ط
الشعر والأدب

ميلاد وطن ” قصة قصيرة بقلم الأديب رفعت السنوسي ..

رفعت السنوسى
لم تنم مصر تلك الليلة ..
كل فرد فيها بات يفحص ذكرياته ويستعيد حادثة أو عدة حوادث مرت به ويشارك في بعض من ذكرياته أقرب فرد إليه داخل الميدان ، وتعلقت عيون الجالسين في البيوت بشاشات التلفزيون تتابع تطورات الأحداث بميادين مصر المكتظة بملايين المصريين رغم حر يونيو الحارق ، وظل الناس ساهرين .. كل منهم كان يريد أن يخرج إلى الشارع بعد مشرق الشمس مباشرة ليرى ماذا عسى أن يكون شكل هذا النهار ، هل سيكون يوما يموج بالصراع ويغرق في الدماء كبقية الأيام السابقة ليوم الجمعة 30 يونيو ، أم أنه سيكون يوما ترتفع شمسه على الأفق في سكون طبيعي بلا جلبة ولا ضوضاء ؟ .
رقد الحاج بيومي في فراشه في مسكنه من الحي الشعبي تجلس عند قدميه على نفس الفراش زوجته الحاجة سعاد ، وقد ثقل رأسها تحت ضغط الأفكار ، لعل الرجل في ساعاته الأخيرة ، إنه يعاني منذ ثلاثة أسابيع وناء به الحمل .. ارتاعت زوجته لفكرة رحيل زوجها وأنه سيسبقها إلى العالم الآخر وتظل هي وحيدة ، حقيقة أن لها ولدين الأكبر متزوج يقيم في مسكن قريب في أخر الحارة والثاني في دويلة قطر وهو الصغير العاق الذي يخالف عائلته في كل شيء حتى في قناعاته السياسية ، وبرغم معرفته بما حاق بوالده الذي يحتضر لكنه لم يأت ليكن بجوار أبيه في لحظاته الأخيرة بالحياة ، أما بنتها فهي أرملة وتقيم معهم منذ استشهاد زوجها يوم 28 يناير من سنة 2011 برصاص الغدر.
أطرقت الزوجة ومدت يدها تتحسس أقدام الحاج بيومي تحت الغطاء الخفيف في الجو الحار ، وأخذت تدلك القدم لتعيد شيئا من النشاط إلى الجسد المتعب ،
ارتفع صوت التليفزيون يذيع بيان هام للقوات المسلحة فاستفاق الحاج بيومي قليلا وأدار رأسه نحو التليفزيون وأخذ يتابع بصعوبة فقرات من البيان:
” شهدت الساحة المصرية والعالم أجمع أمس (30 يونيو 2013) مظاهرات وخروجا لشعب مصر العظيم ليعبر عن رأيه وإرادته بشكل سلمي وحضاري غير مسبوق.”
” لقد استشعرت القوات المسلحة مبكرا خطورة الظرف الراهن وما تحمله طياته من مطالب للشعب المصري العظيم. ولذلك فقد سبق أن حددت مهلة أسبوعا لكافة القوى السياسية بالبلاد للتوافق والخروج من الأزمة، إلا أن هذا الأسبوع مضى دون ظهور أي بادرة أو فعل. وهو ما أدى إلى خروج الشعب بتصميم وإصرار وبكامل حريته على هذا النحو الباهر الذي أثار الإعجاب والتقدير والاهتمام على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي. ”
” إن القوات المسلحة تعيد وتكرر الدعوة لتلبية مطالب الشعب وتمهل الجميع 48 ساعة كفرصة أخيرة لتحمل أعباء الظرف التاريخي الذي يمر به الوطن الذي لن يتسامح أو يغفر لأي قوى تقصر في تحمل مسؤولياتها. ”
” حفظ الله مصر وشعبها الأبي العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.”
نظر الحاج بيومي إلى زوجته وعلى شفتيه ظل ابتسامة قائلا :
– أ .. أظن مصر لن تنام بل العالم كله لن ينام لمدة 48 ساعة .
ردت عله زوجته بشفقة وقلق
– وأنت يا حاج .. هل نمت ؟
أغمض الحاج بيومي عينيه كأنه نائم .. كان في الحقيقة يستعيد ذكرياته كما يفعل كل فرد في مصر .. يوم خرج بعد مطلع فجر يوم 28 يناير من سنة 2011 مع جموع الشعب المصري في ثورته ضد الظلم والفساد .
توقفت أفكار الحاج بيومي مع صيحات عالية فرحة من المواطنين الذين لم يناموا فأدار رأسه نحو الشباك المفتوح الذي جاءت منه أصواتهم ، وكأنما نسي الحاج بيومي الزمان والمكان ونسي آلامه ثم نظر إلى زوجته سعاد التي كانت تدلك قدميه وابتسم لها في عشق ورضا ، ودخل عالمه من جديد وجاس خلاله في متاهاته يستعيد أحداث ذلك اليوم ، يوم نزوله منذ أسابيع كعادته مؤخراً وهو يدعو الناس لتوقيع استمارات حركة تمرد لسحب الثقة من مرسي، والمطالبة بانتخابات رئاسية مبكرة،والدعوة إلى مظاهرات 30 يونيو ، يومها خرج معتمداً على الله وودعته زوجته وابنته أرملة الشهيد واقفة على رأس السلم وعلى كتفها طفلها ودعت لأبيها بالسلامة ، لم يكن الحاج بيومي الموظف بالمعاش ذاهباً ليقاتل ، لكن الواقع أنه لم يكن هناك فرق كبير بين نضاله هذا وكفاح الجندي الذاهب إلى ميدان القتال ، وبرغم أنه رجل في الخامسة والستين ضعيف مكدود ، وتهالك فيه كل شيء بفعل الزمن ـ إلا أنه كان يحمل قلبا قويا من نفحات إيمانه ووطنيته التي تغمره ، ففي ذلك اليوم التقى الحاج بيومي بالقدر مع عصابة من أنصار مرسي تربصوا به وانهالوا عليه ضرباً ولم يشفع له كبر سنه وتركوه مدرجا في دمائه بعد أن سلبوه كل ما معه من استمارات تمرد .
ومنذ ذلك اليوم وهو راقد تحت العلاج في بيته ولكن فرحة قلبه كانت كبيرة جداً برؤية الملايين المحتشدة في الميادين ضد خفافيش الظلام التي سادت مصر بالخديعة والكذب ،
وعادت اليقظة فدبت في أوصال الحاج بيومي إلى فترة وجيزة ، قال وهو بكامل وعيه :
– 48 ساعة !! لا يزال الوقت مبكراً .. هل سأعيش لأرى نهايتهم ؟
ودخل الحاج بيومي في عالمه الغامض من جديد وظل طوال يومين يهزي ويسأل عن الأحياء والأموات بينما كانت زوجة ابنه الأكبر تعاني آلام المخاض .. إنها تلد .
وأشرقت شمس يوم 3 يوليو وكان بيان القوات المسلحة بعزل مرسي وانتهاء حكم عصابة الإخوان في مصر ..
لكن الحاج بيومي لم يشهد هذا اليوم كما تمنى ولكن مصر قد رأته ، ففي ذلك اليوم فتح اثنان من موظفي الدولة سجلين ، كل واحد منهما فتح سجلاً وكتب ما يلي :
الاسم : بيومي المصري محمد عبد الله
تاريخ الوفاة : 3 يوليو سنة 2013
وكتب الآخر :
اسم المولود : نصر محمد بيومي المصري
تاريخ الميلاد : 3 يوليو سنة 2013
كان الموظفان في مبنى واحد ولكن كل موظف في حجرة منفصلة فلم يدركا أن هذين الحادثين وقعا لأسرة واحدة وأن الدمع والابتسامة كانا من حظها ، ولكن هذه العائلة شهدت أخر الليل وأول النهار ، وأن هذا الميلاد لم يكن ميلاد طفل واحد ، لكنه ميلاد وطن .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى