ط
مسابقة القصة

مُلخص رواية :طقوس مهلكة. . مسابقة الرواية بقلم/ عمرو الرديني ..مصر

طقُوسٌ مُهلِكة!

مُلخص رواية (طقوس مهلكة)
عمرو الرديني مصر

   ضبطتُ مُشغِّل الأغاني بهاتفي على الوضع العشوائي.

اكتشفت أنَّها المرَّة الأولى التي أقوم فيها بهذا الأمر. اعتدت تشغيل الأغنيَّات بالترتيب، أغنية تفضي للأخرى، حسب ترتيبهم، لا يهم أن يكون الترتيب حسب الاسم أو الحجم أو التاريخ، المهم هو كونهم خاضعين لترتيب ثابت. ربما ورثت ذلك من الاستماع إلى شرائط الكاسيت. أضع الشريط فلا أملك سوى الاستماع للأغاني كما هي مدوَّنة على الغلاف الموجود بالعلبة. الوجه يضم أربع أغاني أو ست أو أقل أو أكثر. في النهاية النتيجة ثابتة معروفة ومكرورة.

   وقفتُ أحلق ذقني. مرَّت مُدة دُون حلاقتها. أخبرتني إحداهن ذات يوم أنها تزيد من جاذبيتي للنساء. صدَّقتها. سألتني لتؤكِّد لي الأمر عن أكثر ما يثيرني في المرأة؟ احترت في الإجابة. فكلِّ ما في المرأة يثيرني! اضطررت إخبارها بأي شيء. قالت أنَّه كذلك المرأة. يثيرها في الرجل لحيته. للحقِّ أثبتتْ الأيام صدق رأيها بنسبةٍ كبيرة. لكن اليوم راق لي أنْ أحلقها. ربما شفقة ببنات حواء.

   أستغرقُ في الحلاقة نصف ساعة لا أقل. أحيانًا أكثر. هناك علاقة ما بين طقوس نظافتي الشخصية وبين مدة نصف الساعة. أستحم في نصف ساعة. أقص أظافري في نصف ساعة. عندما أذهب للحلاق لحلاقة شعري أجلس تحت يديه أيضًا نصف ساعة! لي كذلك توقيت معين لتلك المهام. فحلاقة شعري كل شهر. وذقني كل أسبوع. الاستحمام صيفًا كل يوم. وفي الشتاء كل يومين. الوحيدة التي أتركها لمزاجي هي الأظافر.

   أعتقد أن أظافر يدي تطول بعد أسبوعين. قدمي ربما كل شهرين. أحرص على تسويتهم وتهذيبهم. أستمع أيضًا إلى الأغاني أثناء قصّهم. فنصف ساعة فترة مناسبة لسماع عدد لا بأس به من الأغنيات. لا أعرف لماذا هذا الارتباط؟ ألجأ إلى سمَّاعات الأذن إنْ كان حولي ضوضاء. فقط أثناء الاستحمام لا يمكنني ذلك. فصوت المياه يحُول بيني وبين أي مؤثر خارجي.

   أعزفُ في عقلي وأنا تحت الدش. تدور الأغنيات تلقائيًّا. في الغالب تكون أغنية واحدة. أحبُّ لفظة غنوة. أجدها أرق وألطف. تدور غنوة واحدة داخلي. تتكرَّر مرات كثيرة حتى انتهي. الموسيقى تجعل الأوقات أقل مللًا، والحياة أخفُّ سخفًا. النساء كالموسيقى. هناك نساء صاخبة، ونساء حالمة. نساء كلاسيكيَّة، ونساء مُتجددة. هناك الانسيابيَّة، والهادرة، والمُتدفِّقة.

   أحرصُ على حلاقة ذقني في المساء لا الصباح. هكذا نصحني أبي في بداية رحلتي مع الحلاقة. قال لي احلق ذقنك مساءً. وجامع زوجتك صباحًا! شرح لي وجهة نظره وهو يضحك من خجلي. بالنسبة للذقن الأفضل في المساء لأن في الصباح تكون البشرة مُتفتحة وهذا يجعلها عرضة أكثر للإصابة بالجروح. شرح لي ما يخصّ الحلاقة، وترك لي معرفة الأمر الآخر وحدي!

