ط
الشعر والأدب

نصوص وقراءات في مسرح القصيدة للشاعر /حكيم جليل الصبّاغ .قراءة وتحليل: مسلم الطعان

نصوص وقراءات في مسرح القصيدة
قراءة وتحليل: مسلم الطعان
Facebook © 2014
الشاعر حكيم جليل الصبّاغ يؤسس مسرحا في القصيدة
قراءة : مسلم الطعان
الرحيل: نص مفتوح وراء أبواب مغلقة
شعر : حكيم الصبّاغ
مسافة اولى…
أن نص الشاعر الجميل والمبدع حكيم جليل الصبّاغ الموسوم ب (الرحيل) ينتمي بإمتياز الى ما أسميه ب (مسرح القصيدة)…, ومسرح القصيدة لدي يختلف تمام الاختلاف عن ما سمي في خمسينيات او ستينيات القرن الماضي ب (مسرحة القصيدة) الذي يعنى باعداد القصيدة مسرحيا من قبل كاتب او مخرج مسرحي, أي بمعنى آخر تحويل بنية القصيدة الشعرية الى مسرحية تُمَثل فوق خشبة المسرح المعروفة.
لا شك أن مسرح القصيدة, وكما اكتشفته وجسدته عبر تجاربي الشخصية والأكاديميه في دراستي للدكتوراه حاليا و في مضمار الشعر ابداعا وقراءة وتحليلا, هو ذلك المسرح الذي يخلقه الشاعر-منتج النص,بقصدية أو دونها, عبر آليات التشكيل الدرامي بمسافاتية شعرية في تلافيف نصه الشعري…, وهو مسرح مُتخيَّل يجلس فيه الشاعر-مبدع النص, أثناء لحظة ولادة القصيدة, ليترجم فوق مسافة الورق الفارغة حواره المتواصل مع جمهور مُتخيَّل هو الآخر.
ولا غرابة فأن كل نص شعري, بوعي او لاوعي, يحتوي على بنية ذلك المسرح, حيث أن البنى الصوتية والتراكيب اللغوية والصورية تجسد مداميك ما أجترح على تسميته ب (مسرح القصيدة).
ولو عملنا مقاربة نقدية وتحليلية لمسافات نص الشاعر حكيم جليل الصبّاغ الذي بين أيدينا لوجدنا أن ثمة مسافاتية درامية تتشكل في بؤرة المرآة الشعرية العاكسة بصدق ساطع لماهية الاشتغال الدرامي المتوهج مسافاتيا في ورشة القصيدة, حيث أن لكل شاعر منشغل بالشعرية اليومية كزاد روحي لا بد منه, كالشاعر الصبّاغ , مسرحه الخاص الذي يبنى ويتأسس بكده وعرقه الابداعيّ هو, وكذلك أن الأمر ينطوي أيضا على مدى قدرة الشاعر على التماهي دراميا مع مسافات نصه الشعري بالاضافة الى امكانيات أدواته الشعرية من اغواء واجتذاب الجمهور المتخيل ليحضر الأداء الشعري من على خشبة (مسرح القصيدة) قراءة وتمثلا وتخيلا…انظر الى الشاعر حكيم الصباغ كيف يستهل نصه الدرامي بلغة توحي بالرحيل وتهيئ له:
( آذا نُ الفجر , يطلق طيوره البيض , من اعشاش المنائر في فضا ء المدينة الخائفة …..
المنائر : تمنح نشيدها الصباحي لكلّ النجوم الراحلة بهدوء عن مشهد الفجر …………
والعابرون على خيوط الفجر الرقيقة , يحملون وضوءهم على أذرعهم مترددين ………..
يدلفون المساجد بعبقرية الخوف …….)
أن المسافة الاستهلالية التي يفتتحها الشاعر الصبّاغ بآذان الفجر الذي يطلق العنان لطيوره البيض أن تطير من أعشاش المنائر الخائفة, هي مسافة درامية يجعل الشاعر فيها (آذان الفجر) شخصيته الأولى أو الراويه التي تتقدم للجمهور بعد ازاحة ستائر (مسرح القصيدة)…, فالآذان هو بدء الرحيل الروحي نحو تخوم الله بالمعنى المعروف لماهية ووظيفة الآذان…, بيد أن لشخصية ( الآذان) في مسرح قصيدة الصبّاغ مهمة أخرى وهي التهيئة والاعداد للفعل الدرامي المتجسد بالرحيل… ومن خلال آلية الفعل المسافاتي تقدم لنا شخصية الآذان الاستهلالية شخصية أخرى مرتبطة بها زمكانيا…وشخصية أخرى هي شخصية (المنائر) التي تمنح نشيدها الصباحي لكل النجوم الراحلة بهدوء عن مشهد الفجر…وبذلك يشكل (الآذان-الراوية) شخصية محوريه ذات بؤرة درامية تتحرك منها واليها شخصيات أخرى قد يكون الشاعر نفسه أو صوته واحدا منها…كم هو جميل ان ينسج الشاعر شخصيات مسرح قصيدته ويشارك هو شخصيا في الفعل الدرامي لذلك النسيج…يقدم لنا الشاعر حكيم جليل الصبّاغ مشهدا دراميا في غاية الجمال عندما يصور لنا أحاسيس وتعابير وجوه شخصيات (العابرين) على خيوط الفجر الرقيقة من الذين يدلفون المساجد بعبقرية الخوف…يحيلنا الشاعر, عبر شعرية هذا المشهد المدهش في الصياغة والمحمولات الدلالية, الى (الخوف) الذي ينتاب المصلين حين تطاردهم ذئاب الظلام وهنا يتصاعد الاشتغال الدرامي وتتوهج اللغة الشعرية عبر تلك الصياغه الدرامية المدهشه والصادمة والآسرة للمتلقي.
مسافة ثانية…
في المسافة الثانية تزدحم خشبة مسرح قصيدة حكيم الصبّاغ بعدة شخصيات تتناسل وتتوهج دراميا لتصدم المتلقي بصور شعرية في غاية الدهشة…دعونا نتوغل كثيرا في تلافيف تلك المسافة الدرامية ونستقرئ ما يجري هناك:
( الفرات :من ضفّته الشرقية – في مدينة الناصرية – المحتشمة بعباءة الدهشة ,يبدو
واثقا من من موجته الآتية …….
أنا : أرزم حقائبي .., يحملني الدمع على اكتافه ..وطنا من ظمأ العاطفة ,او بحيرة
مشاعر غامضة …الى أين ؟ كيف ؟ لا اعرف : كلّ الأجوبة ,تستحيل الى اسئلة
مبهمة …..الشوا رع : إغتال وسعها رجال ملْهمون بالموت ….
حقائبي : تحتفل بتأريخي , عشقي المسفوح على بلاط فتاة : قلبها وهم , روحها ….
سراب , جسدها : كذبة صدقها البلهاء مثلي ., عشقها : رغيف احترق في تنّوره الى
ما بعد السواد .. احاسيسها ضياع في مدينة تعجّ بالأزقة المظلمة …. حقائبي
تشرب في داخلها خوفي : فأنا تكرهني المجازفة رغم اني لا افكّر بها ..لا اجيد
اللعب على الحبال …ايّة حبال …في حقائبي : أملي : لم يزل نائما بين اضلاعي
قلقي عليه ان يستفيق الآن ,فيموت .. اصدقائي رتّبتهم بتمعّن :من احبّني حدّ
الفتنة ,من كرهني الى ما بعد الحقد بسنة ضوئية , كم هي مزدحمة حقائبي اذاً ؟
كم هي ثقيلة ؟ )
يستهل الشاعر حكيم الصبّاغ مشهدية مسافته الدرامية الثانية بتقديم شخصية الفرات-النهر-الشاهد على مشهد الرحيل والراحلين وبذلك يكون الفرات شخصية محورية في قصيدة مسرح الشاعر, وبعد ذلك تدخل شخصية الناصرية المدينة التي تشكل بؤرة الصراع الدرامي ونقطة الشروع بالرحيل…الناصرية مدينة الشاعر وأمه المكانية التي يقول عنها بشعرية درامية مذهلة (الناصرية المحتشمة بعباءة الدهشة)…الناصرية مدينة السؤال والترحال والسلال المليئة بخير يقدمه ابناؤها للغريب ويذمهم بعدما يتمتع بحلاوة ما قدموه له , والفرات-النهر-الشاهد والمسترسل في أحلامه وهو ينام في حضن تلك الأم الرؤوم, ورغم صخب أمواجه الجنوبية (يبدو واثقا من موجته الآتيه…), وبعد ذلك تطل علينا شخصية (أنا- الشاعر) التي تهيئ المشهد وتعد العدة الدرامية..تطل علينا تلك الشخصية وان كانت هي موجوده منذ البدء كشاهد ومراقب ومشارك في الحدث الدرامي والشعري للرحيل…هو الآن يرزم حقائبه والحقائب وان جاءت بصيغة الجمع لكنها شخصية محورية من شخصيات دراما الرحيل وذات فعل مفرد أيضا في مسرح قصيدة حكيم الصبّاغ, وهاهو يقدم لنا صورة صادمة للغاية وهو يترجم الوجع الرومانسي الممض حيث يقول: ( يحملني الدمع على أكتافه) وهنا تكمن البراعة الدرامية لدى الشاعر حيث يجعل من مفردته اليومية شخصية درامية ذات فعل تراجيدي يشترك هو الآخر في سيمفونية الرحيل التراجيدي…,فالشاعر يؤنسن الدمع ويجعل له أكتافا تقوم بفعلها الوظيفي حيث يحمل الدمع صاحبه الذي أوشك على الرحيل على أكتافه بعد أن رزم حقائب السفر…أية تراجيديا كونية تتفجر في تلك اللحظة في مسرح قصيدة الصبّاغ؟! وماذا تحمل شخصية الدمع على أكتافها وهي تجوب خشبة مسرح القصيدة جيئة وذهابا؟! انها تحمل الشاعر-المرتحل الذي أصبح (وطنا من ظمأ العاطفة, أو بحيرة مشاعر غامضة)…ثمة تضاد درامي منبعث من عمق الاشتغال الشعري والتجربة الانسانية المكثفة التي يحيلها الشاعر الى شخصيات مموسقة بالفعل والصورة والتوهج اللغوي الحاد,فالشاعر يصبح وطنا من ظمأ العاطفة والماء لا يمارس فعله الوظيفي لأنه ليس ماء الفرات وانما هو ماء بحيرة تعج بالمشاعر الغامضة, ولعمري فأن الشاعر حكيم جليل الصبّاغ يصور لنا مشهدية الاحتدام الدرامي بانفعال شعري تصويري مدهش ولذيذ للغاية.
يضع الشاعر حكيم الصبّاغ الهدف من وراء الرحيل-بؤرة العمل والفعل الدرامي-باطار غامض, فالوجهة لم تزل مجهولة لأن الشاعر ذاته لا يعرف في تلك اللحظة الدرامية المفصلية الى أين تقوده قدماه حيث الأسئلة تتحول الى أسئلة مبهمة, وثمة موت يجعل المشهد قاتما حيث الشوارع التي تشربت ايقاع وسعها قدماه منذ الطفولة يغتال وسعها رجال مهمتهم الموت, فهم رجال ملهمون بالموت.
ومن الشخصيات المحورية التي يمكن قراءتها أو تأويلها مسافاتياً هي شخصية ( الحقائب) التي تحتفل بتاريخ الشاعر المرتحل والعاشق الذي يسفح دم عشقه على بلاط معشوقةٍ قُدّ قلبها من وهم ونسجت روضها من سراب وجسدها كذبة صدقها البلهاء… ثمة سرد درامي مغمس بايقاعات ذات جلد تراجيدي حيث الشاعر-العاشق-المرتحل يسرد مأساته في بلاط مليكته التي أصبح عشقها رغم أوجاعه شخصية محورية في مسرح القصيدة…, فالعشق رغيف احترق في تنوره الى ما بعد السواد, وهنا اشارة واضحة الى احتراق العشق ولم يعد طعمه مستساغا لأن احتراقه تجاوز السواد…ان شعرية حكيم الصبّاغ تتأسس على دراما الحياة فهو يأخذ صورة حياتية نلمسها جميعا وهي صورة الرغيف الذي يرمز للحياة ويحيلها الى صورة أخرى ذات ايقاع ووجع درامي صارخ…فعشق حكيم الصباغ كان بمثابة الرغيف الذي يعيش عليه ومن أجله ولكن عندما يحترق ذلك العشق-الرغيف يفقد لذته لانه قد تجاوز السواد…, ويصور لنا الشاعر أيضا ببراعة أدوات شعريته ودراميته المذهلة أحاسيس تلك المليكة الراحلة عن عاشقها الأول وكيف تتحول تلك الأحاسيس الى ضياع في مدينة تعج بالأزقة المظلمة, وهذا تحول درامي في غاية الدهشة, حيث المدينة-الأم ذات الشوارع الواسعة يتم اغتيال بهجة وسعها ولذة هواءها على أيدي رجال ملهمين بالموت, وثمة تحول مكاني دراماتيكي حيث أن تلك الشوارع,بل المدينة الواسعة ذاتها تتحول الى أزقة مظلمة, ويعود الشاعر-المؤلف-الممثل- المخرج مرة أخرى الى شخصية (الحقائب) ليذكر جمهور مسرح قصيدته بأنه ماضٍ في رحلته نحو المجهول, وفعل الحقائب الشعري والدرامي يتصاعد عبر توهجات اللغة وشحناتها الجمالية الباذخة عندما تشرب تلك الحقائب خوف الشاعر وتعطيه دافعا آخر لركوب موج المجازفة على الرغم من تجاهله لتلك المجازفه وانه لا يكترث ولا يفكر بها البتة لأنه لا يجيد اللعب على الحبال و(أية حبال؟) يتسائل الشاعر دراميا من فوق خشبة مسرح قصيدته…, وحقائب الشاعر-المرتحل تضم في داخلها شخصية أخرى هي (الأمل) الذي لم يزل نائما بين أضلاعه, والشاعر في غاية القلق لأنه لايريد لهذا الأمل أن يستفيق الان فيموت…هو يريده أن يبق نائما في حقائبه لأن هناك من يتربص به ويكمن له في زاوية ما من الأزقة المظلمة…فعل الحقائب الدرامي وشعرية المشهد يمسك الشاعر الصبّاغ بخيوط حركيتهما معا عبر وعي جمالي للمسافاتية التبادلية لوظيفة الأشياء, وهنا يتوغل الصباغ توغلا عميقا في ذات جمهور مسرح قصيدته, عندما يجعل من دواخل حقائبه مكانا لفعل آخر, فالفعل الوظيفي لحقيبة المسافر هو أن تضم ملابسه الشخصية وبعض ما يحتاجه من أشياء في سفره, بيد أن الشاعر الصباغ وبدرامية وشعرية في غاية الجمال يحول هذا الفعل الى فعل آخر حيث أن الملابس تتحول على يديه الى شخصيات أخرى من الأصدقاء الذين يقوم بترتيبهم الواحد تلو الآخر وبتمعن جمالي مدهش…, والأصدقاء في مسرح قصيدة حكيم الصباغ بينهم صراع درامي جلي لأن من هؤلاء الأصدقاء من أحبّ الشاعر-المرتحل حدّ الافتتان ومنهم من بالغ في حقده وكراهيته الى ما بعد الحقد بسنة ضوئية…, وهكذا يصبح مشهد حقائب الشاعر متوهجا بلغة التضاد الدرامي:
(كم هي مزدحمةٌ حقائبي اذاً؟ كم هي ثقيلة؟)
مسافة ثالثة….
في المسافة الثالثة والأخيرة والتي تشكل ذروة الحدث الدرامي او دراما القصيدة التي تجسدها شخصيات الشاعر من على خشبة مسرح قصيدته.., ثمة ارتباط عضوي جلي مابين ثيمة (الرحيل) المركزية والشخصيات الجديدة في تلك المسافة حيث يخلق الشاعر حكيم جليل الصبّاغ جوا مسرحيا تتفجر على عتباته لغة شعرية متوهجة ومتصاعدة دراميا حيث نقرأ ونحن نعيش لذة مسرح القصيدة المتخيّل:
(أخي : يجيئ نعشه :حقيبة كبيرة ليلة وداع .
حقيبته -عفوا – نعشه ,يحتفل بعمره الغضر …, ثمة كأس كان يرى فيها نفسه ……….
نبيّا كاذبا , الصدق : ان نعرف انفسنا من نحن … قبل غيرنا ……………………..………..
هاتفٌ يرن : نعم – مشفى الولادة معك …مبروك جاءت لك بنت ….ما نكتب من اسم
على بيان ولادتها ؟ اكتبوا رحيل ….-ماذا تخبّئُ وارء هذا الاسم بحقّ السماء ؟
لم نسمعْ بهذا الاسم من قبل …. ستسمعين به كثير ا سيدتي ……انا راحل بين
النصر والهزيمة , بين الخوف والشجاعة بين اليأس والأمل كلّها طرق للضياع ……انسان
بلا وطن :قدر بلا عباد …… الوطن سيرحل يا سيدتي ,,فراته حقيبة تمتدّ من سالف
الحلم ..دجلته ترزم نفسها بحبال الموج ..النخل آثر ان يمشي على قدمَي عراقته
واقفا منذ طفولته يكره حقائب الرحيل … وطني يرحل مهموما يترك المأوى يتناسل
فيه فراغ الاشياء ..ستولد ذاكرة بدونه دونه هو هو الوطن وليس انا ……………..)
وهنا ندرك بأن المسافة الدرامية-الخاتمة يمكن أن تتوزع على ثلاثة مستويات شخصية-مسافاتية وأخرى رابعة تشكل الحيز الزمكاني لحدث(الرحيل)…, فالمستوى الأول تجسده شخصية الأخ-الشقيق-الشهيد الذي (يجئ نعشه حقيبة كبيرة ليلة وداع).., وذلك ,لعمري, اشتغال درامي تتموسق فيه و بواسطته كأداة درامية لغة الفقدان الشخصي لأخ جميل وحميم وسليم القلب والروح, وقد عشت شخصيا وقع تلك التراجيديا العائلية على الشاعر الصبّاغ حيث الرحيل المبكر لشقيق الشاعر (سليم) رحمه الله وفعلا كان (نعشه يحتفل بعمره الغضر) وهنا ورغم فداحة الفقدان وهول الوجع الممض يجمع الشاعر مابين وشائج الرحيل الشخصي والرحيل العام لشباب الوطن الذين صارت أعمارهم الغضة وقودا لمحارق حروب حمقاء أتت بوحشية على الأخضر واليابس اذ هلكت الزرع والضرع…, والمستوى الشخصي-المسافاتي الثاني تكشفه او تقدمه لنا شخصية ثانوية هي (الهاتف) الذي يأتي من مشفى الولادة ليقدم للشاعر المرتحل تهنئة ذات وقع تراجيدي بمناسبة مجيئ المولودة الجديدة التي يطلق عليها اسم (رحيل) وهي تجسيد لدراما الشاعر الشخصية التي تتحول الى رحيل مسافاتي حيث تعبر عنه دلالات (الرحيل) المختلفة…, وبعد ذلك نصل مع الشاعر الى الذروة الدرامية حيث الشاعر-المرتحل يعتلي خشبة مسرح قصيدته ويعلن بصوت عال: (أنا راحل بين النصر والهزيمة, بين الخوف والشجاعة, بين اليأس والأمل كلها طرق للضياع)…وهنا يربط الشاعر الصباغ تلك المستويات الثلاث مع المسافة الزمكانية- بؤرة الحدث الشخصي والدرامي معا المتمثلة بشخصية محورية هي (الوطن) وهكذا يصرخ الشاعر-المرتحل بلغة المرارة التراجيدية حيث أنه (انسان بلا وطن) والوطن (قدر بلا عباد…الوطن سيرحل يا سيدتي)…ورغم أن ذلك الوطن (فراته حقيبة تمتد من سالف الحلم) وياله من تصوير شعري مدهش..ورغم أن ذلك الوطن (دجلته ترزم نفسها بحبال الموج) وتلك صورة شعرية صادمة ومدهشة هي الأخرى,أقول رغم ذلك وذلك فأن الشاعر يقدم لنا معادلا جماليا ثابتا في وجه مسافات (الرحيل) التراجيدي عبر شخصية (النخل) الذي (آثر أن يمشي على قدمي عراقته/ واقفا منذ طفولته يكره حقائب الرحيل) …ثمة وطن تمتد جذوره في أعماق الأرض يرفض ان يرتحل وحتى لو ارتحل ذلك الوطن مهموما من الوجع والمراثي والمآسي التي تتناسل في (فراغ الأشياء) فأن ثبات الوطن الجمالي المتجسد بصبر النخيل على البلوى وجراحات الزمن التي تركتها في قلبه وخاصرته فؤوس الحروب يفسح المجال لولادة (ذاكرة) أخرى لوطن آخر دون وجع مسافاتي يتوزع على جسد دجلة والفرات… ويبقى الشاعر المبدع حكيم جليل الصبّاغ رغم رحيله القسري مرتبطا بجذور الوطن-الأم كارتباط جذور النخل العراقي بتربته-الأم حيث لن يغير ترابه وجلده الاسطوري رغم فداحة المشهد وقسوته فوق خشبة مسرح الحياة وخشبة مسرح القصيدة.
الاحد الموافق/6-4-2014
سدني-استرالياد/ مسلم عباس الطعان

 —

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى