وجبة شهيّة
قصة قصيرة بقلم:
محمد بن يوسف كرزون
(كاتب سوري مقيم في تركيا)
يجلس في المطعم الفاخر، ينتبه إلى ثيابه التي اشتراها منذ يومين فقط بأثمان مرتفعة، يشمر كمّه، يلوّح بإصبعه، يأتيه النادل:
– من فضلك.. هل عندكم دجاج مشويّ؟
– نعم.. أكيد..
– أريد واحدة كاملة..
– حاضر.. وماذا تريد معها؟ سَلَطات.. لبن.. متبّل.. كلّ ما عندكم من مقبّلات..
– حاضر…
ينظر في جوانب صالة المطعم، يتأمّل لوحاتها، هذه مجموعة دجاجات بيضاء.. وتلك مجموعة خِراف في الحقل الأخضر.. وهناك عُجولٌ مبرقعة بالألوان الأبيض والأسود والبنّي.. في لوحاتٍ زاهية، متقنة غاية في الإتقان…
يتصنّع التفكير، يمدّ يده إلى جيبه، لعلّه يُخرجُ منديلاً، وما يلبث أن يجدَ نادلاً آخرَ يناوله منديلاً في منتهى الأناقة…
يُخرِجُ جهازه الجوّال، ينظر فيه، يقلّب صفحاته بسبّابته، ثمّ ما يلبث أن يعيده إلى جيبه من جديد.
تحضرُ الوجبةُ الشهيّة، يشمّ رائحتَها، يقول في سرّه:
– الله! ما هذا؟ كلّ هذا لي؟
يمدُّ يدهُ، وقبلَ أن تصلَ يرى حركةً غريبة، الدجاجة تنشط وتتحرّك… يعودُ إليها ريشُها الأبيض الزاهي، يعودُ إليها عَرْفُها الأحمر، تعودُ إليها الحياة…
– يا إلهي! ما هذا؟
وتزداد مفاجأته بأن تخاطبه الدجاجة بلسان بشريّ لا شائبة عليه:
– هل تسمح لي بسؤال؟
– تـــــــ …. تــــــ ….. تـــ ـــــفـــــ ــــــــضـــــ ــــــــلـــــــ ــــــــي….
– ما الفرق بينَكَ وبينَ الذئاب والثعالب؟
– آه… ماذا؟
وراح يستغرقُ في التفكير، فكيف لهذه الدجاجة أن تفحمه وهو أستاذ الفلسفة والمنطق في كلّيته؟ وكيف له أن لا يجدَ الحجّة الدامغةَ التي يقنعها بها؟ وكيف لها – في النهاية – أن تنتصرَ عليه في منطقه؟؟؟
أسئلة وتحدّيات كثيرة بدأت تواجهه، والدجاجة واقفة أمامه تنظر إلى فمه لعلّه يخرجُ منه جواب…
وبعدَ مدّةٍ في التفكير يبادرها بسؤال:
– وماذا تقصدينَ بسؤالك؟
– قصدي واضح… في طريقتكم في أكل لحمي.. في التهامي.. أرى شهيّتَكَ مفتوحةً على مصراعيها على منظري الشهيّ.. وقد قرأتُ لكَ كثيراً ما كنتَ تكتبه على أخلاق الثعالب والذئاب… وما إليها من حيوانات مفترسة.. فما هو الفرق بينكَ الآنَ وبينها؟ قل لي…
أخذ نَفَساً عميقاً.. وكأنّ جوابَها الطويلَ نوعاً ما قد منحه فرصةً للتفكيرِ أكثر:
– الفارق شاسع بيننا…
– وكيف؟
– الإنسان يحضركِ إلى مائدتِهِ بكامل أناقتكِ.. وهو يقدّركِ كثيراً.. ويعتبركِ وجبةً شهيّة.. بينما الثعالب فإنّها تعتبركِ مجرّدَ غذاءٍ عاديّ.. الإنسان يطهو لحمَكِ.. ويعدّه إعداداً جيداً.. بينما الثعالب تأكل لحمَكِ نيّئاً.. وتلعقُ دمكِ..
– أضحكتَني…. جدّاً…
– الإنسانُ له حقّ عليكِ في كلّ حياتِكِ.. فقد حافظَ لَكِ عليها حرّةً كريمة… بينما الثعلب فقد كان ينتظركِ حتّى تكبري وتسمني فيقدمُ على التهامكِ.. وإذا كان جائعاً فإنّه لا يتورّعُ عن أكل صغارك…
– ما أبرعَ حججك!
– ثمّ انظري إلى كلّ أيّامِ حياتكِ في المدجنة المرتّبة، هل واجهتِ يوماً نقصاً في الغذاء؟ هل عطشْتِ يوماً؟ بل هل مرضْتِ في يوم من الأيام؟ بالتأكيد لا.. بل كنتِ تنعمين بالنظافةِ والمياه النقيّة والعلف الشهيّ… والدواء الذي كان يُخلَطُ مع العلفِ لكي لا يصيبَكِ مكروه…
وثارت وهي تردُّ عليه:
– بل لقد حرمتموني من فلذّاتِ كبدي.. من فراخي.. وكنتم تأخذون بيضي من تحتي، ولا تدعونني أنعم بطعمِ الأمومة وأنا أحضنها…
– لا.. اعذريني.. وهل تعتبين على مَنْ أرادَ لكِ الراحةَ من تعبٍ مضنٍ وعذابٍ شديد؟ نعرفُ أنّكِ إذا قعدْتِ لحضنِ بيضِكِ ستصلين إلى حَدِّ الموتِ إن لم تجدي غذاءً قربكِ.. أو ستموتينَ من العطشِ، كي لا تفارقي فراخَ المستقبل.. واحداً وعشرينَ يوماً ستقضينها صعبةً جدّاً.. ولذلكَ أعددنا لفراخكِ المستقبليّة حضّانةً مرتّبة منظّمة، وصرنا نحضنُها فيها.. انظري إلى منظر آلاف الفراخ التي تخرج ما أجملها!
يُخرجُ جوّالَهُ، يستحضرُ مشاهد فيديو، يشغّلها، يقرّبُها من عينيها…
– انظري.. انظري..
ويتابع:
– ثمّ أنتِ وفراخك.. هل شعرتم يوماً بالبرد أو بالحرّ الشديد؟ بالتأكيد لا.. فكلّ وسائل الراحة والهناءة موجودة بين أيديكم…
تجيبه بحنقٍّ ظاهر:
– كلّ هذا من أجلِ أن تأكلوا لحمَنا.. وتنعموا بلذّةِ الطعام…
– وما الضرر من ذلك؟
– أنتَ قلْ…
عندها يرى أنّ الدجاجةَ قد أصابَها الإحباط من قوّةِ إجابتِهِ، يتسلّحُ بأقصى ما أوتيَ من بيانٍ وحجّة، ويردّ عليها بعدّةِ أسئلة متتالية:
– نهاية كلّ كائنٍ حيّ ما هي؟
– الموت!
– والموتُ بعزٍّ أفضلُ أم الموت بذلّ؟
– بعزٍّ طبعاً..
– والحياةُ بهناءة أفضل أم الحياة بشظف العيش؟
– بهناءةٍ بالتأكيد..
– نحنُ هيّأنا لكِ الحياةَ الهنيئةَ كلّها في المدجنة.. ثمّ سقناكِ بكلّ لطفٍ وأناقة.. فأنهينا حياتَكِ لأنّها حُكماً ستنتهي يوماً ما.. وأخذناكِ إلى مذبحِ العزّةِ والفخار.. وذبحناكِ بترتيب ونظافة.. ونأكلكِ ونحن نحبُّكِ كثيراً.. بل نشتهي أكلك..
– وماذا لو كنتم قد تركتموني حيّة؟
– أيتها الصديقة الحميمة.. الحياةُ إلى نهاية لا مجال في غير ذلك.. ونحنُ لم نرد لكِ حياةً تنتهي بمرض طويل وعلّات لا أوّل لها ولا آخر، ولا أحدَ إلى جانبكِ.. لم نرد لكِ موت الفجاءة من غدرِ الذئابِ والثعالب وما إليها.. عاملناكِ معاملةَ الحبيب للحبيب…….
تسكت الدجاجة.. لم تجد أيّ جواب.. يمدّ يدهُ إلى رأسِها وجسدِها.. يمسحُ عليها.. تنحني.. تخفض وقفتَها.. تقعد.. تستسلم.. يزول الريش من على جسدها.. تعودُ إلى حالتها الأنيقة: دجاجة مشويّة شهيّة..
يلتهمها ويمسحُ على بطنِه بل يضرب عليها…
بورصة في 2/1/2016م
محمد بن يوسف كرزون
كاتب وروائي سوري
العنوان البريدي:
[email protected]
رقم الهاتف:
00905383811436