ط
مقالات نقدية

نجيب زاهي زركش …زلزلة الغواية وسحر الحياة- بقلم / د. وفاء كمالو


كتبت/ د. وفاء كمالو
ــــــــــــــــــــــــــــــــ

يشهد الواقع الثقافي المصري حضورا جدليا صاخبا , يبعثه مسلسل نجيب زاهي زركش , الذي يواجهنا بتيار من الجمال الاستثنائي النادر , فهو ينتمي إلى الأعمال الدرامية الكبرى المسكونة بالمشاعر الإنسانية والأبعاد النفسية , بالوجودية والعبثية , المثالية والواقعية , الفانتازيا والسياسة وعلاقات الحب والجنس والرومانسية , لنصبح أمام ثورة جمالية عارمة , امتلكت أقصى درجات الحرية لتبحث عن الوعي والفكر والإرادة , عن معنى التمرد والعصيان , عن العدالة الهاربة ودوافع الأعماق , وصولا إلى معنى الحضور والغياب , الذي لامسناه في ذلك الرجل الساحر نجيب زاهي زركش , المسكون عشقا وبهاء وجمال , انطلقت فراشات روحه الوردية , ليعانق اللحظات الشاهقة ويواجه وجودا مثقلا بالخطايا والآثام .

هذا المسلسل من إنتاج سينرجي , للكاتب عبد الرحيم كمال , والمخرج شادي الفخراني , والبطولة للكيان العبقري النجم يحيي الفخراني , مع فريق عمل ضخم من الفنانين , ورغم تيارات الجمال الأخاذ التي يبعثها المسلسل باعتباره أحد أفضل الأعمال الدرامية في رمضان 2021 , إلا أن الأوساط الفنية والثقافية قد شهدت ردود فعل عكسية تتعلق بقضية الخلط بين التأليف والاقتباس , تلك القضية التي تتكرر كثيرا في واقعنا الفني , لتضع الكتاب في الزاوية الحرجة , حيث الهروب المتعمد من ذكر المصادر الأساسية للأعمال التي يقدمونها , متصورين أن الاقتباس هو سقطة فنية يجب تجاوزها عبر اللجوء السهل لانتحال صفة المؤلف , مع أن مفاهيم الاقتباس , التمصير , المعالجة , تمتلك شرعية وجودها العلمي.

شهدت مواقع التواصل الاجتماعي تيارا من الاتهامات بسرقة فكرة مسلسل نجيب زاهي زركش , حيث أشار التتر أن العمل من تأليف الكاتب عبد الرحيم كمال , دون الإشارة إلى النص الأصلي الذي تم اقتباس فكرته , ويذكر أن المسلسل المصري مقتبس من المسرحية الكوميدية الإيطالية ” فيلومينا مارتبورانو” , لمؤلفها ادواردو دى فيليبو , وقد قدمها المسرح القومي المصري في أكتوبر1998 , باسم جوازة طلياني وكانت البطولة للنجم يحيي الفخراني ودلال عبد العزيز , وفي سياق متصل تناولت السينما العالمية هذه المسرحية وقدمت فيلم ” الزواج على الطريقة الإيطالية ” , بطولة مارسيلو ماستروياني , وصوفيا لورين , للمخرج فيتوريو دى سيكا , وقد عرض الفيلم مؤخرا ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي عام 2014 , بقسم كلاسيكيات الأفلام الطويلة .

جاءت الفكرة الأساسية للمسلسل هي نفسها التي ارتكز عليها الفيلم , وظلت الشخصيات الرئيسية بملامحها المثيرة وطبيعة أعماقها وأفكارها وصراعاتها , – ظلت في حالة اشتباك حار مع شخصيات الفيلم , وفي هذا الإطار تفتحت المسارات أمام الكاتب المتميز عبد الرحيم كمال , الذي صاغ تجربة ضخمة لمسلسل يتكون من ثلاثين حلقة , واستطاع أن يمنح المتلقي انطباعا بالانتماء إلى الواقع المصري , عبر العديد من التعديلات والإضافات وتكثيف مفاهيم التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والوجودية , لنصبح في النهاية أمام حالة إبداعية مدهشة , تكشف عن كتابة تموج بالحياة , فقد آمن الكاتب الكبير أن جميع أبناء المجتمع مذنبون معذبون , الطغاة استبدوا وطغوا – – , ولم يردهم أحد عن طغيانهم , والضعفاء ركعوا وأهينوا , وعجزوا عن المواجهة , لم يدافعوا عن حقوقهم ولم يقولوا لا , وهناك آخرين باعوا وعيهم للغياب والاستلاب , والكل مذنب ومسئول عن السقوط إلى حضيض الحياة , ويذكر أن الحالة الدرامية قد اتجهت إلى الكوميديا , واستطاع الكاتب أن يصور الكثير من ظروف الحياة الاجتماعية , حيث العلاقات بين الأغنياء والفقراء , الكبار والصغار , مفاهيم الرؤى التراتبية الشرسة التي تحكم الوجود الإنساني , وكذلك طبيعة العلاقات بين الرجال والنساء والزواج والأبناء , وبذلك أصبحنا أمام بانوراما طبيعية شديدة الثراء لنماذج من الحياة , وظلت الحلقات محتفظة برونق التحليل النفسي الدقيق للأعماق والطباع والأخلاق , بأسلوب عذب يبعث جدلا ساخنا بين الحياة والوجود والعدم وأحلام الإنسان .

لم تتوقف حدود الاقتباس الغير معلن في مسلسل نجيب زاهي زركش عند حدود مسرحية فيلومينا , وفيلم الزواج على الطريقة الإيطالية , ولكن يأتي التشكيل الدرامي للعلاقة بين زركش وخادمه طريف – الفنان محمد محمود , كاقتباس واضح من مسرحية ” السيد بونتيلا وتابعه ماتى ” , لمؤلفها الألماني برتولد بريخت , ويذكر أن التشكيل الجمالي لهذه العلاقة قد منح المسلسل أبعادا غزيرة من الدلالات والحرارة والأفكار , تم توظيفها بأسلوب متميز يدفع بالأحداث إلى التصاعد , عبر علاقة فريدة من نوعها مع المتلقي , حيث الكسر المدهش للإيهام , لتنطلق موجات الوعي والمعرفة والإدراك و وهكذا نعود إلى التأكيد على أن الاقتباس من تراث الأدب العالمي ليس عيبا ولا خطيئة , لكن الإشارة إلى المصادر هي فرض فني حتمي , يضع الأمور في نصابها السليم علميا وفنيا , كما أنه لا يقلل أبدا من القيمة الإبداعية لإنجازات الكاتب .

تدور أحداث النص الأصلي حول الشابة الجميلة المثيرة فيلومينا , ابنة الشمس والبحر والقمر والحياة , تموج أعماقها بالبراءة والحب وعشق الوجود , يحاصرها الفقر والقهر والاحتياج , تواجه عشوائية الحضيض في نابولي , عجزت عن امتلاك ذاتها , فكان اندفاعها الحتمي إلى السقوط , أصبحت من فتيات الليل الرخيص , وظلت تعيش صراع أعماقها بين رغبتها في الحب النقي والأمومة والحنان , وبين واقعها الممزق , وفي تلك الليلة الذهبية تلتقي بالوجيه الثري الأنيق “دومينيكو سوريالو ” , الذي لا يعرف الحياة إلا من خلال كئوسه الأنيقة , الخمر يمنحه الحرية المطلقة , فتسقط كل القيم والأخلاقيات , ويعيش بعيدا عن أى مسئولية أو التزام , وحين دعاها إلى قصره ذهبت معه و وبقيت زمنا , ثم هربت , وظلت تختفي وتعود حتى استقرت تماما معه , نسيت كل ماضيها الأليم وبعد سنوات قررت أن تتزوجه , توصلت إلى حيلة مثيرة , فادعت أنها مريضة وسوف تموت و طلبت منه أن يحقق حلمها الأخير في الحياة ويتزوجها , ففعل ذلك – – , لكنها تعترف أنها خدعته كي تصنع لنفسها وجودا شرعيا , هي وأبنائها الثلاثة , خاصة أن أحدهم هو ابنه – – , وأنها لن تخبره أبدا عمن يكون , حتى تحقق لهم جميعا وجودا إنسانيا شريفا .

تناول الكاتب المثقف عبد الرحيم كمال هذه الأحداث ليرسم ملامح عالم يموج بالدهشة والعذاب والجمال , لم تكن فيلومينا حاضرة بقوة في قلب الحالة الدرامية , تعرفنا على أبعادها عبر الحوار والسرد الرشيق , رأيناها في الحلقات الثلاثة الأولي ثم ماتت فعليا , وظل الحضور المشع اللافت للنجم الكبير يحيي الفخراني , يبعث جدلا ثائرا في قلب الأحداث التي تمتد عبر المزج الدقيق بين الكوميديا والهزل والجروتسك , الواقع والخيال , الشاعرية والرومانسية وقسوة مواجهات الوجود , وفي هذا السياق نتعرف على طبيعة نجيب زاهي زركش , وندخل عالم الأبناء الثلاثة , وكذلك عالم شيرين الأم الأرستقراطية المسيطرة , أخت زاهي التي ترفض رؤيته للحياة , ويأتي ذلك عبر حوار رفيع المستوى يكشف عن رحابة وعي الكاتب وسحر جمالياته , حيث البحث عن المعنى والذات والوجود والحرية ومسارات إدراك بطل المسلسل أن الحياة أعمق كثيرا من تصوراته , ليست هي الليالي والكئوس والجميلات , لكنها مسئولية صناعة الوجود , تلك التجربة المثيرة التي عاشها مع الشباب الثلاث الذين منحهم السعادة والوعي والأمان وسحر الأحلام , لذلك كان قراره بألا يبحث أبدا عن ابنه الحقيقي , هو قرار إنساني ثائر عبقري الدلالة ينتصر للحياة والفن والإبداع .

جاءت لغة المخرج شادي الفخراني لتكشف عن حضوره المتميز في قلب المشهد الدرامي المصري , يمتلك الخبرة والموهبة والجماليات المدهشة المغايرة , الحركة داخل المشاهد تبعث وهج الحياة , وتكوين الكادرات يثير ارتباطا عميقا بين الزمان والمكان وأحلام الإنسان , حركة الكاميرا تبدو شديدة النعومة , وجماليات التصوير الخارجي تمنح المسلسل موجات من الحيوية , وإذا كان القصر الأنيق هو المكان الذي تدور فيه الأحداث فإن التشكيلات المدهشة قد اكتملت عبر ديكور خالد أمين , وموسيقى خالد حماد , وكذلك الإضاءة العبقرية لمدير التصوير سامح سليم , وقد شارك في المسلسل مع النجم يحيي الفخراني , الفنان محمد محمود في أحد أجمل أدواره , حيث رأيناه شديد التأثير في هذه التجربة , قدم أداء مغايرا عبر إدراكه الجميل لمفاهيم كسر الإيهام , كما شارك أيضا الفنانون والفنانات هالة فاخر , أنوشكا , رنا رئيس , نهى عابدين , رامز أمين , كريم عفيفي , إسلام إبراهيم , مع مجموعة متميزة من ضيوف الشرف .

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى