وجه للألم
يذكر أن امه كانت مريضة وقد أحس بمرضها من نظراتها الذابلة ووجهها المصفر ومن إرتعاشة مفاصلها وهي تقوم ببعض شؤونه، ومن تعرقها الزائد وهو في حضنها. لم تذكر يوما أمامه أنها مريضة ولا سمع هذه الكلمة من أبيه ولكنه عرف رغم سنه الصغير أنها مريضة. قارنها بأمهات أترابه فألفاهن قويات، محمرات الوجوه، سريعات الحركة… تدل نبرات أصواتهن على صحتهن وهي على صورتها تلك… تساءل: منذ متى مرضت؟ بحث في ذاكرته الصغيرة عن صورة مغايرة لأمّه. فلم يجد لها غير تلك الصورة. قد تكون أمه لم تعرف الصحة أبدا ولكن لم يخطر بباله ما حصل يومها…
وضع بين يدي الطبيب ظرفا كبيرا أصفر اللون وألقى بجسده المنهوك على الكرسي قبالته وتنهد ارتياحا وكأنه تخلص من حمل هدّه…
نظر الطبيب إليه في غير اكتراث وهو يقلب الظرف قرأ الاسم المكتوب عليه بصوت مسموع وسأله عن حاله الآن…
هل يحدثه عن الليالي كيف يقضيها..؟
هل يحدثه عن تلك الآلام وفعلها في جسده؟ هل… شعر بحماقته حين أطاعهم وصدق أن آلامه الليلية التي استعصت عن أطباء الجسد هي نتيجة لعلة تسكن نفسه وأن علاجها عند هذا الطبيب؟ صدقهم وجاءه ينبش في نفسه المطمئنة ليسكت آلام مفاصله وعظامه…
نضد الطبيب محتوى الظرف على طاولة بينهما مكسوة بغشاء أخضر فتكدست عليها أوراق ذات ألوان وأحجام مختلفة، شرع يتفرسها ويقرأ ما حرّر عليها بعناية، غرق في أوراقه وغرق هو بدوره في أفكار تكدست على سطح الذاكرة كما الأوراق على الطاولة…
نثر على القبر الكتب والأقلام وقال: أنظري يا اماه هي ذي محفظتي جديدة وهذه كتبي وأقلامي… سأذهب إلى المدرسة يا أمي… هل أنت سعيدة؟… ووضع خده على القبر لينصت إلى إجابة امه…
مازال الطبيب غارقا في أوراقه. كم هو طويل وممل ذاك الحيز من الزمن وهو مستكين قبالته يستعطف السماء حكمها الذي سيصدر على لسانه…
عاد من رحلة صيد صغيرة للعصافير الملونة مع أترابه… سمع عويلا لجدران بيتهم… وجده مكتظا بأناس لا يعرفهم… تلقفته أيدي الجارات والقريبات… اعتصرنه في أحضانهن وازددن صراخا… قلن كلاما لم يفقهه وقلن أنه فقد جنة يتفيؤها في جحيم هذه الحياة.
أفاق من شروده على صوت القلم وهو يسقط من بين أصابع يده، يد غليظة بيضاء مكسوة بالشعر الأسود كان يتابع حركاتها شاردا…
التفت الطبيب إلى الوراء نصف إلتفاتة فأز الكرسي تحت ثقل جسمه. أخذ من خزانة رصفت فيها علب الدواء المختلفة علبة صغيرة وأخرج منها حبة أمره بابتلاعها والتمدد على أريكة في وسط القاعة، سحب عليه غطاء أبيض حتى عنقه وهو يأمره بالارتخاء ثم جلب كرسيه وجلس واضعا كفه الغليظة على جبينه… أشعره دفؤها ببرودة جبينه… كقطعة ثلج… قال بصوت دافئ كدفء كفه: “استرخ واطمئن حاول أن لا تفكر بأي شيء… وحاول.. !” ولكن…
كانا سائرين في ذاك الصباح تعيق خطوهما أوحال مطر الليلة الفائتة عندما نما إلى سمعهما صوت كالعواء أو كالنباح… خفق قلباهما والتصقا ببعضهما وارتعشا ذعرا. نظرا باتجاه الصوت فرأياه حيوانا ضخما مخيفا يرقبهما متحفزا للوثوب… همّا بالهرب ولكن هل يستطيعان ؟
أعملا الفكر فلم يجدا مخرجا إلا أن يرميا له لمجتهيهما ثم يفرّا انشغل الحيوان بتشمم شرائح اللحم في اللمجتين، فركضا لاهثين. وتعود الحيوان اعتراض سبيلهما وتعودا تلهيته باللمجتين ثم الفرار…
سمع الطبيب يقول: “إذا أحسست برغبة في أن تحكي عن أي شيء فأفعل… تحدث كما تشاء ودون ترتيب… قل ما يخطر ببالك…”.
أغمض عينيه وحاول أن يرتب الكلام أو حتى يلقيه على علاته. حاول، ومرت الثواني ومرت الدقائق ولم يقدر أن يقول شيئا. نسي الكلام… لماذا لا يفهم الطبيب ما به دون كلام؟…
لم يقل شيئا. بداخله كلام ودّ قوله لأبيه: “أستطيع أن أقوم بشؤوني بنفسي يا بابا… كبرت الآن، ألم تقل لي يوما أنني صرت رجلا؟ لا يا أبي أمي ليس لها مثيل”، ولكنه ظل صامتا ولم ينطق ببنت شفة وليلتها عرف معنى اليتم، اعتصر الحزن قلبه الصغير وبكى تحت الغطاء حتى غلبه النعاس.
مازال الطبيب على كرسيه بجانبه ينتظر منه أن يتكلم ومازال هو يجاهد الكلام، ولكن…
أخذ ينظر إلى الطّفل الممدد في الفراش طورا وإلى زوجة أبيه التي تجلس جنبه ملتاعة طورا آخر وتساءل حائرا كيف سيقطع ذاك الطريق ويواجه ذاك الحيوان الشرس وحيدا.
طال وقوفه وطال شروده… انتفض لصوتها الغاضب المزمجر تسأله: “ما وقوفك وقد حان موعد ذهابك إلى المدرسة؟ ليت هذا المرض اللعين أقعدك أنت… وتصر أنك لم تفعل له شيئا ولا تدري سبب مرضه لاشك أنك وراء علته… اذهب من أمامي لعنك الله…”. تململ في وقفته وحاول أن يتكلم، فلم تخرج الكلمات سوى همهمة وأعادت قولها: “اذهب من أمامي ماذا تنتظر؟…” قال بصوت مختنق: “اللمجة…”.
انتفضت واقفة، وقالت صائحة: “اللمجة آه… اللمجة وماذا يعنيك من أمر هذا الممدد في الفراش تفكر فقط في ما تأكل…”.
تسلل خارجا وتركها ترغي وتكيل له الشتائم. كان يسير متعثر الخطى… كان خائفا يقظ الحواس… يتلفت إلى كل الاتجاهات ويتسمع كل الاصوات وإذا بصوت كاللهاث يأتيه من قرب. نظر إلى الهضبة فوجده واقفا متربصا. ارتبك واقشعر بدنه وارتعشت رجلاه وكاد يسقط ولكنه تماسك وحاول ايجاد مخرج له فما أطاعه الفكر…
تحفز الحيوان الشرس للوثوب وما درى إلا وقد أطلق ساقيه للريح هربا فقفز الحيوان من على الربوة وجرى وراءه صائتا… و…
صرخ… انطلقت صرخته المكتومة فدوت… صرخ رعبا وقهرا وتوجعا واحتجاجا… ملأ الفضاء صراخا… أحس بيديه الغليظتين ترجانه وسمعه يقول له: “كفى… هذا يكفي… انتهى الأمر الآن !…”.