملتصقة بواجهتها الأمامية . في حين تتراكم ثلاثة صناديق على مسافة غير بعيدة عن باب القبو المائل المجوف . تظهر الأضواء المتراقصة للمجسم البلوري لأيقونة غوغل وسط العتمة قبل أن تنبلج الإضاءة كاشفة عن مسرور بالقرب من الشيخ القوقل .
مسرور :
سأزلزل شبشوبة المسعورة…سأهزها هزا بهذا الحدث المذهل …سأفاجئها بهذا الخبر المبهر لعله يمتص طوفان غضبها و تقرر العودة لهذا البيت ( يسحب من جيب سترته هاتفه المحمول ) الحياة بدون شبشوبة المسعورة مملة يا شيخنا الجليل..مملة جدا ( يركب رقما هاتفيا ) آلو …( للشيخ القوقل وهو يبعد الهاتف عن أذنه ) عند مستهل كل مكالمة مع شبشوبة أمنحها فسحة من الوقت لكي تفرغ جحيم سعارها الشهير وحممها البركانية المشحونة بالزعيق والنعيق و البصق و السباب والقذف بأقذع النعوت وأفحش المصطلحات من عيار خمسة نجوم تحت الصرة و سبعة نجوم فوق الركبة .. وهو سعار عادة ما ينتهي بالولولة و اللطم والعويل والبكاء على شبابها و أيامها التي ضاعت مع رجل فقير حقير سكير مثلي ( يقرب الهاتف من رأس الشيخ القوقل ) إسمع يا شيخنا قذائف المدفعية الثقيلة و القنابل الإنشطارية و الصواريخ الباليستية المحملة برؤوس الثوم المنقوع في الزنجبيل ( يعيد الهاتف المحمول لأذنه ) قبل أن تقفلي الهاتف في وجهي كعادتك أريد أن أزف لك هذا الخبر البهيج..أتدري من شرف بيتنا المتواضع ؟ ( يتنحنح ) إنه الشيخ القوقل…نعم غوغل شيخ شيوخ العارفين أجمعين..لقد أطلق العنان لكل قنواته ومحركاته القوقلية للبحث عني في كل بقاع الأرض … لقد جاء خصيصا لكي يدون سيرتي الذاتية باعتباري آخر بائع للكتب في كل الأزمنة … لا يا شبشوبة .. إنتظري أرجوك ( ينظر إلى الهاتف ممتعضا ) المسعورة … لقد اغلقت الهاتف في وجهي ( لشخصية القوقل ) لقد اعتبرت كلامي مجرد خدعة بليدة لاستدراجها للعودة لبيتها ( في تلك اللحظة تسمع طرقات على الباب .. تزداد الطرقات عنفا .. يلتصق مسرور بصفحة الباب كسحلية متلصصة .. تسمع طرقات أشد عنفا فيفزع مسرور إلى الخلف .. يبتلع ما تبقى من لعابه اللزج المالح وقد استبد به رعاش عارض .. يرمق ظرفا بريديا ينزلق من تحت الباب قبل أن تتناهى إلى سمعه خطوات ثقيلة تبتعد شيئا فشيئا .. يعاود الإلتصاق بالباب ليتأكد من مغادرة الطارق المزعج .. يعود و يلتقط الظرف وهو يتفحصه بارتياب غريزي قبل أن يفتض غلافه مفرجا عن مظروف إداري( يمسح المظروف بعينيه ) هذا إنذار قضائي يطالبني بالإفراغ العاجل من … ( يقهقه و هو يهتز بطريقة كاريكاتورية ) عفوا يا شيخنا الجليل … أنا فقط أفتعل القهقهة والقعقعة وزلزلة الكتفين و هزهزة الرأس … تخيل معي يا شيخنا الجليل أنهم يطلقون على هذا القبر الحضيضي صفة منزل مع أنه مصنف كأحد المحميات الطبيعية الحاضنة والمحتضنة لأعرق
1
سلالات الجرذان والفئران وكل القوارض القارضة والمنقرضة…أنظر يا شيخنا سأعيد أمامك مشهد القهقهة والقعقعة والزلزلة باحترافية لا مثيل لها ( يقهقه و هو يهتز كمن أصيب بمس … يسمع هدير قطار آت من بعيد فينخرط مسرور تلقائيا في العد العكسي بأصابعه ) خمسة .. أربعة .. ثلاثة .. اثنين .. واحد .. صفر…( يخبو ضوء المصباح الوحيد و يسود ظلام دامس بالتزامن مع الارتفاع التدريجي لهدير القطار السريع الذي يمر فوق القبو . و مع ابتعاد صخبه يعود ضوء المصباح للانبلاج تدريجيا مبددا عتمة الغرفة ) .
مسرور :
( مستلق فوق أحد الصناديق المرتفعة وقد وضع وردة حمراء كبيرة في عروة صدر سترته . يفتح صندوقا بجانبه و يسحب منه قنينة كحول يعب منها ثم يتجشأ بصوت مسموع ) هذه إحدى عطايا مولانا ” قعبور” الوقور ( يعب من القنينة وهو يخاطب الشيخ القوقل ) تسألني يا شيخنا من يكون قعبور هذا ؟ إنه الإمام الذي يصلي بعمال معمل الخمور القريب من حينا العشوائي … رجل طويل جدا … وقور جدا … لحيته طويلة جدا جدا … يقوم الليل و لا تفوته سنة من السنن و لا نافلة من النوافل ( يتجشأ بعد أن يشرب من القنينة ) يعمل الآن بكل تبتل و روحانية موزعا للمشروبات الروحية … اختار قصري المنيف مخزنا مؤقتا لصناديق القنينات التي يصادرها لحسابه … يعتبرها زكاة مفروضة على صاحب معمل الخمور البخيل الشحيح بموجب فتوى من فتاويه الشهيرة ( يقهقه قهقهته الشهيرة وهو يستمع للشيخ القوقل ) نعم يا شيخنا … هو إمام و مفتي و شيخ شيوخ الطريقة القعبورية وأنا واحد من مريديه ( ينهض و يلتقط الظرف من جديد ثم يوجه خطابه للشيخ القوقل ) على أية حال هذه ليست المرة الأولى التي أتوصل فيها بإنذار بالإفراغ من المحكمة … فلدى جنابنا الشريف تاريخ طويل وعريض وسمين مع الإنذارات بالإفراغ والإخلاء والتهجير الطوعي و القسري ( يقرمش الظرف و المظروف بين أصابعه قبل أن يركلهما برجله بعيدا كالكرة ) لا زلت أذكر ذلك اليوم المشؤوم الذي تلقيت فيه حكما نهائيا بإفراغ دكان والدي ( ملتفتا للشيخ القوقل ) لا يا شيخنا الجليل … لم يكن لوالدي دكان تجاري يكدس فيه البضائع … و لا دكان سياسي يكدس فيه المصالح … لقد كان والدي طيب الله ثراه سيد قوم الباعة و البائعين أجمعين … بضاعته كانت أنفس من اللؤلؤ و الياقوت و المرجان … و أغلى من الذهب الأصفر و الأسود أيضا … أنا بلا فخر بائع وابن بائع من قال في حقه المتنبي ( ينشد ) خير جليس في الزمان كتاب … وقال في حقه آخر ( ينشد بطريقة مبالغ فيها ) نعم المؤنس والجليس كتاب / تخلو به إن خانك الأصحاب … هذه الأبيات المأثورة كان والدي يرددها بقداسة وحماسة صباح مساء على مسامع زبنائه وزواره وخلصائه وأعدائه أيضا ( يجلس على صندوق قريب من الشيخ القوقل ) كنت وأنا صبي طري العود ألعب في دكان أبي بتصفيف الكتب … وآكل وأشرب و أتبول وسط ركام الكتب … وأنام كالملائكة متوسدا رزم الكتب … وعندما بدأ يشتد عودي صرت مساعدا لأبي في بيع الكتب المستعملة … ( فجأة تنفتح نافذة القبو بعنف و تقذف عبرها العشرات من أوراق الإنتخابات قبل أن يظهر عبر النافذة مكبر صوت ضخم حاشيته المستديرة مدببة ومسننة ) .
2
مكبر الصوت :
( يزعق بصوت خطابي كاريكاتوري ) أيها المواطن المدفون تحت الأرض … أيها المواطن المقهور المدحور المهجور … نحن من سينتشلك من ظلمة القبور لنعبد لك كل الجسور … و نفتح لك بوابات العبور إلى رحابة القصور … صوت ثم صوت على لون نجاتك … صوت ثم صوت على لون خلاصك و خلاص أبنائك وأحفادك وأحفاد أحفادك وإن سفلوا. ( يشرع مكبر الصوت في تكرار ندائه الإنتخابي ) أيها المواطن المدفون …
مسرور :
)يظهر من بين الصناديق حاملا سوطا يلسع به أديم الأرض . يفتح الباب ويخرج هائجا . ينسحب مكبر الصوت من النافذة . يسمع بالخارج صوت عويل كلب يتلقى ضربا مبرحا ومؤلما . يعود مسرور إلى القبو وهو يلهث ) أديت واجبي الوطني وأدليت بسوطي الإنتخابي ( يلقي بالسوط بين الصناديق وهو ينفض يديه ملتفتا للشيخ القوقل وكأن شيئا لم يحدث ) نسيت يا شيخنا الجليل أن أخبرك بأن والدنا عاشور بن دهشور بائع الكتب المستعملة الشهير كان قبلة لمريدي الكتب النفيسة … ومزارا لعاشقي المجلدات والمصنفات العتيقة … لقد كان والدنا رضي الله عنه وأرضاه كتبيا جامعا مانعا ومفهرسا ساطعا لامعا … يكفي أن تلقي على مسامعه بعنوان الكتاب حتى يسحبه سحبا من بين أطنان الكتب المكدسة في دكانه تماما كالساحر الحاذق الأنيق الرشيق الذي يفرج فجأة عن أرنب من تحت قبعته السوداء … لهذا كان زبناؤه وجلساؤه يلقبونه بالفهرستاني … وهو اللقب الذي كان يفخر و يفاخر به القاصي والداني ( يقترب من الشيخ القوقل ) أراك تدون و تقوقل كل شيء يا شيخنا ( ينشد ) ومن لم يقوقل الناس يقوقل ( يطلق العنان لقهقهته الشهيرة و فجأة يتوقف عن الكلام وهو يصيغ السمع ) إني أسمع خشخشة ( يعيد القنينة إلى الصندوق محاولا أ لا يحدث صوتا ثم يلتصق بالباب وينصت بجسده كله . يفتح الباب بخوف و توجس نصف فتحة فتنجذب ذراعه بعنف نحو الخارج . يتشبث بالباب وهو يصرخ . يصارع لاستعادة ذراعه المنجذبة بالقوة . و عندما يفلح في استرجاعها يغلق الباب بصعوبة شديدة . يلتصق ظهره بالباب قبل أن ينزلق جالسا على الأرض وهو يلهث بصوت مسموع . فجأة يرتفع نباح كلاب شرسة من خلف الباب . يقفز مسرور مذعورا ليتوارى وراء الصناديق . تستمر زمجرات الكلاب الجائعة كأنها تنهش لحم فريسة . وعندما يتباعد النباح ينسل مسرور من خلف الصناديق ويلصق أذنه بالباب ) … في المرة الأخيرة التي فتحت لهم فيها الباب نزلت علي هراواتهم و عصيهم من كل حدب وصوب … كانوا ينهالون على جثتي كما ينهالون على جحش أجرب مصاب بأنفلونزا الجحوش ( يعود ويلصق أذنه بالباب ) الحمد لله لا أحد .. ولا اثنين .. ولا حتى ثلاثاء ( لشخصية القوقل ) إنه عبد الجبار الجزار الذي لا يشق له غبار … لقد أرهقته مسطرة دعاوى الإفراغ القضائية الطويلة التي رفعها ضدي .. لهذا تراه يمارس علي لعبة الإرهاب هو و أعوانه حتى يرغمني على مغادرة قبوه … إنه يريد أن يحوله إلى مخزن للثلاجات الضخمة التي ستستقبل لحوم الكلاب و الحمير والبغال المريضة قبل أن تتجه لمجزرته على أنها لحوم طرية للبقر والأغنام … وحدها زوجتي شبشوبة المسعورة كانت تتصدى لهم بسعير سعارها الذي كان يزلزل صداه أركان الحي بأكمله ( ينصت لشخصية القوقل ) تسألني يا شيخنا لماذا غادرت شبشوبة البيت ؟ حاضر سأجيبك ( يلف
3
