ط
مسابقة القصة القصيرة

نبضات ..مسابقة القصة القصيرة بقلم / أسمهان محمد الفالح من تونس

مشاركة في صنف القصّة القصيرة بقلم أسمهان محمد الفالح/ تونس
رقم الهاتف: 0021692469584
_________________________
نبضاتٌ….
هاهُما يسيرانِ على حافّةِ البحرِ يتنَاجَيَانِ، يضْحكان، يتعانقَانِ، يجريانِ، يتوقّفانِ، يفترشانِ الرّملَ النديَّ، يخوضانِ في أمورِ الشّعرِ و السّياسةِ، تلسعُهُما المياهُ الباردةُ فيرتجفانِ، يَهبّانِ من مكانِهمَا مُنقاديْن نحوَ أشعّةِ الخيوطِ الوّهاجةِ، يُلقي عليها بعضَ أنفاسهِ المضمّخةِ ولهًا و شوقًا و حَنينًا، فتغمرُهُ بأنفاسهَا عذبةً شهيّةً تنبضُ حبًّا و حياةً..ينهضان، يرتميانِ في غمرةِ الشّارعِ الطّافحِ حركةً و صخبًا.
_حبيبتي لا تنسيْ موعدنَا غدًا..(أسرّ إليها باسمًا..)
_قطعًا لا.
_إلى اللّقاء.
في صباح اليومِ المُوالي، يستقلُّ سيّارةَ أجرةٍ، و يتوجّهُ إلى المبيت الجامعيّ حيثُ تقطنُ رفيقتُه مُمنّيًا النّفسَ بقضاءِ أوقاتٍ رائقةٍ معًا، و بينما كان يَقطعُ إلى الرّصيفِ المقابلِ و هو يفتحُ جهازَ الهاتفِ ليتلقّى إرساليّاتهَا، إذ داهمتْهُ سيّارةٌ مسرعةٌ، و داستْه، ثمّ غابتْ وسط الزّحامِ.
_أفسحوا الطّريقَ..حالةٌ طارئةٌ !
كان شابّا يافعَا في عقدهِ الثّالثِ وسيمًا، دماؤُهُ الحارّةُ تُخضّبُ أوراقَ شجرةٍ وارفةِ الأغصانِ يانعةٍ، و العيْنانِ غائرتانِ تتعثّران بين الممرّاتِ الضيّقةِ الطّويلةِ المؤديّةِ إلى غرفةِ العمليّاتِ. مادتْ به الأرضُ طويلاً و هو يتمايلُ على نقّالةٍ ذات اليمين و ذات الشّمال، يعلُوها صدأٌ.
اِلتفّ حولهُ طاقمٌ طبيّ موسّع، و بعد إجراءِ الإسعافاتِ الأوليّة ناولوهُ جرعةً من الأكسيجين تحضيرا للعمليّة الجراحيّةِ.
(دقائق قبل حقنة التّخدير..)
اِنطلق عنانُ الذّاكرةِ إلى متاهاتِ الأيّامِ الماضيةِ يتنقّلُ بين أروقتِها المتعرّجةِ، فتتدافعُ الهواجس ُو الذّكرياتُ في ذهنهِ كأنّها سنابكُ الخيلِ حدّةً:
_أنا فخورٌ بكَ يا بنيَّ..لقد توسّمتُ فيكَ النّبوغَ منذ نعومة أظفارِكَ. (قال والده مربّتًا على كتفهِ. )
تتعالى زغاريدُ أمّه مضمّخةً بعبيرِ الفرحةِ و النّصرِ مردّدةً:
_سأتباهى بكَ أمام الأهلِ و الأحباب و الجيرانِ…اِبني شاعرٌ.
ينقطعُ شريط ذكرياته فجأة على صوت أحد الممرّضين:
_دكتور..زمرةُ دم المريض (أ_ب)
_اُتقلوا له كيسيْ دمٍ في اِنتظار المزيد.
و ما بين إغفاءةٍ و صحوٍ، يشتدُّ ضغطُ الذّاكرةِ و تحطّ عليه بكلّ أوزارها:
_قلمكَ ينبغي أن يصمتَ…و إلاّ الويلُ لكَ كلّ الويل !
_الحرفُ عُمقي و بعدي، حياتي و موتي، بدايتي و نهايتي.
_ليس أمامكَ خيارٌ..إمّا حبيبتكَ أو حرفكَ اللاّذع ينفثُ سمومًا أينما حلّ.
_أمّا كلماتي فأنفاسي المعطّرةُ تدفع عنّي فجيعةَ العمرِ. و أمّا مهجة الرّوح فماضيّ، حاضري، مستقبلي..كيف تجتثّونَ جذورهَا و هي في الذّاكرةِ تعرّشُ من قرونٍ ؟
_عليكَ أن تختارَ..
_ذاك البرعمُ الصّغيرُ الغافي في الأعماقِ سينمو على جسدي، سيكبرُ عبْر تعاقبِ فصولٍ و فصولْ…ستتفتّحُ رياحين و ياسمين و خُزامى..
_سنريقُ دمهَا..
_سينبتٌ بين تجاويف الصّخر عُشبًا نديّا..
تتداخل الأصواتُ في ذهنهِ، تتشابكُ… يتقدّمُ منه المُمرضّ حاملاً معه الحقنةَ، غير أنّ ظلالَ الذّاكرةِ تأبى أن تنقشعَ، تلحّ عليه كلمات صديقه بشدّة ذات اِندحارٍ:
_نضال هل بلغتكَ آخر الأخبارِ ؟
_خيرٌ إن شاء الله.
_لقد فتكوا ليلة البارحةِ بريحانةِ القلبِ..لن تتعرّف إلى ملامحهَا من فرط ما نالها من تعذيبٍ و تشويهٍ.
تنسحب الذّاكرة تدريجيّا لتعجّ ببياض الفراغِ.
_دكتور، لقد نام المريضُ.
_هل حّددتم موقع الإصابةِ ؟
_يشكُو كسورا في الرّقبة متفاوتة الخطورةِ، و لديه جرحٌ في القلب غائرٌ..
_اِنتبهوا..إنّوضعه دقيقٌ للغايةِ.
_دكتور إنّنا نفقدُ المريضَ..نبضُه صار ضعيفًا و النّزيفُ لا يتوقّفُ.
_تفصّد العرقُ من جبينِ الجرّاحِ غزيرًا و عيناهُ تقفزانِ بين شاشةٍ صغيرةٍ تعرضُ معلوماتٍ أساسيّةً عن سرعة النّبضِ و الضّغطِ الدمويّ و أوكسيجين الدّم، و معدّل التّنفس..و ذلك في شكل رسوماتٍ بيانيّةٍ و أضواء تتوزّعُ بين الأخضر و الأحمرِ، و بين أحلامٍ في الأفق لاحتْ لهُ مبعثرةً يريد رتقهَا. يتعالى من الجهازِ صوتٌ منذرٌ بالخطرِ..يحتدّ..يخفتُ..ثمّ يتلاشى تماما.
رانَ فجأةً صمتٌ على المكان رهيبٌ، آلة مراقبة العلامات الحيويّةِ تتوقّفُ عن إصدار الإشاراتِ و إرسال الأضواءِ و تسكنُ. يُسدَلُ شاشٌ أبيضُ على الجثّةِ الهامدةِ، الطّاقمُ الطبيُّ ينسحب من القاعة تِباعًا.
_ماذا حدث دكتور؟ نجحت العمليّةُ أليس كذلكَ ؟
تنبري الممرّضةُ على أدواتِ الجراحةِ من ملاقطَ و مشارطَ و مقابضَ و شفراتٍ تجمعهاتريدُ تعقيمهَا و حفظها فتعثرُ في الأثناء على هاتفٍ جوّالٍ قرب السّرير المتحرّكِ، تحاولُ فتحهُ فينبعثُ منه صوت حبيبتهِ:
_عزيزي، اِتّصلتُ بكَ مرارًا لكنّكَ لم تجب، و ها أنّني أترك لكَ رسالةً صوتيّةً لتردّ عليها لاحقًا، أنسيتَ موعدنَا ؟ لقد قضّيتُ وقتًا طويلاً و أنا أتزيّنُ أمام المرآةِ لأرافقكَ إلى المركز الثّقافي في طرف المدينةِ. لقد ارتديتُ ثوبكَ الزّهريّ المفضّلَ، و اِنتقيتُ أجمل الاكسسوارات التّي أهديتني إيّاها في عيد ميلادي. هل نسيتَ لقاءنا الأسبوعيَّ مع الأصدقاء ؟ إنّهم يتحرّقون شوقًا للاّطلاع على ديوانكَ الجديد “نبضات” سنستمتع إثر ذلك بنقاشاتنا السّاخنة المعهودةِ حول آخر المستجدّاتِ على السّاحة الأدبيّة و السّياسيّة، يتخلّل ذلك عزفٌ ممتعٌ لطالما ترنّمنا على وقعهِ.
رسوماتُ القلبِ تتحرّكُ…
_دكتور لماذا تلوذ بالصّمت ؟هل حدث مكروه لفلذة كبدي ؟
يُطرقُ الطّبيبُ و يتردّد في الإجابةِ..
_عجّلْ حبيبي الحياةُ تنتظرُنا و الفنُّ. تتسارع الحركةٌ معلنةً عن العودة إلى الحياةِ وسط ذهول الممرّضةِ، و اِرتباكها..لا تدري ما عليها فعلُهُ.
___________
(أسمهان الفالح/ تونس)

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى