نوّة ………………………………………
..بخطى متثاقلة خرجت من غرفتها متجهة إلى الصالة، وجدت أختها تشاهد التليفزيون. أسندت جسدها إلى الحائط وسألتها : – هل هناك أخبار جديدة؟ – لا جديد ، فقرات متشابهة انفجارات وحروب وأشلاء في كل مكان وبكاء وحزن ومجاعات. هزت رأسها كمن يعلم مسبقا ما سيسمعه وأطرقت إلى الأرض ثم استدارت لتعود إلى حجرتها. استوقفتها أختها قائلة :- تعودين لصومعتك ثانية؟! ألم تملي المكوث فيها؟ أحاول أن أقنعك كثيرا أن نخرج لكنك ترفضين. اعذريني حبيبتي أشعر أنني لست في حاجة للخروج أو رؤية الناس. على العموم لن يمكننا الخروج اليوم فهناك نوّة ففي النشرة قالوا إن ارتفاع الأمواج قد يصل لثلاثة أمتار والرياح شديدة و . . . . شعرت وقتها أنها أخطأت بذكر هذا الخبر ولكن لم تستطع استدراك ما قالته فتوقفت. أما هي فقد دبّ فيها النشاط فجأة وبدأت في ارتداء ملابسها للخروج. كانت أختها تعلم أنها تعشق أوقات النوّات وتتجه إلى البحر وكأن هناك نداهة تستدعيها. كانت تخشى عليها نوبات البرد لأنها قد تلزمها الفراش لأسبوع أو أكثر، ولكن انتهى الأمر فقد عزمت وستخرج. فلم يكن أمامها إلا أن تطلب منها أن تلبس ملابس ثقيلة وأن تحرص على نفسها. دائما هي تتجه إلى البحر لتحكي له كل همومها ، أحلامها ، انكساراتها ، تشعر دوما انه يدرك ويشعر ويحزن ويفرح معها لا تدري متى علمت أن وقت النوّة هو الوقت الذي يتحدث فيه البحر عن همومه هو وجراحاته هو لكنها أقسمت أن تبقى إلى جواره في هذه اللحظات. عندما نزلت إلى الشارع وجدت أن النوّة تعلن عن وجودها، هواء شديد وأمطار. كانت أصوات الناس ما بين فرح بالمطر وضحكات وكلمات وأوامر بالإسراع إلى المنزل حتى لا تغرقهم الأمطار. كان الجميع يهرولون إلى الشوارع الجانبية بعيدا عن البحر، أما هي فكانت تهرول إلى البحر. اقتربت منه وكأن الدنيا ليس بها سواهما، كانت أمواج البحر عالية جدا وترتطم بالصخور بشدة فيتطاير الرذاذ على وجهها ، قالت في صوت خفيض : – أنا هنا . . أشعر بك ، اعرف أوجاعك . . قل ما تريد. كانت الأمواج هادرة جدا شديدة جدا لا يقف عائقا أمامها إلا الصخر وكأنها كانت تحاول اقتلاعه ، لا تدري لماذا شعرت وقتها أن البحر يريد أن يثور . ظلت تنظر إليه وتستمع إلى صوت أمواجه الهادر ومع ارتفاع صوت الموج كان هناك أصوات أخرى ترتفع ، أصوات رافضة لأحداث وأمور كثيرة ، كانت تهدر بداخلها وتتعالى تريد أن تخرج من محبسها. اختلطت دموعها برذاذ البحر، لكنها تذكرت أنها من يستمع، فتبسمت ابتسامة خفيفة وقالت : – لا تقلق .. اصرخ بأعلى صوت لأمواجك ثر على كل ما تريد أنا معك إلى جوارك. دائما تقفين بجوار من يحتاجك. شعرت بالخوف عندما سمعت تلك الكلمات فهي تعرف انّه لا يوجد من يتحمل هذا الجو أو يرى فيه متعة. استدارت لترى من المتحدث ، عندما عرفت شخصية محدثها قالت : – رسوا اضطراريا أم روتينيا يا قبطان؟ نظر إليها في صمت فهو يعلم جيدا أنّ إجابته إذا خرجت عما احتواه السؤال فلن تصدق، فلم يجب بشيء وهي لم تقف في مواجهته طويلا، أعطته ظهرها ونظرت إلى البحر ، ظلت تحدق في الأمواج وهي تتلاحق على الصخور حتى انفصلت عن العالم تماما وحلق عقلها في الفراغ وبعد وقت ليس بالقصير نطق هو قائلا :- ألهذا الحد لا ترغبين في رؤية وجهي؟! كانت كلماته تتطاير في فراغ ذاتها بلا معنى وبلا إحساس. ظلت صامتة تلقي ببصرها بعيدا. الغريب في الأمر أن أمواج البحر بدأت تنحسر عن الشاطئ والصخور وكأنها تستمع للحديث. حاول هو أن يتقدم خطوة باتجاهها لكنه تردد، فعلى قدر هدوئها يعلم أّنّ رد فعلها عنيف عندما تغضب ، قال بصوت حزين متقطع : – اعلم أنّي جرحتك و . . . وجئت الآن بعد عام من تأنيب الضمير لتعتذر … تأنيب الضمير. ثم تنهدت وكررت، الضمير. صدقيني أنا لست بهذا السوء، كانت الأقدار . . . قاطعته منفعلة وبصوت عالي : – كفاك اتهاما للأقدار ..كفاااااااااك استدارت لتواجهه وأكملت : – أتحب أن اروي لك قصة؟ في ليلة باردة جدا يثور فيها البحر وأمواجه، تترنح سفينة يمنة ويسرة ومن حسن حظ طاقمها أنها قريبة من ميناء، يقرر الربان أن يرسو ويأخذ حقيبته ويهبط من السفينة . . . أرجوكِ ….. يقولها ناظرا إلى الأرض في انكسار. تكمل بعصبية وتوتر : – ستعجبك الحكاية وستروقك دعني أكملها ، يجد فتاة تسير على الشاطئ يتعارفا يحكي لها عن مخاطر ركوب البحر وكيف يتغلب عليها يقنعها أنّه مبعوث العناية الإلهية ليثبت لها أنّ الخير لابد أنّ ينتصر، وأنّ الثقة يمكن أن تمنح للبعض دون خوف. يخبرها أن أفكارهما ومصيرهما واحد ويقسم أنّه لن يرسو بميناء آخر، ثم تصحو ذات صباح مرير على مفاجأة، أنّها قبلت صفقة مشبوهة لم تكن تقبل بها وهي في كامل عقلها. خوفا عليكِ كان لابد أن أرحل بمرارة قالت : – خوفا عليّ كان يجب ألّا تقترب فجأة ارتفعت أمواج البحر واصطدمت بالصخور فتطاير الرذاذ على جسدها يلسعها كالسوط فصرخت ، ثم انفجرت قائلة : – أيتها الكذبة الكبيرة ماذا تريد؟ تشوّهت الصورة أكثر مما كنت احتمل رؤيتها . ألا يكفي أنني على وشك الموت عذرا يرضيكِ؟ فأردت أن تقتلني أنا أولا ، أيّ نوع من القربان هذا؟! غالبها البكاء وهي تكمل : – لكنك لم تقتلني فتريحني حتى هذا استكثرته عليّ فتركتني مسخا يتأرجح بين الحياة وبين الموت، وبدأت تسقط من عيني كقطع النار قطعة قطعة. لم يحتمل كلماتها وتساقطت دموعه، ورغم انه يقف في مواجهتها بلا فاصل إلا مسافة صغيرة شعر أن بينهما جدارا سميكا، فتحول ببصره إلى البحر وظل ينظر إلى أمواجه المرتفعة التي ترتطم بالصخور محدثة صوتا هادرا. ……………
اترك تعليق