رأسه بمنديل نسائي وآثار التعب بادية على مشيته الأنثوية وهو يتجه نحو منصة الخطابة ثم يخبط صفحتها بالمطرقة الخشبية الكبيرة ثلاث دقات قبل أن يشرع في اعتصار الكلمات على طريقة زوجته شبشوبة المسعورة ) أنهض كل صباح كالمسلوقة … أشتبك مع المطبخ كالممسوسة … أغادر هذا القبو كالملسوعة … أمشي في أرض الله كالمشبوهة … أستقل حافلتي أو بالأحرى مصيبتي اليومية حيث الكتل البشرية ترتطم .. تختنق .. تلتحم .. قبل أن ألتحم من جديد مع مئات الصحون و الأواني في مطبخ فندق مصنف سبعة نجوم خطر …. تديره مديرة برتبة قوادة … تشنف مسامعنا كل يوم بفضلات قاموسها أو بالأحرى قادوسها الكريه المتعفن ( يتنهد بصوت مسموع كالنساء ) سنوات وسنوات و أنا أكد و أشقى كالبغلة من أجل زوج سكير .. فقير .. عاطل معطل … وعندما أعود إلى بيتي وأندس في فراشي أجد رجلا باردا كالثلج ( مسرور يلتفت إلى الشيخ القوقل وهو يخلع المنديل النسائي ) لا تنظر إلى يا شيخنا بنظرات الريبة .. شبشوبة تقصد البرود العاطفي و ليس البرود الذي يدور في رأسك … و الدليل هو أن والدي عاشور بن دهشور لم يكن فقط بارعا في فهرسة الكتب والمجلدات العتيقة والمحدثة … المقدسة والمدنسة … بل كان أيضا من كبار مفهرسي زبونات السوق المتمرسات … وخاصة منهن الدبابات البشرية اللواتي تفيض أرطال اللحم والشحم من أمامهن و خلفهن وتهتز متدلية من بين ثنايا أعطافهن … مما يحدث زلزالا ارتداديا في سلم استشعار والدنا المشمول بمغفرته عاشور بن دهشور الفهرستاني الذي كان متخصصا في فهرسة الدبابات البشرية وتصنيفها و جدولتها قبل أن يفرج عن نابه الذهبي الشهير( ملتفتا للشيخ القوقل ) نعم يا شيخنا كان لوالدي ناب مغشى بالذهب … إنه شيفرته السرية التي كان يستميل بها صاحبات الأرداف الثقيلة و الأعطاف الثخينة والضفتين المتلاطمتين . وطبعا لا حاجة بي للتذكير أن مدخرات والدنا لا غفر الله له و لا أسكنه فسيح جناته ضاعت وتبخرت ما بين هاتين الضفتين اللعينتين ( ينفض ما بين يديه ) تضحك يا شيخنا .. ستضحك أكثر عندما ستسمع مهزلة المهازل ونازلة النوازل..ستضحك من قلبك و مصارينك و كل مخارجك أيضا ( يقترب منه ) في إحدى الليالي المقمرة و بعد أن خاض والدنا رضي الله عنه و أرضاه معركة تاريخية مع أرطال لحم إحدى الدبابات البشرية من ذوات الأوزان الثقيلة و السوابق المجيدة و اللواحق العتيدة .. قرر أن لا يدفع لها أجرها عدا ونقدا و إنما دررا ونفائس من أمهات كتب الفقه والتفسير مشفوعة بديوان شعري للبحتري.. فما كان من المرأة التي أصيبت بسعار هستيري إلا أن لطمته بالكتب وهي تصرخ في وجهه : “إسمع يا ابن الديوث لو أن بحتريك هذا ضاجعني شخصيا لأرغمته على تعويضي بالعملة الصعبة مع أداء رسوم الضريبة على القيمة المضافة وهو ما ستؤديه يا ابن العاهرة حالا ” ثم جثمت بكل أثقالها وأوزارها وأرطالها و أطنانها على صدره واقتلعت نابه الذهبي الشهير بالقوة قبل ان تختفي عن الأنظار ( يرسل قهقهته الشهيرة لكن قهقهته سرعان ما وقفت في حلقه بعد أن انفتحت في تلك اللحظة نافذة القبو العالية بعنف ليظهر عبرها مكبر صوت تتدلى منه لحية طويلة فيهرع مسرور ليختفي من جديد وراء الصناديق) .
مكبر الصوت :
( بصوت رنان فخيم ) أيها المؤمن المدفون تحت الأرض و كل الأراضين … نحن من سينتشلك من أسفل سافلين الى أعلى عليين … نحن من سينقلك من مدفنك الحضيضي إلى مسعاك الفردوسي … اللعنة ثم اللعنة على الكفرة الأراذل الذين يحشرونكم حشرا في القبور … حشرهم الله يوم الحشر
4
عراة حفاة مع الشياطين الأباليس … أيها المؤمن المقهور .. ما جدوى عيشك مدفونا في قبور مظلمة وحفر معتمة ؟ … حيا على الجهاد ضد الكفرة المرتدين عن الملة و الدين … حيا على الإستشهاد … حيا على الميعاد … قصور الجنة تناديك … الفردوس الأعلى يناجيك … مفاتن الحور العين تنتظر فحولتك … أبشر ثم أبشر … ستطأ كل يوم سبعين صبية من الحور العين المانيكانات الشقراوات الفاتنات بإذن الله ( مسرور يظهر من خلف الصناديق حاملا سوطه يفتح الباب ويخرج هائجا بينما مكبر الصوت يكرر نداءه ) أيها المؤمن المدفون ……( فجأة ينسحب مكبر الصوت من النافذة ويسمع بالخارج صوت عويل كلب يتلقى ضربا مبرحا ومؤلما ) .
مسرور :
( يعود إلى القبو وهو يلهث . يلتقط قنينة و يعب منها ثم يتجشأ بصوت مسموع ) قنيناتك المغشوشة يا مولانا قعبور صارت كالمياه العادمة .. تثخن معدتي دون أن ينتشي مخيخي ( يلتفت لشخصية القوقل ) ماذا قلت !؟ متلهف لسماع ما جرى لوالدي عاشور بعد حادثة سرقة نابه الذهبي !؟ ( يقهقه قهقهته الشهيرة ) أنت لئيم وخبيث يا شيخنا … تنتشي وتستلذ بمصائب الآخرين … وخاصة إذا كانت المصيبة برتبة أم المهازل كما هو الحال بالنسبة لمهزلة والدنا الذي انتشرت فضيحته كالنار في الهشيم … وتحولت قصته إلى ناذرة النواذر في سوقنا الشهير بترويج الفضائح كما تروج اللحوم الفاسدة ( للشيخ القوقل ) ستفاجأ يا شيخنا عندما ستعرف أن هذه الحادثة لم تكسر ظهر أبي و إنما الذي كسر ظهره و ظهر كل الكتبيين والمكتبيين أجمعين هي شريحة صغيرة جدا ودقيقة جدا … شريحة كشفرة الحلاقة لكنها تمتلك قوى سحرية خارقة و ذاكرة أسطورية ما فتئت تبتلع وتلتهم كل الكتب و المجلدات و المصنفات و المطبوعات والمنشورات منذ بدء الخليقة إلى اليوم ( يعب من القنينة ) و المصيبة أن هذه الشريحة الكاسحة المكتسحة تستوطن أجهزة رقمية جبارة ما انفكت تمارس سحرا مغناطيسيا رهيبا على العالمين … فترى رؤوس الناس مدفونة كالنعام في الهواتف الذكية … و ترى مصائرهم مرهونة بحواسيبهم المحمولة … و ترى أفئدتهم تكاد لا تنبض سوى مع جريان صبيب الإنترنيت في شرايينهم وعروقهم مجرى الدم ( إظلام تام يعم المكان . بؤرة ضوئية تعزل مسرور وهو يقف أمام المنصة ويده اليمنى تحرك كركوزة رأس كاريكاتوري لرجل مسن ) كان والدي غالبا ما يرفع عقيرته ساخرا ( مقلدا صوت والده الأجش وهو يحرك رأس الكركوزة ) هزلت يا ناس … لقد صار قارئ الحاسوب يتحسس مؤخرة الفأرة قبل أن يقرأ مقدمة ابن خلدون … مسخرة آخر الزمان …. القراءة يا ناس صارت مرهونة بتحسس مؤخرات الفئران … والله و تا الله و أيم الله إنها لمن علامات الساعة ( مسرور يرسل قهقهته الشهيرة ) مرت يا شيخنا السنوات تلو السنوات والأعوام تلو الأعوام … وانقرضت المنشورات والمطبوعات الورقية … و اختفت الكتب والمكتبات … و انقرضت الفأرة ومؤخرتها المضغوطة … و صار العالم يوجه ويدار بوخزات الأنامل على الشاشات … وخزات و نقرات … وخزات و نقرات … و والدي المسكين يراقب العالم من بيضة دينصور بعد أن تحول دكانه إلى مقبرة منسية … كان المسكين يتحسر على أيامه الخوالي وهو يتآكل يوما بعد يوم ( يطبطب بيسراه على رأس الكركوزة ) في مرضه الأخير قال لي والدي وهو يحاول ان يرفع من همتي ( مقلدا صوت والده الأجش و هو يحرك رأس الكركوزة ) أنا اعلم
5
يا ولدي يا مسرور بأني لم أترك لك مالا و لا متاعا ولا ضياعا .. ولكني تركت لك كنوزا ورثتها عن آبائك و أجدادك … تركت لك دررا لا تبلى … تركت لك كتبا ومجلدات للزمخشرى وأبي تمام والمتنبي والبحتري و … ( صوت مسرور مقاطعا والده ) الزمخشري يا أبتي و البحتري والمتنبي وأبي تمام و كل من كان قبلهم وكل من جاء بعدهم … تم تهجيرهم قسرا من ضفاف الكتب و المجلدات إلى العالم البراق … العالم الرقمي الجهنمي … ربما يتحتم علي أنا أيضا أن أهجر هذه الحرفة البائدة ( ينتفض صوت الكركوزة ) لا يمكن أن تهجر مهنة آبائك و أجدادك … لا يمكن أن تهجر خير جليس في الزمان كتاب ( صوت مسرور ) يا أبتي … لو أن المتنبي كان حيا بيننا اليوم فإنه حتما سينشد خير جليس في الزمان هاتف محمول و لوح محمول و حاسوب محمول …… و في الغد كان جثمان أبي محمولا إلى مثواه الأخير……. ( يحمل الكركوزة كالجثمان على ذراعيه و هو يمشي الهوينى و ينشد على إيقاع رجع الصدى ).
موتك يا أبتي تا الله ميتتان / أنت و الكتاب في روضة النسيان
( يوجه كلامه الحاد للشيخ القوقل ) نعم أنت .. بسببك أنت قضى والدي المسكين نحبه بعد أن بارت بضاعته وبضاعة كل الكتبيين والمكتبيين في العالم أجمعين ( يخبط بالمطرقة على منصة الخطابة ) أيها الناس … إن سبب مصائبي وغربتي واغترابي هو هذا … الشيخ القوقل … الشهير بينكم بغوغل … طبعا غوغل … لأنه غول … متغول … و متغلغل في كل شيء … وأي شيء … إنه المصادر الأول لكل المصادر والمناهل والمراجع … والمبتلع الأكبر لكل المخطوطات والمطبوعات والمجلدات و المصنفات …. إنه الملتهم الأشرس لكل المعارف ولكل العلوم والفلسفات والنظريات و الاكتشافات والاختراعات … إنه ثقب أسود رهيب … يريد أن يبتلع كل ما دونه الجنس البشري منذ آدم الأول إلى آدم الذي لم يولد بعد … وأنا واحد من ضحاياه … واحد ممن شفطته بلوعة هذا الثقب الأسود السحيق ( تنبعث موسيقى إلكترونية صاخبة وأضواء متراقصة ودخان تلسعه وخزات الإضاءة الزرقاء و الحمراء و الصفراء و الخضراء ليتحول الدخان إلى وهج قزحي قوقلي . و عندما ينقشع الدخان يظهر مانيكان الشيخ القوقل جاثما أمام منصة الخطابة لتظهر صورة حية لرمز محرك غوغل تحيط به أشهر تمائم محركات البحث و أيقونات مواقع التواصل الاجتماعي كأمازون وفايسبوك و واتساب و تويتر و امستغرام وغيرها….. بشكل تفاعلي مبهر ومثير على الشاشة الورقية الملتصقة بالواجهة الأمامية للمنصة العتيقة . يسمع صوت محرك غوغل الإلكتروني وهو يوجه حديثه لمسرور ) .
صوت غوغل :
مسرور بن عاشور الكتبي بن دهشور المطبعي بن منشور الناشر بن شحرور الخطاط بن بعرور الناسخ بن قنطرور الوراق بن الفهرستاني الكبير .
مسرور :
( ملتفتا نحو تميمة غوغل بانبهار )
صوت غوغل :
6
مسرور يا خاتم الكتبيين أجمعين … لقد قررنا أن نمنحك الخلود أبد الآبدين .
مسرور :
الخلود !؟؟ وأبد الآبدين !؟؟ ( يقهقه قهقهته الشهيرة ) حتما سأعيد أمامك مشهد القهقهة و القعقعة و الزلزلة و هزهزة الكتفين و الرأس …
صوت غوغل :
مسرور … أيها الكتبي الخاتم … تهيأ للاحتفال الأضخم بتوقيع العقد المقدس الأعظم .
مسرور :
ما هذه القوقلة الشاقولية ؟؟
صوت غوغل :
مسرور … يا خاتم الكتبيين أجمعين … سأعقد معك عقدا احتكاريا أبديا وأزليا … مقابل تعويض خرافي لم يحلم به آباؤك وأجدادك الكتبيين و المطبعيين و الناشرين و الوراقين و الناسخين و الخطاطين و المجلدين و المفهرسين أجمعين .
مسرور :
السؤال الذي يلح علي ويلحلح و يتلحلح في حلقي … هو ماذا ستستفيد أيها القوقل من إبرام عقد إحتكاري مع كائن منتهي الصلاحية مثلي ؟
صوت غوغل :
أنت يا مسرور تحفة العصر وكل العصور … و يتيمة الدهر وكل الدهور … و فلتة هذا الزمان وكل الأزمان … لهذا يعتزم متحف غوغل الكبير عرضك داخل قفص زجاجي شفاف محاطا بكتب ومجلدات آبائك و أجدادك لكي يتملى زواره الذين يحجون إليه من كل بقاع الأرض بطلعة آخر الكتبيين أجمعين . وطبعا ستقيم في بيتك الزجاجي مدى الحياة … هذا ما تنص عليه بنود عقدنا الإحتكاري الأبدي .
مسرور :
هذا اعتقال مؤبد داخل قفصك الزجاجي القوقلي … أما الطامة الكبرى والمصيبة العظمى هو أنني لن أنعم بتعويضكم المالي الخيالي … وحدها زوجتي شبشوبة المسعورة ستنعم وتتنعم بأموالي وملاييني مع أحد الفحول الكواسر .
صوت غوغل :
7
زوجتك ستنعم بمتعة زائلة … متعة فانية … أما أنت يا مسرور فستنعم بنعمة النعم … نعمة المجد الأزلي و الخلود الأبدي في ذاكرة التاريخ .
مسرور :
يا لحظك العاثر يا مسرور … كتب عليك أن تعيش وحيدا معزولا أبد الدهر .. صوت غوغل :
إطمئن يا مسرور … لن تشعر بالوحدة و الفراغ أبدا في بيتك الزجاجي القوقلي … سيتم حقنك بفيروس رقمي سيسبح بك في عوالم افتراضية لا نهائية … ساعتها ستمارس التسوق افتراضيا في أرقى وأفخم المحلات التجارية في العالم … و ستنعم بالسياحة افتراضيا في أجمل جنات الأرض … وستحظى بالسباحة افتراضيا في أكثر شواطئ الكرة الأرضية سحرا وجمالا … ويمكنك أيضا الإستمتاع افتراضيا بأجمل نساء الأرض … حتى المخدرات يمكنك تعاطيها افتراضيا لتسبح بك في الأكوان و العوالم السحرية الصاخبة .. باختصار يا مسرور يمكنك ممارسة كل رغباتك ونزواتك وشهواتك افتراضيا وأنت قابع في مكانك والزوار يحومون حول قفصك الزجاجي البلوري الشفاف.
مسرور :
لا تقل لي بأنه في نهاية حياتي سأقابل عزرائيل افتراضيا .
صوت غوغل :
عندما تنتهي حياتك يا مسرور … سيتم تحنيط جثتك .
مسرور :
تحنيطي !!!
صوت غوغل :
سيقام على شرف موتك يا مسرور حفل تحنيط كبير … سيحضر طقوسه مشاهير أهل الفن و الفكر و الأدب و الإعلام … وسيتم نقله مباشرة أمام شاشات العالم … كل سكان الأرض يا مسرور سيشاهدون عملية تحنيطك كأحد ملوك الفراعنة العظام … ليستمر عرض جثتك المحنطة في قفصك الزجاجي كمزار خالد للأجيال المتعاقبة … ستطوى العصور والدهور يا مسرور … وستظل خالدا مخلدا أبد الآبدين …
مسرور :
يبدو لي أيها القوقل المتقوقل أنك تريد أن تخلد إلى الأبد و إلى الآبدين … صورة آخر الكتبيين محنطا وملفوفا في حنوط هزيمته … تريد أن تخلد في ذاكرة الأجيال المتعاقبة والمتلاحقة
8
تراجيديا آخر الورقيين المهزومين … تريد أن تخلد في ذاكرة متحفك القوقلي العظيم انتصار الزمن الرقمي على الزمن الورقي الذي تشتهي أن تحوله إلى جثة محنطة تعرض ليل نهار أمام أعين الأجيال الشاهدة دوما وأبدا على انتصارك التاريخي القوقلي .
صوت غوغل :
مسرور .. يا خاتم الكتبيين أجمعين … لقد انتهى زمنك وليس لك من ملجأ أخير .. سوى قفصي البلوري الأثير .
