محمود الرحبي
كان عمي عبد الله يعمل في جعلان مساعدا لراعي غنم وإبل ظل ينتظر ابنه حتى يكبر. وحين اشتد عود الصبي، أدرك عمي بأن عليه تغيير مكان عمله؛ فقرر الذهاب إلى مطرح عن طريق سفينة تنطلق من ميناء صور، كما أمر الراعي ابنه بمرافقته وتوديعه. وبذلك ختم عمي إقامة سبع سنوات من العمل المتواصل بحفنة لا بأس بها من قروش ماريا تيريزا*، وبقطيع صغير من رؤوس الماعز.
وحين همّ بالدخول إلى قلب السفينة، رفض الربان أن يدع قطيع شياهه يتبعه، بل صرخ في وجهه ساخرا بأن سفينته ليست مرعى، علاوة على أنها مليئة بالمؤن والبشر.. ولأن الربان ملك في سفينته، فقد رضخ عمي للشرط تاركا قطيعه الصغير في يد مودِّعه. ولا يمكننا معرفة ماذا حدث بعد أن انطلقت السفينة وابتعدت في الضباب وهي تمخر عباب الماء، وذلك لأنها غرقت بكل من فيها.. ولكنْ لنا أن نتصور، ولخيالنا أن يرسم أمورا من قبيل أن عمي عبد الله أرسل حلما يسبقه إلى سوق مطرح، ليرى نفسه وقد استأجر-بما معه من قروش- دكانا وشرع في تزويده بالسلع، فبدأت الأموال تتهاطل على جيبه كما يتهاطل المطر. عندها قرر الذهاب إلى الحمّام ليأتي بزوجة ستنجب له ابنه البكر الذي سينتظره حتى يشتدّ عوده ليساعده في الدكان.. ولكنْ فجأة هجمت ريح عاصفة وقطعت خيوط الحلم، إذ بدأت السفينة تهتزّ والركاب يتبعثرون في ربوعها وهم يصرخون. ولنا كذلك أن نتخيل، في وسط هذه القيامة، حوارا عابرا بين عمي وربّان السفينة، من تلك الحوارات الساخرة التي تجود بها الحياة في لحظات وداعها، حين اقترب عمي من أذن الربان وهمس له بأن أكبر شاة في قطيعة الذي رفض إدخاله إلى السفينة، هي أوفر حظا وأطول عمرا منه..
وكان أبي يعمل في البحرين، وحين رجع خاليّ الوفاض إلا من قروش زهيدة، صُدم بخبر موت أخيه الوحيد، إذ لم يكن لي سوى عم واحد، ولم أره في حياتي إلا مرات قليلة، صامتا معظم الوقت وهو يعمل في إصلاح كل ما يراه يستحق التقويم في بيتنا. وكان يزورنا قبل الأعياد في غياب أبي، وهو يحمل معه شاتين ويظل معنا حتى اليوم الثالث للعيد يقطع اللحم ويشويه؛ وفي اليوم الرابع يشق طريقه عائدا إلى جعلان.
وقعت الحادثة في خمسينيات القرن العشرين، حين كان العمانيون يسافرون إلى أي مكان في الأرض طلبا للمال. عاد أبي من البحرين بما يكفي لمعيشته في قريته أشهرا، وكان حينها يفكر في القِبلة التالية حين تنتهي النقود، وقد مثلت له فكرة العمل بنّاءً في الكويت، إذ خطط لخوض مغامرة السفر عبر البحر، بكل ما تحمله الرحلة من احتمالات وموت. كنا نعيش في قرية الحمّام، إحدى قرى جبال وادي الطائيين، وكانت ليلة هدّ فيها الأرق رأس أبي وهو يستعد، في أي لحظة، لإطلاق رجليه إلى المجهول، وبجانبه صُرّة أعدتها له والدتي منذ يومين، حين دخل إلى قريتنا جمل يتسنّمه شاب يقود وراءه قطيعا من الغنم، سحابة ملونة تملأ ربوع الجبل.
لم يكن قد سبق من قبل دخول جمل إلى الحمّام. ومكث صاحبه في ضيافتنا أسبوعا كاملا، وقد ترك جمله باركا تحت ظل شجرة. ولكن الجمل لم يمكث وحيدا، فما فتئ النساء والأطفال يحلقون حوله مستغربين ومتسائلين.
أثناء ذلك وبعده، حدثت في قريتنا ولادات ووفيات وأبرمت عقود بيع وشراء، وكان جميعها يؤرخ بعلاقته بزمن دخول الجمل إلى الحمّام. فالمرأة التي ولد لها مولود في اليوم الموالي لدخول الجمل يكون ذلك تاريخ ولادته. والحطاب ساهر المسن، الذي رحل عن دنيانا بعد يوم واحد من مغادرة الجمل وصاحبه، أرّخ أبناؤه يوم وفاته في ذاكرتهم باليوم التالي لرحيل ذلك الجمل.
حدّثنا الشاب أثناء اقامته بيننا، بكل ما يعرفه عن عمي عبد الله، مبتدئا بقصة رفض الربان دخول قطيعه إلى السفينة. وقد تكفل بحمل الأمانة ورعاية القطيع، الذي كبر وزاد عدده، فقرر بعد ذلك أن يبحث عن بيت أخيه الوحيد لتسليم أمانته مطمئنا. كما أخبرنا بأنه يدين لعمي عبد الله بالكثير، فحين أقعد المرض والده، تولى تربيته وتعليمه فنون الرعي. كما أخبره عن سر الرزق، وهو ألا يلمس مالاً لا يخصه وأنه لن يتأتى لإنسان اكتشاف هذا السر بدون التسلح بسلاح القناعة.
أعرض أبي نهائيا عن فكرة الرحيل، وباع قطيع الغنم، ثم قرر أن يرحل بنا إلى مطرح ليستأجر دكانا في سوقها، وهناك بدأت أكبر لأساعده في العمل في الدكان.
وفي آخر كل نهار، حين يبدأ التجار في شكر الله على نعمائه ورزقه، كان أبي يشكره على نعمة دخول الجمل إلى الحمام، أمام اندهاش التجار وحيرتهم.