عند الحدود الشائكة، عليك أن تتوضأ للصلاة مرتين: بالماء الطهور مرة، وبالأحمر اللزج أخرى. ولأن العيون المتربصة بطهرك لن تتركك تمر من باب الفضيلة مرتين، فلن يكون بإمكانك أن تتحامل على ذراع طفلك لتعود إلى فراشك الدافئ فتمارس حقك الوجودي في البقاء على هامش الحياة. قدرك أيها السيناوي البائس أن تعيش فوق اللهب حتى الانفجار أو الانشطار أو الغليان. قدرك أن تقتل في أي مكان ولو كنت فوق أخشاب المنابر، ولن تغفر لك جبهتك الوضيئة، ولا ماء الطهر الذي ينز من لحيتك ويسيل فوق جلبابك الأبيض، لأن القادمين من خلف أسلاك الكراهية لا يحملون قلبا كقلبك، ولا كتابا ككتابك. فأنت الإنسان الأخير في غابة تزداد وحشية كل يوم، وتزداد ضيقا كل صباح.
هل كنت تدرك وأنت تمد خطاك نحو لحدك القريب أنك ستشارك بالنزيف حتى الموت في مهرجان الموت للجميع الذي أعده لك القادمون من كل فخ عميق؟ هل كنت تعلم وأنت تسابق طفلك نحو النهاية أنك لن ترى عيناه تومضان، وأنك لن تتمكن من حمله بين يديك مضرجا بالبراءة إلى أمه البائسة؟ ترى، بأي الأذكار كنت تتمتم وأنت تنظر إلى مئذنة الروضة والسماء المفروشة بالسحب على جانبيها؟ وماذا قلت لطفلك يا ترى، وأنت تحتضنه بين ذراعيك قبل أن تغمضا أجفانكما إلى الأبد؟
كيف مر ذلكم المساء عليك أيتها السيناوية التعسة؟ وكيف تلقيت خبر نزوح رجال قريتك إلى الفضاء البعيد؟ وكيف واتتك الشجاعة لتحملي كل تلك الأكوام من اللحم الممزق بين ذراعيك، وكأن موتا لم يكن؟ هل تخيلت وأنت تمشطين شعر وليدك، وتلبسينه البياض وتودعينه نحو الباب أنه لن يتمكن من سماع الخطبة حتى النهاية، وأنه لن يركض عائدا ليقص عليك ما قاله شيخ الجامع كعادته؟ وأنه لن يبقى لك من ممتلكاته الأخيرة غير الحذاء؟
كيف احتملت “الروضة” كل هذا البياض في عرس لم تستعد له؟ وكيف استقبلت رجالها عند عودتهم في موكب حزن أليم عند خاصرتها الباردة؟ من يزرع الموالح اليوم، ومن يجمع التين والزيتون؟ ومن يكدس الملح في الأكياس الفارغة، ومن يرفعه فوق الشاحنات التي طال وقوفها فوق الأرصفة الباردة؟ ومن يحتمل كل هذا الحزن وكل هذى الدماء؟
مشهد حزين لم يستغرق إلا ثوان معدودات، خلف دهرا من البؤس في قرية كانت آمنة يأتيها رزقها رغدا من زبد البحر. وعلى يد ثلة من أسافل القوم. وبين إغماضة عين وانتباهتها، تكومت الأجساد الطاهرة بعضها فوق بعض في مشهد مأساوي حزين، لتذكر الخليفة الذي جاء إلى الأرض ليفسد فيها ويسفك الدماء، أن هناك من يسبح بحمد الله ويقدس له، وأن من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه حتى النزع الأخير.
لم يكن باروخ جولدشتاين الطبيب اليهودي الموتور أشد قسوة مع المصلين في الخليل عام 1994، ولم تكن رصاصاته أشد فتكا، كما لم يقتل التعس من المتوضئين ربع هذا العدد ولا ثمنه، لكنه كان يحمل العصيان ذاته، والفسق ذاته، والكفر نفسه. فملة الكفر واحدة حتى وإن اتشحت بالرايات السوداء، وحاملو الأسلحة نحو الصدور المطمئنة متشابهون وإن كبروا وهللوا وقصروا الثياب وطلقوا اللحى.
الرحمة واجبة لمن رحل والثأر واجب على من بقى .. ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
عبد الرازق أحمد الشاعر
تم الإرسال من Messenger
إنهاء الدردشة