مسرور :
( ينهض من سقطته ليصعد فوق الصناديق ) سجل عندك أيها القوقل العظيم أني أرفض أن أموت ممسوحا ومكنوسا بمكنستك الرقمية الرهيبة … سجل في كل مخازنك وشرائحك الرقمية بأني أرفض الإنسحاق والإنمحاء بيديك وعلى يديك وتحت يديك … لهذا قررت اليوم و ليس غدا … قررت أن أخلد رحيلي في ذاكرتكم الرقمية الجبارة … لتظل صورة انسحابي النهائي من عالمكم خالدة ومخلدة في أرشيفكم القوقلي … ( يسحب حاسوبا محمولا من أحد الصناديق و يشغله فتظهر صورة مسرور على الشاشة الورقية الملتصقة بواجهة المنصة العتيقة ) أيها الناس .. أنا مسرور بن عاشور الكتبي بن دهشور المطبعي بن منشور الناشر بن شحرور الخطاط بن بعرور الناسخ بن قنطرور الوراق بن الفهرستاني الكبير … أخر بائع للكتب في هذا الزمان وكل الأزمان … أعلن أمامكم أني قد قررت اليوم قرارا لا رجعة فيه … قررت أن أضع حدا نهائيا لحياتي مباشرة على شاشة اليوتوب .. فداء لكل الكتب المقدسة والمدنسة … وفداء لكل الكتبيين والمكتبيين إلى يوم الدين … أيها الناس لقد قررت ان تكون نهايتي العلنية ويصبح رحيلي الفرجوي … نصبا تذكاريا فجائعيا للزمن الورقي الآيل للمحو و الإنمحاء … الآيل للموت و الغياب …( يحاول ان يبتلع مسحوقا ) .
صوت غوغل :
أفضل ألا تنتحر بسم الفئران .
مسرور :
( يتوقف فجأة وهو ينظر لتميمة غوغل ) وهل تريدني أن أنتحر بسم الغربان ؟
صوت غوغل :
أقترح عليك وأنت تموت أن تستفيد من مداخيل الإشهارات التي ستنهال على فيديو انتحارك المباشر على اليوتوب .. ستجني منها أرباحا خيالية لا تعد ولا تحصى .
مسرور :
لا شك أني سأصبح أشهر منتحر مستشهر … و أغنى مستشهر منتحر في العالم ( يقهقه وهو
9
يهتز بمبالغة كاريكاتورية ) أنا فقط يا شيخنا أفتعل القهقهة والقعقعة و الزلزلة وهزهزة الكتفين و الرأس …( يسمع هدير القطار آت من بعيد فيسرع مسرور في العد العكسي مباشرة ) خمسة … أربعة .. ثلاثة .. اثنين .. واحد .. صفر ….( يضع المسحوق في فمه تنطفئ الأضواء يتصاعد هدير القطار السريع فتخبو الأضواء تماما .. و مع ابتعاد القطار و خفوت هديره تعود الإضاءة حيث نرى مسرور ممددا جثة هامدة تحت رجلي الشيخ القوقل … في حين تنهال الإشهارات متلاحقة و متزاحمة على فيديو الإنتحار مباشرة على الشاشة الورقية الملتصقة بواجهة المنصة الخشبية العتيقة . تخفت الإضاءة ثم إظ……لام تام . تحاصر بؤرة ضوئية النافذة قبل أن يظهر عبرها مكبر صوت زجاجي أنيق تتدلى منه فراشة عنق كبيرة مزركشة ) .
مكبر الصوت :
( موسيقى إيقاعية ثم صوت أحد مقدمي نشرات الأخبار ) بعد الرحيل الفضائحي و العلني و الفرجوي لمسرور آخر الكتبيين في هذا الزمان وكل الأزمان أمام شاشة اليوتوب وتحوله إلى أيقونة إعلامية وإشهارية كونية غير مسبوقة حدث ما يلي :
باعت زوجته شبشوبة جثته لمتحف غوغل العظيم بتعويض مالي خيالي . و تزوجت أحد الفحول الكواسر ( موسيقى إيقاعية صاخبة ) قام مولانا ” قعبور” الوقور أصدق أصدقاء مسرور .. ببيع الأسرار التي اختلقها من عندياته عن صديقه الراحل لمختلف وسائل الإعلام التي تهافتت عليه … وافتتح بمداخيلها متجرا لبيع المشروبات الروحية الفاخرة سماه متجر مسرور لبيع الخمور و الحبور ( موسيقى إيقاعية صاخبة ) عبد الجبار الجزار الذي لا يشق له غبار إستغل أيضا شهرة مسرور الكاسحة وتراجع عن فكرة تحويل قبوه إلى مخزن لتبريد لحوم الكلاب والحمير و البغال المريضة وحوله إلى مزاد مفتوح خاص ببيع مقتنيات مسرور للمتهافتين ( موسيقى إيقاعية صاخبة ) بعد شراء متحف غوغل لجثة مسرور قام بتحنيطها وعرضها داخل قفص زجاجي بلوري شفاف فاسحا المجال أمام الزوار من مختلف بقاع العالم لمعاينة الجثة المحنطة لخاتم الكتبين أجمعين .
فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون