ط
مسابقة القصة

“وادي النخيل ..مسابقة الرواية ( الصل الثانى عشر ) بقلم / ريم الأتاسى من الأردن

مشاركتي الثانية في الرواية
الفصل الثاني عشر من رواية “وادي النخيل”
ريم الأتاسي
[email protected]

أجل .. عندما تبدأ قصتك بكذبة فاعلم أن نهايتها ستكون كذبة، مهما صغرت أو عظمت، فالرصاصة القاتلة قاتلة مهما كان نوع السلاح الذي خرجت منه، سواء أكانت رصاصة رشاش أو بندقية أو مسدس، عندما تدخل إلى قلبك وتمزقه لن يسألها من أي نوع سلاح أتيت، ولا حتى أنت يمكنك أن تلوم الرصاصة التي قتلتك، لأنها لم تخترك من تلقاء نفسها، لأنها لم تقرر أن تنهي حياتك لأنه بينها وبينك ثأر، إن من اطلق الرصاصة عليك، من بقي ثابتاً لمدة يحدد اتجاهك قلبك، هو من قرر قتلك هو من اختار أن تكون أنت بالذات ضحيته، تلك الكذبة التي عليك أن تتوقف عن تصديقها، بأن الرصاصة هي من قتلتلك .. لا يا عزيزي أنت من قتلتني .. أنت ..

سيأتي يوم وتدرك فيه بأنك لست وحدك من كان يؤذيني، بأنك عندما اجتمعت أنت وظروف الحياة علي، كنت أقسى بكثير من القسوة. ماذا سيكون رد فعلك عندما يأتي الشخص الذي ملكته قلبك ويعترف لك بأنه يخونك، بأنه لا يستطيع أن يعيش مع أنثى واحدة، بأنه كي يشعر بذكورته عليه أن يمتلك جيشاً من النساء. في ذلك اليوم حطمت مرآة جدتي التي اهدتني إياها قبل أن تموت، مزقت أول قصيدة أهداني إياها والدي، رميت في القمامة كل كتب الحب التي قرأتها، أحرقت صور الطفولة، ومزقت رسائل المراهقة، انتقمت من نفسي كأنني انتقم منه، دخلت علي والدتي وجدتني غارقة في دموعي، والفوضى من حولي في كل مكان، حضنتني وجلست بجانبي ..
ذات يوم كنت أنت ماتزالين صغيرة، شعرت بأن مشاعري تتحول عن والدك، عندما علمت بأنه أهدى إحداهن قصيدة أنا زوجته أبى أن يهديني إياها، شعرت بأن اهتمامه بي خف، بأنه أصبح يقدر عمله علي، اعتزلت عملي ورحت أراقبه .. ثم اكتشفت بأنه كان واقع في الحب مع إحدى مريضاته، لكنني لم أواجهه بالحقيقة، سكنت الصمت وعشت بمعاناتي وحيدة، لكنه سرعان ماعاد إلى حضن منزله الدافئ .. لأنه لم يكن ليجد يوماً ما يجده هنا ابداً، أحياناً الحب يا ابنتي وحده لا يكفي ..
هل تطلبين مني يا أمي أن أنساه؟
النسيان يا ابنتي لا يطلب .. النسيان يأتي وحده، إن الله وضع في طريق كل منا إشارات، كإشارات المرور، من تجاهلها تعرض للحوادث ومات شقياً، أما من فتح عينه عليها وراقبها وعمل بها، فسيبقى سالماً طالما ما أذن الله له بذلك ..
هل يموت الحب يا أمي؟
لا .. الأشخاص الذين نحبهم عندما يموتون، نحن لا نقتل حبهم معهم ..
أنا في ألم .. ألم شديد من الحب يا أمي ..

الأشخاص الذين نحبهم عندما يموتون، نحن لا نقتل حبهم معهم. سامحته .. لكن ليس من قلبي، سامحته مرغمة لأنني وجدت نفسي أعيش كل شيء معه، حتى إن لم يكن موجوداً فذكراه كانت كذلك. عدت إليه محاولة أن أتغير لكنني لم أستطع، عندما اجتمعنا لأول مرة بعد فراقنا الأول صفعته على وجهه، أخذ يضحك ثم ضمني إلى صدره، رحت أبكي كالطفلة الصغيرة في حضنه، تائهة بمشاعري وبماضي وحاضري ومستقبلي ..

لاتعتقد بأنني عدت يوماً إليك لأني قلبي لا يمكنه أن يعشق سواك، وليس لأن أفضل الذكريات عشتها معك، وليس لأن كل شيء يذكرني فيك، وليس لأن ما بيننا أكبر من أن ينسى بين ليلة وضحاها، وليس لأنني كنت خائفة من أفقدك .. عدت لأنني أحبك .. أجل من كل قلبي، لأنني أعتقدت بأنني إن أعطيتك فرصة ثانية ستقدر حبي أكثر وأكثر، كنت أعاملك على أنك طفلي، أربيك على المحبة والتسامح، لكنك كنت دائماً تصر على أن العقاب وحده ما يغير سلوك المجرمين .

اجتمعنا على الطاولة، كان غارقاً في التفكير، لم أكن بعد اعتدت وضعنا الجديد، نظرت إليه وهو يحرك المحبس بيده، شعرت بأن في قلبه كلمات كان متردد من قولها، وبعد أن انفض الجميع وبقينا وحدنا، خلعت الخاتم من أصبعي ووضعته أمامه على الطاولة ..
ماذا تفعلين يا “ريتا”..
إليك آخر كلمة مني يا “مروان” إن كنت تشعر لو لثانية بأنك متردد .. فاخلع الخاتم الآن من يدك وضعه هنا .. أمامك لتحدق به، وازن بين عقلك وقلبك، ولو اكتشفت أنني غلطة في حياتك فلا تعده مرة أخرى إلى أصبعك ..
لا يا “ريتا”، الموضوع لا يتعلق بك ..
إذاً بماذا يتعلق؟
لا شيء ..
إلى متى ستظل صامتاً، إلى متى ستظل غارقاً بغموضك، لا أعتقد بأنني أخفيت عنك يوماً سري، فلماذا تخفي عني كل شيء، حتى أبسط الأشياء تفضل أن تشاركها مع الغرباء على أن تشاركها معي ..
أنت مخطئة يا صغيرتي .. لكن ذاكرتي تؤلمني، كم أشتهي أن أتعرض لحادث وانسى كل شيء، انسى كل ما حدث معي ..
هل تقصد تلك القصة التي أخبرتني عنها في “وادي النخيل”..
لقد كنت ثملاً يا “ريتا” ..
لا .. لم تكن كذلك يا “مروان”، لقد عاهدتك بدمائي أن أحفظ سرك إلى أن أموت، لماذا أنت خائف إلى هذه الدرجة من أن تصارحني ..
ولماذا أنت مصرة إلى هذه الدرجة بأن القصة حقيقية ..
لأنني أراها في عينيك ..

أراها في خطواتك، أسمعها في تنهداتك، أشتم رائحتها من أنفاسك، ربما كنت ثملاً لكنني كنت واعية أكثر من أي وقت مضى. تذكرت ذات يوم عندما كنت صغيرة وسقطت من على الأدراج، عندما حملني والدي وراح يجري بي إلى المستشفى، كان في كل خطوة يقول لي:”لا تخافي يا صغيرتي كل شيء سيكون على ما يرام”، عندما استرجع تلك اللحظة أسترجع بين وبين نفسي عبارة “كل شيء سيكون على ما يرام”، لكنني كبرت يا والدي ووجدت أنه لا شيء على مايرام، وجدت أن الحب يحطم القلوب، أن الكذبة هي الحقيقة الوحيدة التي يعيش عليها الكثير من الناس، وجدت أن دموعنا التي كنا نذرفها كي نحصل على مرادنا كانت دموع حقيقية، فدموع اليوم ما هي إلى دماء شفافة تسقط من قلبنا وليس من عيوننا. لماذا خانتني كلماتك يا والدي .. لماذا وعدتني بأن يكون كل شيء على ما يرام، ولم يكن شيء كذلك.

كان في كل مرة نتوقف فيها للتحدث يغير الموضوع، كان يتهرب من لحظات السعادة، كان يبحث عن الأسى كما لو أنه يبحث عن الجواهر في أعماق البحار، كان أستاذاً في الدراما والكذب، كان معلماً في القسوة. كان طفلاً في جسد رجل .

لماذا ابتعدت عني في أكثر اللحظات حاجة إليك، لماذا كنت تختبئ وراء قسوتك فقط حتى لا أشفق عليك، لماذا كنت تخفي عن العالم كله حزنك، فقط كي تزرعه في قلبي، رغم كل الحب الذي بادلتك إياه، كنت دائماً ما تبتعد عني .. لهذا عدنا وافترقنا يا عزيز .. لهذا كان علي أن أختفي فجأة من حياتك، لتتحدى بعدي وأتحدى بك النسيان.

مرت ثلاثة أسابيع، لم أحادثه ولم يحادثني، ذات ليلة وأنا أسهر مع العائلة اتصل بي، خرجت إلى الشرفة لأكلمه، كان صوته يبدو بعيداً ومريضاً ..
أنا أحتضر يا “ريتا”..
ماذا تقول؟
أنا في سيارتي بالقرب من “وادي النخيل”، أقف على قمة الجبل أراقب هبوط الشهب، اشتقت إليك كثيراً يا صغيرتي ..
هل جننت .. ما الذي تفعله في هذا الوقت المتأخر في “وادي النخيل”، هل أخبرت والدتك بأنك هناك، لابد وأنها تبحث عنك في كل مكان ..
هل أخبرتك ذات يوم بأن والدتي كانت واقعة في غرام أستاذي العلوم، وأنه تقدم لخطبتها لكنني طردته بأشنع الطرق، وبأنني سلطت عليه مجموعة من شبان الحي الطائشون فقاموا بضربه، وأنني حاولت أن أسحقه ذات يوم بسيارتي، وأنه اليوم يعيش في دار العجزة على أربعة عجلات بسبب غيرتي وتهوري ..
“مروان”..
لقد توفت زوجته بعد أن تزوجا بسنة واحدة فقط، كان يحبني كثيراً ويقول بأن الأم التي انجبتني هي أم بطلة، لأنها استطاعت وحدها أن تربي بطلاً، لقد كنت شخصاً جيداً يا “ريتا”، لكنني انسقت نحو الشر .. القاتل مهما تكررت جريمته يبقى في كل مرة متألماً على ضحيته. لقد حطمت قلب أمي عندما حرمتها من أن تعيش باقي سنوات حياتها مع الشخص الذي أحبته، وحطمت قلب حبيبتي عندما فارقتها دون سبب، واليوم أنا أحطم قلبك بكل ما أوتيت به من قسوة ولؤم .. أنا لا أستحق كل هذا الحب منك يا “ريتا”، أن أستحق موتاً شنيعاً ..
لا تقل هذا يا “مروان”، إن الأناس الذين يحبونك هم الأشخاص الوحيدون الذين سيسامحونك لكن ليس عليك أن تعتزم أذاهم لمجرد أنك تعلم بأنهم سيفعلون، دعك من هذا الحديث وعد إلى هنا، إلى هذا المكان حيث ننتظرك . . إلى حيث تنتمي .. “وادي النخيل” ذكرى مهما فعلت فأنت لن تعيدها ..
سأفعل إن مت .. سأفعل إن شعرت بما شعروا به، وداعاً يا “ريتا”..

استيقظت تلك الليلة وأنا أصرخ، دخل والدي غرفتي وجرى باتجاهي، حملني على كتفه، كنت أصيح كالمجنونة والدماء قد غطت وجهي، أمسكته من يده وشددت عليها وهمست في أذنه “لا تعدني بأن كل شيء سيكون على ما يرام لأنه لاشيء كان كذلك عندما وعدتني في المرة الأولى ..”، لكنه لم يجبني بشيء هو فقط ابتسم كأن كل ما أراده هو أن يسمع تلك العبارة الفكاهية مني ..
أنا لم أرحل ، بقيت انتظرك على عتبة الباب، كنت أعلم بأنك ستأتي مهما تأخر الوقت، شاهدت جثته الضخمة من بعيد، شعرت بأن قلبي يدق داخل ضلوعي بقوة، لوح لي من بعيد، كان يحمل في يده زهرتين بيضاوتين، صافحني بيده الباردة، احتضنت يده وضعتها على قلبي الذي كان يدق بسرعة ..
لقد خفت عليك كثيراً ..
أنا بخير .. وأخيراً يا “مروان” لقد اعتقدت بأنك لن تعود ..
بلى فعلت .. ولولا هذا لما انتظرتي أمام عتبة الباب .. اسمعي يا “ريتا” أنا مجرم أمام كل الناس وأمام عينيك، فأرجوك لا تعتادي كثيراً على تواجدي فأنا أشعر بالخجل في كل مرة أمر فيها من حيكم هذا ..
لقد كنت صغيراً عندما غادرت الحي .. لا أعتقد بأن أحداً يتذكرك، أنت فقط تتوهم هذا لأنك ترى ذلك في داخلك ..
ربما .. المهم أنني اطمئنت عليك ..
سترحل قبل أن تشرب القهوة؟
مرة أخرى يا “ريتا” فأنا لم أعد حتى الآن إلى المنزل، لقد أتيت من “وادي النخيل” إلى هنا مباشرة، أعتقد بأن والدتي قلقة علي ..
لقد كلمتني منذ ساعة اطمئنت علي وقلت لها بأنك تبات عند أحد أصدقائك ..
جيد .. أراك في الجامعة ..
“مروان”..
أجل ..
انتبه إلى نفسك ..
وأنت أيضاً ..

ماذا سيكون شعورك إن اكتشفت ذات يوم أنك تعشقين مجرم، أن كل مبدأ أنت ضده هو يسير عليه، أن قلبك يميل إلى أكثر الشخصيات بعداً عنك، كان غشاء الحب الأسود يغطي إجابة تلك الأسئلة عن عيني، لذا قررت في ذلك اليوم أن أذهب إلى منزلهم وأحدث والدته ..

دخلت للمرة الأولى منزلهم، كان متواضعاً جداً من الداخل، كانت صور والده مزروعة على كل حائط، وكان مظلماً كأن الشمس لم تدخله منذ دهور. استقبلتني والدته مرحبة، كانت سعيدة جداً بقدومي، لاحظت من وضع المنزل أن آخر مرة دخله جمهور كان يوم توفى والده ..
لقد وهبت حياتي المتبقية لأربي “مروان” أفضل تربية، لكنني للأسف لم أستطع ..
أعتقد بأنك قدمت له أكثر مما يستحق ..
لقد ضحيت بسعادتي ومالي وشبابي لأجل أن أرى ابني شخصاً بارزاً في المجتمع، وكانت أول مكافأة قدمها لي وهو في الخامسة عشر من عمره، عندما تعمد ذلك الحادث الأليم الذي أودى بقدمي استاذه العلوم، لقد سجن ثلاثة سنوات في الأحداث، لقد خرج ابني من ذلك المكان مجرماً .. السجن قساه ولم يعد تربيته ..
كيف توفت زوجته؟
تقصدين استاذه العلوم؟
أجل ..
لقد انفصل عنها ولم تمت، لكن “مروان” يخبر الجميع بأنها توفت، إنه يحب تحوير الحقائق، إنه يعاقب الناس بطريقته الخاصة، اعتذر إن كنت وقعت في قلب تشرب إجراماً وقسوة ..
لكن لماذا؟
لأنني افرطت في دلاله، لأنني لم أقل له يوماً لا، لقد توفي والده عندما كان صغيراً في حادث باص، لقد سقط الباص من منحدر “وادي النخيل”، لكنني لم أخبره القصة تلك حتى كبر، قلت له بأن الملائكة رفعته إلى السماء، فكانت الملائكة أول من كفر بهم عندما كبر ..
“وادي النخيل”؟
أجل .. ألم يخبرك بذلك؟
لا .. لقد قال لي بأن والده أصيب بسكتة قلبية وهو في مكتب عمله..
لقد قلت لك بأن “مروان” يعيش القصة التي يريد هو أن يصدقها، لقد تغير كثيراً في تلك السنوات التي قضاها في السجن ..

اليوم أدركت سر تلك الوشوم الغريبة التي كان يخفيها تحت ملابسه، فهو رغم أنه كان لاعب رياضي فأنا لم أره يوماً يرتدي قميصاً بنصف كم، اليوم أدركت سبب توجهه الدائم إلى “وادي النخيل”، وعلمت بأن الرماد الذي نثره لم يكن لذكرى القديس الذي كان يزوره في الأحلام، بل هو ما تخيله رماد لوالده حتى يقتنع بفكرة أنه توفي ولن يعود في يوم من الأيام.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى