جاء المشهد الأخير من مسلسل كفر دلهاب صادما جدا لكل متابعي هذا العمل الدرامي المتميز، فإضافة إلى الحبكة الدرامية المتميزة و إلى الخيوط المتشابكة التي كانت تتسربل الواحدة تلو الأخرى مجيبة عن كل الأسئلة تباعا و كاشفة عن الغموض الذي يلف أحداثه شيئا فشيئا و نجح المسلسل في أن يخلق الجدل بمشهده الأخير المثير.
لاشك في أن هناك أعمال درامية يمكنك أن تتوقع نهايتها و كفر دلهاب نجح في أن يوهمنا بأن نهايته متوقعة وهذا ما جعل وقع المفاجأة أشد.
كل شيء كان يسير نحو تلك النهاية التقليدية التي تقضي بانتصار البطل، انتهاء الظلم و تحقيق العدالة. إنها نهاية سعيدة و محببة لنا لكنها تبقى مثالية جدا و بعيدا عن الواقعية فلا شيء في الواقع يدعى نهاية سعيدة فالصراع ما بين الخير و الشر دائم ما دامت الحياة و بالرغم من أن كفر دلهاب يقدم نفسه على أنه مسلسل رعب من المفترض أنه بعيد عن محاكاة الحياة الواقعية العادية غير أنه الأكثر واقعية بالنظر إلى معانيه، دلالاته و رسالته العميقة.
المشهد الأخير غير كل الخطط و قلب كل الموازين فلا العدل تحقق و لا الطيب كان طيبا و من كان يعتقد أنه وقف بصف الحق و دافع عن الحقيقة اتضح له غير ذلك، و ما كان حقيقة لم يكن في واقع الأمر سوى كذبة كبيرة.
المشهد الأخير فتح الباب على مصراعيه أمام الكثير من التساؤلات، القراءات و التأويلات كما طرح إشكاليات فلسفية مثل الحقيقة و العدالة و لأن الأعمال الفنية خاصة الدرامية منها لا تعني فقط تحقيق المتعة للمتفرج أو المشاهد بل يمكنها أيضا أن تساهم في إعادة تشكيل الوعي و خلق نقاش فكري بناء فإننا سنحاول استنطاق هذا العمل الدرامي المميز في بعض أحداثه ووقائعه و طبعا دون أن ننسى المشهد المثير للجدل.
بدأت الحكاية بروح غاضبة قتلت ظلما و عدوانا فنشرت اللعنة بين الناس راغبة في الانتقام ممن اعتدوا عليها و طبيب يعلن تواصله مع الروح و مساعدتها في مسعاها لتحقيق العدالة التي ستخلص بدورها الناس من اللعنة.
بعدها تكشف حقيقة أخرى، لا توجد روح ولا توجد لعنة لكن يوجد صبي صغير قتل والده و شهر بوالدته، دفنت حية وكل شيء تم على مرأى و مسمع منه، دفن مرارته في قلبه و عندما اشتد عوده عاد ليطالب بحقه و يحقق العدالة و الحقيقة الأولى لم تكن سوى خطة ذكية و مدروسة ليصل إلى مبتغاه، هذا الصبي ليس سوى الطبيب نفسه.
بذلك يكون لدينا حقيقتان يشتركان في صفة واحدة “العدالة”، إحداهما صارت كذبة لكن مع ذلك يظل الهدف نبيلا “تحقيق العدالة” ليس فقط لوالدته بل للفتاة التي تعرضت هي الأخرى لنفس الظلم (ريحانة).
السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح الآن هو يا ترى كم من المتابعين انتبه خاصة بعد انكشفت بعض التفاصيل المهمة في القصة إلى هناك ضحايا أبرياء من الجريمة البشعة المرتكبة لا ذنب ولا دخل لهم فيها قد دفعوا ثمنها؟ كم من المتابعين انتبه إلى أن العدالة لم تتحقق أبدا بشكلها المطلوب التي كثيرا ما أصر الطبيب عليه وهي المحاكمة العادلة و العلنية أيضا للمجرمين؟ الطبيب كان مصرا على المحاكمة كالشكل الوحيد و الأمثل لتحقيق العدالة لكنه مع ذلك كان وراء أن يحرق أحد الجناة حيا و بدون محاكمة فهل تساءلت عن أين العدالة في الموضوع؟ من طرح هذه التساؤلات أثناء المشاهدة و انتظر الإجابة فل يعلم أنه قادر على التمييز ما بين تحقيق العدالة و الانتقام.