   انتبهتُ وقتها لحالِه مع أمي. في الليل ينامان كل في مكان. يستيقظا أيضًا في أوقات مختلفة. لكن هناك أيام ينقل أبي نومته بعد الفجر إلى فرشتها. في طفولتي كنت أحسبه يهرب من البعوض. أو الضوضاء. أو حتى يلتمس الدفء. لكن بعد ذلك فهمت. يكون في تلك الصباحات أكثر حيوية وبهجة. هل يفعل الجنس مثل ذلك التأثير؟ هو إذن مثل الموسيقى.

   قرَّرتُ اليوم أنْ أغيِّر من بعض عاداتي؛ ربما لأنه يومي الأخير هنا. ها أنا أحلق ذقني صباحًا، غير عابئ بما قد يصيبها من جروحٍ. غيَّرت كذلك وضع تشغيل الأغاني، اخترت فقط الأغنية الأولى (آخر أيام الصيفيَّة)، وتركت برنامج الموسيقى يسمعني كما يهوى. أعترف أنَّ شيئًا من الإثارة بدأت أشعر به، مما جعلني أنتصب!

   ترتبط لدي أي إثارة بالانتصاب. ما أن يحدث توتر ما. تحفز لشيء معين. حتى تؤدي إثارتي النفسية والعصبية للانتصاب. أذكر أيام الدراسة ما كان يصيبني وقت الامتحانات. لا أكاد أدخل اللجنة. وأجلس أمام ورقة الأسئلة حتى يبدأ الأمر. أتوتَّر، فأُثار، فأنتصب. ولا أتمكن من كتابة كلمة في ورقة الإجابة قبل أن أستمني!

   لاحظتْ إحدى المراقبات ارتباكي في لجنةٍ من لجان امتحانات الثانوية العامة، اقتربتْ مني مُرتابة، ظنَّتني أقوم بالغشِّ، دارت حولي، زاد توتري، تطلَّعت إلى موضع حركتي، ضممت ساقي، تأكد لها إخفائي أداة الجريمة فيهما، طالبتني بالمُباعدة بينهما، بُهتُّ، أصرَّتْ، بدأتْ الرعشة تتملَّكني، نظراتها ثاقبة، مُتحدِّية، خِفتُ أنْ يعلو صوتها، ويتفاقم الأمر، جمعتُ تركيزي، وجَّهتُ لها نظرة اشتهاء مُتضرِّعة، باعدت بين ساقي، في نفس لحظة الوصول، أخيرًا اكتشفتْ حقيقة الموقف، ربما بعد ما رأت البلل وهو ينتشر، كانت المرة الأولى التي أستمني فيها أمام امرأة، وجهًا لوجه، أنثى تقف أمامي، من شحم ولحم، أتطلَّع لمفاتنها، وأستنشق عبيرها، وأسكب مائي أثناء النظر لعينيها، يا لها من مُتعة إضافية، صعقتها هي المفاجأة لبرهةٍ، ثم حاولت كبح ابتسامة لعوب احمر لها وجهها الصبوح، ورمتني بنظرةٍ احترت في تفسيرها إلى الآن!

   انشغلتُ عن انتصابي بالحلاقة. حاولت التركيز كي لا أجرح وجهي. أحاول الانتصار على أبي ووجهات نظره. يكفي ما جعلني عليه في علاقاتي الحميمة. لا أنجح في اللقاء سوى بعد الفجر. أي فتاة اصطحبتها ليلاً فشلت معها. أضطر أن أدفع مبلغًا إضافيًّا حتى تبيت معي. فتيات الليل يحببن الانتهاء من الأمر سريعا والعودة إلى بيوتهن. قليلات من يوافقن على المبيت للصباح.

   انتهتْ فيروز من غنوتها. توقَّعتُ الأغنية التالية. الأصحُّ أني تمنَّيت أغنية بعينها. جاء التوقع أو الأمنية كما أردت. ابتهجت. زاد نشاطي أمام المرآة. تذكرت تشغيلي للأغاني وقت ممارسة الجنس. أختار لذلك أغنيات بعينها. تساعد على زيادة الإحساس. وتنقية الجو. الموسيقى تنقي الجو من الشوائب. تزيل ما علق بالأرواح من هموم. وتزيح ما جثم على النفوس من كرب.

   كدتُ أجرح بشرتي. هالني ما قد حدث. جاءت الأغنية الثالثة أيضًا كما توقعت. انتبهت للأمر. زاد انتصابي. أصبحت أستحث الغنوة أن تمر حتى أرى نتيجة توقعي القادم. لم أعد أُميِّز لحنًا أو كلمات، فقط هدير موسيقي يمُوج من حولي. أحاول توقع غنوة بعيدة في الترتيب. أو لا أرغب حتى في سماعها الآن. لكن تأتي كما فكرت فيها! أخذت أعيد بالموسى على ذقني، اصعد وأهبط، الماكينة قوس، ووجهي آلة كمان.

   مرَّت نصف الساعة المخصَّصة للحلاقة. استمعت لحوالي عشر أغنيات مختلفة. لم يخطئ توقعي مرة واحدة. تحولت فرحتي البدائية لانزعاج. لقد أردت التغيير. التمرد على الترتيب. في آخر أغنية حاولت الانشغال بأي شيء آخر كي لا أتوقع غنوة بعينها. فكرت في أمورٍ كثيرة. لكن في جزءٍ صغير جدًّا في خلفية العقل كانت الغنوة ماثلة. منتظرة دورها. معلنة عن قدومها. كان أمل أخير. أو تحدي جديد. المهم أني أحبطت بحلولها. ووجدت نفسي أستمني من فرط الإثارة. وأُنهي الحلاقة بجرحٍ غائر في وجهي!

   أعجبني شكلي بالندبة. وضعت عليها لاصقًا طبيًّا بعد أن اغتسلت. لست مريضًا بالسيلان. ولا أعاني من سرعة القذف. لكنها حالة خاصة تأتيني في أوقاتٍ بعينها. أوقات هياج عصبي وفوران نفسي. حكيت لأحدى المومسات عن أمر لجنة الامتحان. ضحكتْ حتى ندمتُ. لكني سامحتها بعد أن ضحكت أنا من تفسيرها الـ(مومِسي) للأمر: “يعني انت عشان تِحل المسائل لازم تريَّح الأول المسائل!”.

   أسميتُ أعضائي التناسليَّة من يومها (المسائِل)…

صرتُ أرددها بين أصحابي. قد أسأل هذا عن حال “مسائله”، وأسخر من آخر بسبب “مسائله”. أرد على سؤال أحدهم عن أحوالي بأنَّ “المسائل بعافيه شويه اليومين دول”، وأقول لأيِّ عاهرة أعرفها –بينما أغمز لها-“المسائل عامله إيه؟”.

   اعتبرتُ الندبة من ضمن ما قد طرأ على يومي من تغيير. من يدري قد تصنع جاذبية ما هي الأخرى. نسيت موضوع الأغنيات. قررت الإفطار في الشارع. توقعت أن أقابل صاحب البيت على السلم. صدمتني رؤيته. تذكرت موضوع الأغاني من جديد. نظر لي بريبة. ربما لحلاقة ذقني. ربما لذلك الجرح. ربما لاستيقاظي باكرًا على غير العادة. ربما لأنني لم أدفع بعد الإيجار.

   اشترطت على السمسار أن يجلب لي شقة صغيرة. تكفي حجرة واحدة واسعة. المهم حمام مستقل. والأهم نافذة تطل على الجيران. بالطبع لم أصارحه بهوايتي في التلصص. لكني أخبرته برغبتي في دور مرتفع. ومنطقة شعبية. وهذا كافي جدًّا لتحقيق ما أنشد إليه. كلما ارتفعت في الطوابق كلما زادت مساحة الرقعة التي ستعتليها بنظرك. وكلما توغلت في المناطق الشعبية البسيطة كلما ضاقت مساحات الشوارع وتلاصقت البيوت وتلاحمت النوافذ.

   اكتشفتُ أنَّ وقتًا طويلاً مرّ عليَّ لم أخرج فيه من البيت. وقت أطول لم أنزل فيه صباحًا. أنا كائن ليلي. يفضحني النهار. يذكرني بخيباتي. تعثري الدراسي. معاناة التجنيد. فشلي الوظيفي. حتى علاقاتي أنجحها الليلية. لا أذكر أني نجحت مرة في التعرف على إحداهن نهارًا. إلا إذا اعتبرنا أن التحرش في المواصلات وجه من أوجه التعارف بين الجنسين!

   أدمنتُ قديمًا التحرُّش. تكون المواصلات مرتعًا مناسبًا له. خاصة الأتوبيس. أصعده بلا وجهة محددة. يبدأ قراري من الشارع. ربما أثارتني إحداهن أثناء سيرها. أتتبعها. أصعد ورائها للحافلة المكتظة بالبشر. أختار ضحيتي من بين الواقفات في المحطة. أميل للصغار من الفتيات والكبار من النساء. هن الفئة الأكثر قبولاً للأمر. الأولى يسكتها الخجل والخوف وانعدام الثقة. والثانية ترضيها النزوة وربما تأجِّجها الرغبة.

   تركتُ الغرفة بلا رجعة. تراكم عليّ الإيجار كما العادة. لكن الأزمة تلك المرة ضاقت فاستحكمتْ؛ فلزم الفرار. ارتديت طقمين للخروج فوق بعض، لا أملك غيرهما على أي حال. لا أملك حقيبة، وإن امتلكت لا أحب حملها. وإن أحببت فحملها يفضح هروبي. هكذا أفضَل. طقمين ملابس لا يكتشفهما أحد. وجاكيت يتيم محمولاً على اليد، ومقبول ظهوره في تلك الأجواء الخريفيَّة.

   أحبُّ الخريف. فيه ولدت. وفيه أحب امرأة جديدة كل عام! لا أسعى لذلك. لكنه القدر. في الخريف ترتفع معنوياتي. أشعر بالانعتاق من لهيب الصيف. أكون أشبه بمذنبٍ ينعتق من جهنم بعد طول عذاب. تؤثِّر نفسيتي الصافية على تصرفاتي. أكون أكثر تسامحًا، وأعلى رقيًّا. تنجذب لتلك الهالة النساء. وخاصة عاشقي برج العذراء.

   تبدأ العلاقة قوية، جامحة، مُلتهبة. تنبهر الأنثى بشخصيتي المُركَّبة: وجه ملائكي، وأفعال شيطانية. مظهر بريء، وفكر إجرامي. إنسان خجول، وعاشق شبق. مراهق حالم، وشيخ حكيم. تجدني عشرة رجال داخل رجل: مثقف، فنان، أديب، متصوِّف، رحالة. تنجذب، وتحب، وتعشق، ثم تفيق.

   يمرُّ الوقت، وتتكشَّف الحقائق، يخفت البريق. تنقشع الغيوم، وتسطع الشمس. يتساقط الرجال التسعة، ويبقى الأصل. نمضي الشتاء متلاحمان، وبحلول الصيف تصيبني اللعنة. يظهر جزءً كان مختفيًا. تبدأ عصبية غير متوقعة تنتابني. ضيق في التنفس، اختناق من كل شيء، وزهد في أي شخص. أصير صعب العِشرة، حاد الطباع. أكاد أخلع جلدي، وأود التخلُّص من حياتي!

   توقعتُ أنْ أجد المياه تغمر الحارة. تمرَّست على القفز فوق قطع الحجارة التي يضعها أصحاب المحال، وذوي القلوب الرحيمة. تتعدد الأسباب والطفح واحد. كسر في ماسورة المياه الأم. لماذا لم أسمع يومًا عن ماسورةٍ أب؟! انسداد في ماسورة الصرف. اعتدت المشهد وألفت الرائحة. الحسنة الوحيدة تكمن في رفع النساء لثيابهن خشية البلل. تبهرني دومًا السيقان. أقيس بها بقية المسائل. هل كانت هي إجابتي يوم سألتني صاحبة نظرية (جاذبية الذقن)؟!

   خطَّتُ لرحلتي النهارية، وتركت الليل يأتي بما يشتهي. قبلت تحدي التوقعات. سأفطر بمطعم شعبي. سأجلس على مقهى لم أدخله من قبل. هربت سريعًا من نظرات أهل الحارة. شعرت أنها تلاحقني. رجالها يبغضوني. ونسائها يعرُّونني. أستطيع خداع أي فئة أخرى عداهم. يفطنون لعزلتي. ويكتشفون مغامراتي. لا يعجبهم توحدي وانغلاقي على ذاتي. لا أنسى نظرة صاحب البيت المتطفِّلة لأكوام الكتب التي تملأ أرضية حجرتي.

   صنعتُ منهم في إحدى الليالي سريرًا لأرضي زوجته صاحبة المؤخرة الكبيرة. لم يعجبها النوم دون مرتبة. عرضتْ عليّ أن تقرضني سريرًا لكني رفضت. لا أحب الأثاث، ولا أطيق تكدُّس الأشياء من حولي. فقط الكتب تحيطني. أجلس عليها، وآكل فوقها. تؤنس وحدتي، وتلهب خيالي. وتسد ديني وقت الحاجة.

   اطمئن صاحب البيت إلى عدم احتمال هروبي نظرًا لتلك الثروة الماثلة أمامه. كمٌّ ضخم من الكتب، يلزم حمله عربة نقل صغيرة. لم يخطر في باله أني سرَّبتهم على دفعاتٍ يومية طوال الأسابيع الماضية. أنزل ليلاً حاملاً بعضًا منهم، يكون وقتها في شقته، وإن قابلني لا يشك في شيء. غدًا أو بعد غد عندما يكسر الباب سيفاجأ بأن الغرفة فارغة تمامًا إلَّا من رائحة خطيئة زوجته معي.

   حملتُ الكتب في عقلي وقلبي، واستفدت بثمن بيعهم كي أمرِّر أيامي العصيبة. ضاقت صاحبة البيت بموضوع لقاء الفجر هذا. كيف تترك فراش الزوجية المُقدَّس وتصعد إلى غرفتي؟ في الأمر خطورة فاضحة. المرات القليلة التي صعدت فيها إليّ خدمتنا الظروف. سفر زوجها الطارئ، اختبائها عندي بحجة مبيتها في المستشفى مع صديقتها المريضة، لكن نفذت الحجج، وعاندتنا الصُدف!

   تعرَّفت على بائع كتب قديمة في قلبِ المدينة. من أول نقاش بيننا فطن أنني لست مجرد قارئًا عاديًّا، أو هاويًا سطحيًّا، قال “أنت صحفي، أو كاتب”. أخبرته بأمري. زاد احترامه لي. أخذ رقم هاتفي، وصار يُعلمني بما يصل إليه من كنوزٍ أدبية. حكى لي عن أسماءٍ شهيرة كانوا زبائنه، ورموز كبيرة اضطرت يومًا لبيع مكتباتها لديه. قلت له برومانسيَّة: لا أتصور أن يبع المرء مكتبته!

   صار لي مجلسًا دوريًّا عنده. أذهب إليه مساءً، يكون قد أُنهك من زبائن النهار، يصفهم بالذباب: “يشخوا على الكتب ويطيروا”، يطلب لي القهوة، ويستأذن في ساعة يخطف فيها قدمه لبيته لتناول الغداء، أحلّ محله، تمر الساعات بينما أقلِّب فيما جلبه من كتب. آخذ ما يحلو لي، وأدفع ما تيسَّر. فتحت عنده حسابًا جاريًا، تمامًا كصاحب البيت. وحين تراكم الحسابان تركتهما يسدِّدان بعضهما البعض.

   حكى لي طُرفةً من حياته: ((كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي، وكان صبيًّا في مقتبل شبابه، يوزع الجرائد في الشوارع، قبل أن يصير صاحب كشك مهم بوسط المدينة، حيث وقع في غرام فتاة تسكن في دورٍ مرتفع بإحدى البنايات الحديثة، لا يرى منها سوى رأسها، وشعرها العاري، المنكوش باستمرار. أعجبته بساطتها، وإن لم يتبيَّن دقة ملامحها لارتفاع شرفتها، لكنه واظب على المرور عليها، يمدُّها بما يصله من جرائد يومية، ومجلات أسبوعية وشهرية، تُدلي له بالسَبَت، كاتبة له طلباتها، ويضع هو قلبه طوعًا لها..

   ((طلبتْ منه ذات مرة مجلة (الشبكة)، ازداد إعجابه بها وبجرأتها، ودفعه ذلك أن يهديها بعض الدواوين الشعريَّة، لعلها تنتبه لغرامه المُستعر، وحبه الخالي من أيِّ نية سوء، لكنها طلبت المزيد من المجلات الإباحية! تراجع الحب العذري، وتولدت مشاعر شهوانية، فليكن ما تريد، المهم أن يصل إليها. وهكذا ذات صباح، احتفظ في يده بمشرط صغير لن تراه فتاته من علٍ، وقام أثناء وضعه للمجلات بقطع الحبل بمكرٍ ودهاء، يا له من إبليس! ستضطرها الصدفة التي حدثت للنزول من برجها العالي، فيراها عن قرب، وربما خطف داخل مدخل البناية قبلة سينمائيَّة، أو فاز بحضنٍ دافئ يطفئ بعضًا من لهيب أشواقه التي نَمتْ وترعرعت على مدار الأشهر الفائتة..

   ((لم يخب تخطيطه، واضطرت الفتاة للنزول، مرَّت لحظات كانت كفيلة لجفاف حلقه، واستذئاب خياله، حتى ما أن انفرج الباب كان مُندفعًا للداخل، ليباغَت بأنها قد أرسلت أخاها بدلاً منها، أخرسته المفاجأة ثواني، ثم بلل شفتيه، وتغاضى عن ابتسامة الفتى اللزجة، وبلع إحساس الخيبة المرير، وبصوتٍ مجروح سأل الفتى عن أخته، ليتساءل الفتى بدوره أي أخت يقصد؟ استند بيده على الباب، وقال له بتوسُّلٍ: زبونتي اليومية؟ زادت ابتسامة الولد السخيفة، وقال له: تقصدني أنا؟ أنا زبونك اليومي، وليس لي أخوات بنات! ليدرك أخيرًا أن من تعلَّق بها طوال هذه الفترة لم تكن سوى ولد مراهق ممن يسمُّونهم “الخنافس”..)).

   كدتُ أشخُر من شدَّة الضحك، وقع من يدي الكتاب الذي كنت أحمله، واحمر وجهي وتعرَّق، لفت ضجيجي بعض المارة، وحاولت القيام لكني انزلقت أرضًا، دمعت عيناي، وتهدَّجت أنفاسي، كل ذلك وصاحبي يرميني بنظراتٍ لائمة، مُتعاطفة، حتى ما إن انتهيت، أو أوشكت، ختم حكايته بقوله: كانت أيام سودة، ما تعرف فيها الواد م البنت!.

   اعتدتُ منذ سنوات أن أقرأ أي كتاب مرتين متتاليتين. بدأ ذلك منذ احترافي للكتابة. القراءة الأولى تكون عابرة، أكون فيها قارئ عادي، في الثانية أتمعن في الكتابة، أُدقِّق في الصَّنعة، وأغوص فيما وراء السرد. في النهاية يرسخ الكتاب في ذهني إلى الأبد، ولا أحتاج لإعادة قراءته مرة ثانية أبدًا. صحيح كان هذا يقلل من معدل قراءتي، لكنه جعلني غير نادمًا عند الاستغناء عن أي كتاب لدي.

   نظرتُ خلفي نظرة مودِّعة. غرفتي الصغيرة تعتلي البيت القديم. لن أدخل هذا المكان ثانية ما حييت. شعرت بغصةٍ في حلقي. يميتني وداع الأماكن، وداع الأشخاص أخف وطأة. في نهاية الأمر سنتقابل في الآخرة، سواء في جنة أو في نار، سنتقابل مرة أخرى، لا أشكُّ في ذلك. لكن الأماكن لا. الأماكن فانية. لن نراها ثانية. ينتهي الأمر بزوالها، أو زوالنا.

   آلف بسرعة الأماكن الضيقة، تنشأ علاقة غريبة بيني وبينها، أفضِّل دومًا المساحات الصغيرة، أوطِّن نفسي داخلها، وأكيِّف حياتي معها. البراح يربكني، والوسع يعريني. أي مكان صغير أمكث فيه أكثر من ساعة أرتبط به، ولا أتمنى أن أغادره.  حتى وإن كان سيارة، أو كشك في الشارع، أو حتى مصعد داخل بناية!

   حدث مرة أنْ حُبست داخل مصعد قديم. كنت صاعدًا لمقابلة كاتبة كبيرة في السنِّ، تعرفت عليها في إحدى الندوات. كنت أجلس على المنصة، وكانت هي في الصف الأول للحضور. لم تنزل عينها من علي، ولم أنزل عيني من على ساقيها. كيف لامرأة في مثل سنها أنْ تحتفظ بمثل هاتين الساقين المثيرتين؟ هكذا تساءلت بيني وبين مسائلي، بينما أجلس بوقارٍ، حيث يُحتفى بكتابٍ جديدٍ لي.

   مرَّ الوقت لطيفًا داخل المصعد المُعطَّل. كانوا بالخارج منزعجين، بينما أنا بدأت أخطط لبقائي هنا للأبد. فورًا أنسج سيناريوهات لحياة سأضطر فيها للبقاء محبوسًا. ربما لهذا لا أخشى السجن أبدًا. أكتب ما يحلو لي، غير عابئ بمحاذير أو خطوط من أي لون. الزنزانة مملكة لأمثالي، جحيم للآخرين. طالما سيسجنون معي عقلي فلا ضير. عقلي هو مملكتي الغنية، به أكتفي عن كلِّ البشر.

   رسمتُ حياةً كاملةً لي داخل كابينة المصعد. هكذا سأجلس، وهنا سأنام. عندما أملُّ سأقف، وإن أردت الحركة سأقفز في مكاني. أتحدَّث على راحتي، وأغني كما يحلو لي. الكتب التي بحوزتي ستسلِّني، والمرايا من حولي ستبدد وحشتي، سأشبع نرجسيتي، وأرضي غروري. إن شعرت بالحرِّ تعرَّيت، وإن أصابني البرد تكوَّرت على نفسي. لم أفكر في أكلٍ أو شرب، وبالنسبة لقضاءِ حاجتي الأمر يسير. سأتلو ما أحفظ من أشعار، وأكمل ما بدأته من حكايات.

   اغتظتُ ممن أخرجوني. انقسموا ما بين آسف لِمَ حدث لي، وبين مُهنِّئ لخروجي سالمًا. لا يعلموا أنني خرجت جريحًا، تاركًا جزءً مني هناك للأبد! عدتُ أدراجي، لم يعد لي مزاج للعجوز صاحبة الساقين. ودَّعت المصعد بنظرةٍ حزينة، تشبه نظرتي الآن وأنا أغادر الحارة هاربًا. عزائي الوحيد أنني سأكتب عنها يومًا ما. هكذا كانت حيلتي للتغلُّب على حنيني، وسلاحي الوحيد لمواجهة حزني على الفراق.

   أكتب عن الأماكن التي عشت بها. أعتني بها وبتفاصيلها. أردُّ لها الجميل. أُحييها على الورق، كما ضمَّتني يومًا بين جدرانها. أعيد بناء ما تهدَّم، اكتشف ما غاب عني، أطيل المكوث بأرضِها، وأشبع النفس من هواءِها. بيوت ومنازل، عشش وأكواخ، عمارات وأبراج، لوكاندات وفنادق، غرف فوق الأسطح، وأقبية تحت الأرض، دورات مياه عمومية، وعربات لقطاراتٍ قديمة.

   أحنُّ لرحمِ أُمي، ولا أخشى دخولي القبر! الأول شهَد بداية تكويني، والآخر سيشهد مراحل تفتُّتي وفنائي. أشتاق للرحم، ذلك الكيس الذي مكثت به تسعة أشهر، مُعزَّزًا، مُكرَّمًا. ربما كان سعيي للولوج داخل كل امرأة أعرفها هو نوع من تلبية ذلك النداء الغامض. أبحث عن دفء البدايات، احتواء حواء الأم، الانصهار داخلها، والاختباء بين جنباتها!

   غاب البيت أخيرًا عن نظري، وتلاشت أجزاء الحارة جزء يُشيِّعه الآخر. استقبلني الشارع الكبير بجفاء. القلوب عند بعضها. لا يوجد ترابط بيني وبين الشوارع الرئيسية، والأحياء الراقية، والميادين. سأعبره فقط لأدلف إلى أقرب شارع جانبي. أجد نفسي في الطرقات الضيقة، يلامس كتفي كتف أحدهم أثناء المشي، ألقي السلام على الجالسين على مقهى بسيط، أشم رائحة بخور منبعثة من حجرة دنَتْ عن مستوى الأرض فأصبحت كالمغارة، تلمس يدي البريئة خلسه مؤخرة إحداهن، والاعتذار العفوي جاهز دائمًا “لا مؤاخذة”.

   اخترتُ مطعمًا بسيطًا. سبق دخولي نداء العامل لي “اتفضل يا باشا…”. يُنادي على كل من هَب ودَب. اتفضَّل يا باشا. لا أعي أي باشا يقصد! توقَّعت أن يعاملني باحترامٍ زائد. تبسَّطت وجلست بأريحية. وضعت الجاكيت عن يدي فوق مسند الكرسي المجاور. كيس أغراضي وضعته على نفس الكرسي. جاء بفوطةٍ ليمسح الطرابيزة. أعتقد أنَّها زادت من اتساخها. “طلب فول لو سمحت”. هكذا طلبت. “عنيَّا يا باشا”. هكذا أجاب.

   اكتشفتُ أنَّ العرق يغمرني، رغم أنَّ الصيف يُطفئ حرائقه. مروحة عتيقة في السقف تبعث على المللِ أكثر مِن تجديدِ الهواء. فتحتُ زرَّ القميص العلوي. وجدت قميصًا آخر تحته. تذكَّرت ارتدائي لطقمين. فتحت زر السفلي أيضًا. بزغ شعر صدري الكثيف. اللون الأبيض غزاه. فطنت لسرِّ تعرُّقي على هذا النحو. لا يهم. دقائق وسأجفُّ. يوجد رجل بالطرابيزة المقابلة. يبدو أنه أنهى لتوِّه إفطاره. أغلب الظن أنه كان يهمّ بالقيام لولا رآني. تباطأ من أجلي!

   أعرفهم من ثقلِ الهواء المحيط بهم. من لزوجة نظراتهم، واصفرار ابتسامتهم. فقط يبلبلني نوع ميولهم. في الحالتين يشتهونني. شيء ما في ملامحي يجعلهم يتوقعون موافقتي. هل لوسامتي علاقة بالأمر؟ يتقرَّبون مني طامعين غير خائفين. ملامحي الهادئة لا تشي بردِّ فعلٍ قاسي إنْ لم يرُقني العرض. مشكلتي تكمن في الفضول. أتمادى دومًا لأرى إلى أيِّ حدٍّ سيصل بي الأمر؟!

   طلب زجاجة مياه غازيَّة ليجد مُبرِّرًا لجلستِه. يرتدي جلبابًا أزرق اللون. له شارب مثل رباط حذاء. شغلني التطلُّع إليه عن عامل المحل وهو يرص أطباق الطعام أمامي. فجأة امتلأتْ المائدة بعددٍ هائل من الأطباق المعدنية الصغيرة: فول بالزيت الحار والطحينة، قرصي طعميَّة محشوَّة، بطاطس محمَّرة، بطاطس مهروسة بالثوم، باذنجان وفلفل (مسقَّعة)، حِباش، جبنة قريش بطماطم، جبنة قديمة، سلاطة خضراء، مخلِّل، شرائح بصل، وصف كبير من أرغفة الخبز الساخن.

   غمرتني رائحة الطعام. تلكَّأت. لا أستمتع بالأكل أمام مُتطفِّل. أنهى باقي زجاجته على دفعة واحدة. تأخَّر في نزع فوَّهة الزجاجة عن فمه. يحاول أن يوحي لي بميوله. لم أعد أهتم. الإفطار يناديني. لم آكل شيئًا يذكر من أوَّلِ أمس. أكتفي بالقهوة. طلب قلمًا وهو يدفع حسابه. كتب شيئًا على ورقةٍ صغيرةٍ نزعها من علبة سجائره. قام بشكلٍ طبيعي. وضع الورقة بطريقة عفوية أثناء مروره أمامي. وقال بصوتٍ فيه خنوع “بألف هنا يا جميل”!

   ارتحتُ لانصرافه. أنقضتُ بنهمٍ على الأكل. آكل، وآكل… لم أُخلِّف ورائي شيئًا. عوَّضت جوع يومان. وتحسَّبت لجوع أيامٍ قادمة. بقيت كسرة خبز وحيدة. دسستها خِلسة في كيسي. عليّ أنْ أحتاط لِمَا أنا مقبل عليه:

   لا عمل، لا دَخل، لا سَكن… ولا امرأة.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى