قليل من البشر من يغادر عالمنا ، ويترك داخلنا حزن أبدي موجع يظل يؤلمنا ماحيينا ، وتظل ذكري الأيام الخوالي عالقة في الأذهان ، لايمكن لنا نسيانها ، أو الفرار منها مهما حاولنا ، وتبقي الصور والملامح محفورة في قلوبنا ، بكل مافيها من تفاصيل وخطوط رسمها الزمن ، ويظل رنين الكلمات في أسماعنا بنبرات صوت صاحبها ، فيتضاعف الألم ويهتز القلب وتهفو الروح لرؤية من كان بالأمس معنا … الموت حقيقة مفزعة يعيشها كل البشر ، لكن التسليم بها صعب علي النفس وثقيل علي القلب ومستحيل التحمل ، برغم من يقين مجيئه ، مهما طال بأي منا الزمن ، وفي أي لحظة بلا إنذار أو مقدمات أو عللل وأسباب ، ومن هنا تحدث عندنا الصدمة وينتابنا الفزع ويتملكنا الحزن ويعتصرنا الألم ، عند سماع خبر رحيل صديق أو عزيز.
وفايز غالي ليس مجرد صديق لي أو لك ، أو عزيز علي زوجته وأبنائه وأهله … لكنه قيمة ثقافية رفيعة ، كان وسيظل لها وزنها وقيمتها ومقامها ، بفكره المستنير وانتصاره للإنسان ودفاعه عن قيم: الحق والخير والجمال ، تلك القيم التي درسها في كلية آداب الأسكندرية متخصصا في الفلسفة وعلم الاجتماع … وحصوله وهو إبن العشرين علي الدرجة العلمية ، دلالة علي تفوقه ونبوغة ، وحرصه علي الدراسة والبحث في الإنسانيات ، قبل أن يعرج علي الكتابة للسينما التي عشقها منذ صغره ، وتابع أفلامها في كل سينمات القاهرة التي ولد فيها يوم 21 يوليو عام 1946 ، ومات أيضا فيها يوم 13مايو هذا الشهر ، قبل حوالي شهرين من بلوغه عامه الثامن والستين … وهو الذي ساقه القدر ليعمل فور تخرجه وبحكم تخصصه كأخصائي اجتماعي في مصلحة السجون ، وتحديدا في “ليمان أبي زعبل” ، تلك التجربة التي أمدته علي المستوي العملي بخبرة معتبرة بعالم الجريمة والمجرمين في حق الوطن ، علي اختلاف جرائمهم ، وأضيف لهذا النوع من الخبرات ، معايشته لجريمة العدو الإسرائيلي في تدمير مصنع أبي زعبل للكيماويات ، المقام علي الطرف الأخر للسجن من ترعة الإسماعيلية ، وتلك كانت البداية الحقيقية ليمارس فايز غالي الكتابة الجادة ، والتي تمثلت في روايته “أبطال أبي زعبل” ثم محاولته الخروج بها كتمثيلية تليفزيونية ، إلا أن كتاب السيناريو في ذلك الوقت عجزوا عن تحويل الرواية لسهرة ، ومن هنا جاء إصرار فايز غالي ، علي دراسة السيناريو والسينما ذاتيا وأكاديميا ، حتي أنه التحق بالمعهد العالي للنقد الفني وحصل بالفعل علي الدبلوم العالي منه عام 1975 ، لكنه نجح بالفعل في كتابة أول تمثيلية سهرة له عام 1974 بعنوان “وجهة نظر” . وربما وجد فايز أبو فادي ، قبل هذا وذاك ضالته في الكتابة عن السينما من خلال ممارسته النقد السينمائي وتحليل الأفلام منذ بداية سبعينيات القرن المنصرم ، وتحديدا في نشرة “نادي سينما القاهرة” التي كان يكتب فيها كل أبناء جيله وغيرهم ، ومنهم: كمال رمزي ، سمير فريد ، هاشم النحاس ، علي أبو شادي ، فتحي فرج ، رضوان الكاشف ، مجدي أحمد علي ن سيد سعيد ، سامي السلاموني ، ومحسن ويفي … ومن الجيل التالي كاتب هذه السطور ، عبد التواب حماد ، شكري الشامي … وغيرهم كثيرين ، فقد كانت هذه النشرة بمثابه أقوي منفذ حر للكتابة في النقد السينمائي في مصر ، وبفضل تشجيع شيخ النقاد أستاذنا أحمد الحضري.
إذن مر الراحل فايز غالي بالعديد من التجارب والممارسات واكتسب الكثير من الخبرات ، قبل أن يقدم فيلمه الأول “الأقمر” عام 1978 من إخراج هشام أبو النصر ، بعد أن ملك ناصية الكتابة للسينما واستوعب عناصرها ، سواء رسم الشخصيات الذي برع فيه ، أو كتابة الحوار بمنطق الدارس للنفس البشرية والمتأمل لحياة الناس ، أو لاستيعابه لمكونات الصورة السينمائية وحركة الكاميرا وتأثيرات الإضاءة والمعادل السينمائي … من هنا جاء تميز فايز غالي فيما قدمه من سيناريوهات ، سواء للسينما أو للدراما التليفزيونية ، ومن هنا كان حماس نفر من مخرجينا الكبار والمتميزين وتصديهم لأعمال غالي ، ولا أدل علي ذلك من أفلامه مع المخرج الكبير محمد خان في ثلاثة تجارب جديرة بالتأمل والدراسة ، حيث قدما: ضربة شمس عام 1980 ، الثأر عام 1982 ، ثم فارس المدينة عام 1993 ، ومع المخرج الكبير خيري بشارة قدم فيلميه: العوامة 70 عام 1982 ، ثم التحفة السينمائية الرائعة “يوم مر ويوم حلو” عام 1988 ، ومع المخرج الكبير نادر جلال قدم فيلم “الثعابين” عام 1985 ، وحول عالم المخدرات والجريمة ، قدم فايز غالي مع المخرج طارق العريان فيلم “الإمبراطور” عام 1990 ، وفي هذا المقام نذكر بكل فخر تحفة فايز غالي السينمائية الفيلم الكبير “الطريق إلي إيلات” للمخرجة الكبيرة إنعام محمد علي عام 1993 ، الذي يعد ـ من وجهة نظري ـ أعظم عمل سينمائي إنتاج التليفزيون ، قدم حول العسكرية المصرية وبطولاتها في حرب الاستنزاف مابين نكسة 67 وانتصار أكتوبر المجيد ، أما أخر فيلم شاهدناه علي الشاشة فكان عام 2000 من إخراج نادية حمزة “وحياة قلبي وأفراحه” ، وأخر فيلم لم يري بعد النور كان فيلم “المسيح والأخر” للمخرج أحمد ماهر ومن بطولة النجم عمر الشريف … لم يتحدد مصيره حتي الآن ، وبالتالي لم يمهل القدر فايز غالي لرؤيته علي الشاشة.
وفي مجال الدراما التليفزيونية ، كانت بداية فايز غالي بها ، قبل أن يقتحم بقوة وبثقة عالم السينما ، حيث قدم التمثيلية والمسلسل الطويل ، بالتعاون مع قمم الإخراج الدرامي في مصر ، لعل أبرزها مسلسل: العقاب للمخرج محمد البشير عام 1975 ، أيام من الماضي إخراج رضا النجار عام 1979 ، الموج والضخر إخراج إساعيل عبد الحافظ عام 1985 ، أحزان نوح إخراج إبراهيم الصحن عام 1989 ، عزبة المنيسي إخراج بسام سعد عام 1996 ، أسير بلا قيود إخراج أحمد السبعاوي عام 1999 ، والمسلسل الأخير “المنصورية” إخراج ياسر زايد عام 2005 من بطولة الفنان الكبير عزت العلايلي.وسواء في السينما أو الدراما التليفزيونية كانت أعمال فايز غالي تجذب أكبر النجوم وأشهرهم لتجسيدها علي شاشة السينما أو التليفزيون ، بفضل دقة وعظمة رسم شخصيات أعماله رسما ثلاثيا متكامل الأبعاد: النفسي والاجتماعي والفيزيقي ، ولما لا فهو الدارس لعلم الاجتماع والمهموم بقضايا الناس في بلده والمتابع لمجريات الأحداث والمتأمل لعظائم الأمور وصغارها ، والمعايش للأحداث وتأثيرها وآثارها.
قدم فايز غالي للشاشتين: الفضية والتليفزيونية حوالي 24 عملا فنيا ، منها ثلاثة عشر فيلما ، وأحد عشر مسلسلا … وربما يقفز إلي الذهن سؤال بداخلنا ، وتعجب عن قلة أعمال فايز أبو هاني ، إلا أن مقولة “ماقل ودل” تجيب عن هذا السؤال ، فقيمة العطاء لاتقاس بالكم بقدر ماتقاس بالكيف ومدي تأثيره ودرجة صموده وتحديه لعوامل النسيان والتجاهل … ويقينا أن ماقدمه فايز غالي زوج الناقدة الكبير ماجدة موريس ، هو من نوعية الأعمال التي تبقي مع الزمن ، رغم كل عوامل التعرية ، والرياح العاتية ، وتقلبات الزمن ، فهل تنتبه الدولة لتكريم فايز غالي بما يستحقه وبما قدمه للثقافة والسينما المصرية تحديدا؟ أرجو أن يتم ذلك من قبل الجهات المعنية وعلي رأسها وزارة الثقافة ، وإن كان المفضل أن يكرم الإنسان في حياته ، وليس بعد مماته ، كما هي العادة البغيضة عندنا ، وبعد فوات الأوان … قدس الله روح صديقي وصديقكم المؤلف السينمائي الكبير فايز الغالي.
ياقوت الديب
القاهرة في 16 مايو 2014م