بين العدالة و الانتقام فرق شاسع جدا، فالمنتقم سيسعى إلى تحقيق انتقامه مهما كانت الطريقة بل و بأبشع طريقة حتى و إن تأذى أبرياء أما السائل عن العدل سيكتم غضبه و حقده و المهم لديه أن يعاقب المجرم على جريمته مع مراعاة الوسيلة و الطريقة العادل لن تهمه النتيجة أكثر من طريقة الوصول إليها و تحقيقها وقد يكون من الصعب جدا إيجاد هكذا شخصية بين البشر. نريد التأكد لنلقي نظرة سريعة على بعض المعطيات حولنا، ألم يقتل “ثوار” ليبيا رئيسهم المخلوع بكل وحشية ما إن وجوده؟ هل ما فعلوه به تحقيق للعدالة أم تحقيق للانتقام ؟
“عندما تقتل من ظلمك بنفس درجة الغل و الحقد بنفس الطريقة يتساوى المظلوم مع الظالم ” هذا فحوى إحدى حوارات المشهد الأخير في مسلسل كفر دلهاب.
هل صحيح ما جاء في الحوار من أن كل مظلوم هو مشروع ظالم؟ لنساءل أنفسنا ربما الأمر ليس بهذا التعميم وهذه الشمولية لكنه أمر واقع متجلي في كثير من المظاهر حولنا أ ليس يهود الكيان الصهيوني أنفسهم الذين يحيون في كل سنة ذكرى المحرقة اليهودية و يتذكرون بغصة و مرارة ما حل بأسلافهم أيام نازية هتلر هم نفسهم الذي يباركون قتل و حرق و حصار شعب بأكمله داخل الأراضي الفلسطينية؟ أ لم تكن ردة الفعل على تمادي الغرب في البطش بعالمنا العربي و الإسلامي أن خرج من رحمنا جماعات متطرفة مثل تنظيم الدولة الإسلامية بغض النظر عن الممول الحقيقي لهذه التنظيمات و أهدافه منها، إذا تركنا الحيتان الكبيرة جانبا فالأسماك الصغيرة التي يلعب بها كدمى متحركة قد لا تكون لها ولو ذرة شك أنها تفعل الصواب و تقف بجانب الحق.
يهود الكيان الصهيوني مقاتلوا داعش وغيرهم كثر قد لا يكونون جميعهم وحوش نزعت قلوبهم من أحشائهم كما نتصور قد يكون موقفهم هو موقف (هند) بطلة كفر دلهاب أقنعوهم أنهم يحاربون من أجل تحقيق العدالة لدرجة لم ينتبهوا لجثث الأبرياء التي تتساقط أمامهم، وربما أقنعوهم أنه لا بأس بالتضحية بالأبرياء في سبيل تحقيق العدالة، دون أن يدركوا أن طريق العدالة لا تتعبد بجثث الضحايا الأبرياء.
(الحياة اختبار ابتلاء و الإنسان عادة بيسقط في) وهذه حقيقة أخرى إذ ما سلمنا بوجود حقيقة، قد لا توجد هناك حقيقة ثابتة الحقيقة تتغير باستمرار تماما كما رأيناها تتغير باستمرار في كفر دلهاب.
لحسن الحظ من قوانين الحياة أيضا لا كذبة أبدية، من رحم كل كذبة تنبعث حقيقة جديدة وحين تتجلى أمام ناظريك حينها فقط يكون الاختيار (انتي عرفتي الحقيقة يا ترى حتختاري ايه أنا معرفش بس اللي متأكد منه انك حتبقي مسؤولة عن اختيارك)
فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون