وسط التيار…قصة قصيرة
كانت الليلة رطبة, و القمر يتوارى خلف النجوم,الظلام مسيطر على جانبي الطريق,وأضواء السيارة تحاول معرفة المجهول ,بداخلها شخص يتحدث عبر الهاتف و عيناه مضطربة,الأنفاس متسرعة,و القدم تدوس على البنزين دون شعور, السيارة تشق الظلام و الصمت مطبق في جميع الأرجاء,الحديث عبر الهاتف لا يتوقف,وصوت المحرك يهتك حرمة ذلك الصمت,صوت آخر من جانب الطريق يشق الهواء,شيء من الظلمة يخترق الحبيبات الرطبة ليستقر داخل السيارة,فتشتعل السنة اللهب وتتناثر أجزائها ويصرخ الصمت بدوي الانفجار,ظلمة المكان اقتحمته السنة اللهب السيارة تشتعل في سعير محموم صرخات من جانب الطرقات تتعالى (الله اكبر…الله اكبر…قتلنا راس في من رووس الكفر) ,سكتت الأصوات وازداد الطريق رهبة والسيارة كتلة لهب تأكل بعضها بعضا…أصوات سيارة الإسعاف و المطافئ تسمع من بعيد…يبرز خيط الصباح مختلط بأضوائها, يعقبه ضوء الشمس معلناً موت كارم النقيب بجهاز الأمن الوطني.
على الضفة الأخرى من البلد الجريح,مبنى تنتشر على واجهاته الكآبة,نوافذه داكنة مطلي بلون بني عابث,تتوسطه بوابة كبيرة,يسبقها أدراج عريضة,تخلو من علامات الترحيب!,في الطابق السابع,مكتب في أخر الرواق,يعلو بابه يافطة نحاسية كتب عليها العميد حسام بيه فهمي,شبابيك الغرفة مغلقة و مسدلة الستائر,ضوء اصفر ينتشر على المكتب من مصباح قديم,منفضة سجائر زجاجة يتراكم عليها الرماد,تنشر رائحة تؤذي الأنف,يجلس خلف المكتب رجل في أواخر الثلاثين ,يدخن سيجارة وهو يقرأ تقارير كتب عليها سري للغاية, عيناه أصابهما الهزل من قلة النوم ,يرن الهاتف بجواره,فلا ينتبه من كثرة التركيز,تحرق جمرة السيجارة أصابعه,فينفضها في غضب عارم,يرفع سماعه الهاتف بعصبية يخرج زفيره بقول (الو… مين),تحجرت عيناه,تصلبت يداه واتسعت حدقتاه وهو يرد بهدوء مخيف (امتى…أزاي…اطلبولي سامح بسرعة…عاوزه على مكتبي قبل الضهر)
الساعة السابعة صباحا,نطق المذياع معلناً بداية يوم جديد,منزل يعتريه الإهمال غرفة نوم رتيبة تفوح منها رائحة ملابس قديمة و بعض الجوارب الوسخة,جرس الهاتف المحمول يرن,يتململ سامح ,يصمت الهاتف لحظات معدودة ليعاود الصراخ أجيبوني!يقوم من فراشه وكأن به مس من الجن,يدخل الحمام بضع دقائق ,يخرج ويذهب مباشرة إلى مصدر الصوت,يمسك بهاتفه (الووو) يقولها والغيظ نار تشب في عينه,(سامح بيه…سيادة العميد حسام عاوزك ضروري على مكتبه),قالها المتصل,(إيه اللي فكره بيا؟…في حاجة مهمة يعني؟) رد سامح بصوت يعتريه اللامبالاة (والله سيادتك أنا مش عارف هو طلبك بسرعة من غير ما يدينا تفاصيل) قالها المتصل في محاولة لإقناع سماح بضرورة الحضور ,(طيب …طيب…مسافة الطريق) رد سامح وهو يجمع أفكاره,(ودا عايز إيه دلوقتي؟) سؤال لا ينفك يطارده ,دون إجابة مقنعة,بدأ في تجهيز نفسه,ارتدى ملابسه ونظر في المرآة ليتذكر هل نسي شيء؟ نعم يضع يديه في خزانة الملابس ليخرج مسدسه ينظر إليه و يتأكد من وجود مشط الرصاص يضعه في خاصرته ,يمسك مفاتيحه يخرج من الشقة إلى كراج السيارات ,يركب سيارته ثم يفتح المذياع,(آخر الأخبار مقتل ضابط بجهاز الأمن الوطني على طريق رفح الشيخ زويد بسيناء وقد أفادت مصادرنا أن الحادث جراء إطلاق قذيفة هاوون على سيارة الضحية وهو متجه إلى الاستراحة بعد انتهاء عمله…نترككم مع النشرة المرورية),تضاربت الأفكار في رأسه وتعالت أصوات أسئلة ملحة ,لذلك أرسل في طلبي؟ من يكون الضابط؟ هل اعرفه؟ توقف عقله عن طرح الأسئلة حين تعالت أبواق السيارات لقد أغلقت الإشارة أمامه,توقفت السيارة وعاد العقل للسؤال ماذا جرى؟ جاءت فكرة مباغته نعم هو كارم سأتصل بكارم كي اعرف ماذا يحدث,امسك بالهاتف طلب الرقم وكان الرد(الهاتف مغلق برجاء ترك رسالة صوتية),حينها تذكر كارم في مهمة منذ ثلاثة أشهر لقد أخبره بذلك في أخر مكالمة بينهما,كارم ذهب في…صاعقة ضربت رأسه كارم في سيناء فتحت الإشارة,انطلق كالإعصار غير آبه بزحمة السير ,وصل إلى المقر ترجل وصعد الدرج لفت انتباه شخصية غريبة شخص في أواخر الخمسينات يرتدي بذلة مدنية له لحية مهذبة حديثاً يحوطه مرافقين يتحدث في هاتفه وسنه يبتسم سمع بعض كلمات حين مر بجواره (خلاص خلصت الحكاية قول للجماعة يطمنوا) تلاقت عينهما في بضع ثوان نظر الرجل بعين سامح نظرة ريبة وكأنه ينكر عليه نظرته,أشاح بنظره إلى الأمام وأكمل طرقه وحديثه,لم يأبه سامح كثيراً لتك الشخصية الغريبة عن الجهاز المريبة لنفسه,صعد إلى الطابق السابع وصل إلى غرفة العميد ,طق طق على الباب معلنا وصوله,دخل الغرفة الملبدة بدخان السجائر,كان العميد يجلس خلف مكتبه وأمامه ضابط أخر يتناقشون وحين دخل سامح وقف النقاش,أشار العميد للضابط فخرج بعد أن أدى التحية,رحب بسامح وأجلسه أمامه ,لم يبدي اندهاشه فقد توقع فحوى المقابلة, كارم قتل و الباقي متن حوار منمق للتعازي,لكن ما اخبره العميد به خالف توقعاته, نظرات كانت ابلغ من الكلمات علم العميد أن سامح تلقى الخبر ,(هدخل في الموضوع على طول) ,كلمات قالها العميد بحزم لم يعلق سامح كثيرا,تفاصيل تناثرت أثناء الحديث و النتيجة كارم قتل غدرا,من سرب تفاصيل عمله؟ من سلم معلوماته السرية للجماعات الإرهابية؟ أسئلة تحتاج إلى إجابات سريعة,أعناق مرتبطة بتلك المعلومات و الأسرار غابات تحوى مجاهل الخطر, كيف السبيل إليها دون لفت النظر؟طال الاجتماع و تشعب الحديث وأخيرا تم الاتفاق,يجب حل لغز مقتل كارم من له دخل بالحادث بل السؤال الأدق من له مصلحة بموت كارم؟ ماذا حمل كارم معه من أسرار أرادت يد الإرهاب أن تمنع وصولها إلى الجهات الأمنية؟ لكن السؤال البديهي الذي رافق سامح طوال الجلسة و لم يطرحه لماذا أنا؟,لم ينتظر طويلا للإجابة فقد اخبره العميد نظراً لبعده فترة سنتين عن الجهاز و بحكم معرفته بطلاسم الجماعات في سيناء لعمله مده أربع سنوات في معبر رفح الحدودي فهو الأنسب لتك المهمة لكن الأهم عدم معرفة أي شخص ما دار بينهما,حكمت الخطة أذن , ولم يبقى غير التنفيذ,لكن و قبل أن يغادر سئل سامح العميد عن الرجل المريب الذي قابله لم يخفي العميد اندهاشه (أنت شفته فين؟) رد العميد على سامح و بعينه نظرة إعجاب لقوة ملاحظة سامح, (على مدخل الجهاز كان نازل وبيكلم حد في التليفون), (دا مندوب الإرشاد في الجهاز), صدمت الإجابة سامح لكن سرعان من فاق من صدمته (هي وصلت لكدا؟!!!) قالها و مشاعر الغضب و الدهشة تملا عينه ,(خد الملف دا وانته تعرف كل حاجة و بعد ما تخلص منه احرقه…على فكرة يا ريت تغير مكان سكنك اليومين دول),أماء سامح برأس و هو يمد يديه ليأخذ الملف من العميد دون كثرة أسئلة عما أوصاه, فهو يعلم تماماً المغزى منها,أيقن حين خرج من مكتب العميد أن كل حياته على وشك أن تتغير بشكل عنيف و سريع,مهمة ألقت على عاتقه بها الكثير من الأسرار بها الكثير من الغدر بل …عنوانها الخيانة.
بدأ مشوار البحث,من داخل الجهاز و خارجه , من منزله إلى سيناء و مجاهلها,رافق الصعاب و الشدائد,توشح بالدهاء تارة و باللطف تارة وكثير من القسوة, تحرياته شملت الجميع,لم يغب عن عقله أن هناك يد عابثة بأمن البلد أراد كارم قتيلا لتخفي كارثة من صنع تيارات لا دين لها ولا وطن مع أنها تتدثر بالدين,شهور أضنها باحثاً و أخرى قضاها متخفياً, تاجر عبر الأنفاق و سائق نقل لم يفتت من عزيمته مع بداية البحث الطرق المظلمة و الأبواب المغلقة بل زادته إصرار على إظهار ما خفي,حتى كان الخيط الأول مكالمة كارم الأخيرة كانت مع زوجته,كانت بالنسبة لها لغزاً كبير و كأنه كان يرسل شفرات محددة لمن يبحث بعده…لقد علم انه مقتول لا محالة, أليس من الصعب على الإنسان معرفة ميعاد موته؟! أظنه علم إجابة هذا السؤال,أخيرا وصل إلى الدليل ,من خلال اختلاطه بتجارة الأنفاق و العاملين فيها ,جمع القرائن عرف التفاصيل المقيتة ,توصل إلى الخفايا العفنة لامس لب الكارثة ليجد نفسه في عين الإعصار فعلم أن الوقت آن لنبش ما في القبور ونشر ما بين السطور,آن أوان الحق أن يصعق أعين الجبناء و أعوانهم,لكن المرحلة الأخطر لم تبدأ بعد,لمن يسلم ما لديه ؟العميد حسام لم يرد على اتصالاته منذ يومين,و النائب العام وما أدراك ما النائب العام,نائب السلطان,و سيف البتار و القاهر لأعدائه و كل من تسول له نفسه الانتقاد,مكث في حيرة بضع ساعات لكن ما لبث أن أتت المكالمة المنتظرة أنه العميد حسام, رد سامح بنبرة استهجان لكن سرعان ما اختلفت تعابير وجه وهو يقول (مفهوم…يعني الموضوع متروك ليا …أنا هتصرف لكن ليا عندك طلب…لو سألك حد عني قولهم سامح جاي بكرة الساعة 10 الصبح) ثم ساده الصمت وهو يسمع الرد ثم أجاب (ايوة يا فندم هاجي…أنا عارف بعمل أيه) أنهى المكالمة وجلس على كرسيه المفضل,أشعل سيجارته ودخل في نوبة تركيز,مرت ساعات وكسي الدنيا ظلام الليل وهو مستغرق في أفكاره قبض على كرسيه بقوة ثم قام,لقد عزم على شيء لكن ما هو؟ عقله يرفض البوح حتى لنفسه عما استقر عليه ضميره,مضت ساعات الليل ثقيلة,أمضاها بين النوم و بين اليقظة,حتى لامس ضوء الشمس وجه ليوقظه من نعاس أصابه,نظر في المرآة , أخذ مفاتيح سيارته ,خرج من غرفة قد استأجرها في بنسيون قديم بالضواحي,ركب السيارة ثم أوقفها بعد شارعين,خرج من السيارة ثم استقل سيارة أجرة (تاكسي) , مض ساعة أو أكثر حتى عاد,ركب سيارته من جديد ثم أجرى اتصال بالعميد حسام,لم يقل له الكثير ,كل ما قاله (معليش اتاخرت شوية …بس أنا في الطريق),وصل سامح إلى المبنى ,نظرة يحوطها كثير من العزيمة و كثير من الترقب,صاعد السلم ,دق الباب, دخل وحين رأي الجالسين ابتسم,و كأنه يعلم مسبقاً أن الرجل المريب في انتظاره في مكتب العميد حسام,نظر العميد إلى سامح لا تتكلم,فقد راوغ ,(تمام يا فندم …أخبار سيادتك إيه) قالها سامح بكل هدوء و رزانة,(الحمد لله يا سامح اقعد) رد العميد بتروي,نظر الرجل إلى سامح وهو يقول(أحنا عرفنا انك وصلت لحاجات مهمة و خطيرة بالنسبة لموت كارم هو فين التقرير؟), نظر سامح إلى العميد بنظرة مطمئنة ثم توجه إلى الرجل ورد بحزم( تقرير إيه سيادتك؟!! أنا جاي أقول للباشا أني موصلتيش لحاجة مهمة و بعتذر على فشلي),ساد الصمت المكان,عقد حاجبين رجل الإرشاد,الدهشة تملا وجه, و الحيرة أصابت أطرافه بدأت العصبية تترنح على كلماته( يعني إيه مفيش تقرير أزاي أنا عارف و متأكد أن فيه تقرير) قالها و جسده ينتفض من صدمة أصابته,(هو الباشا قال كان فيه تقرير؟!!) رد سامح بنفس الوتيرة الهادئة,قال العميد وهو يبدي اندهاشه ( أنا مجبتيش سيرة أي تقرير كل الحكاية الأخ وصل عندي لما عرف انك جاي و حب يتعرف عليك),(شفت سعادتك يعني مفيش لا تقرير و لا حاجة ممكن اعرف من بلغك بحكاية التقرير؟!!) قالها سامح بشيء من الحزم وكثير من الثقة,أشاح رجل الإرشاد رأسه وقام من مقعده, و نظر إليهما وقال مواسياً نفسه ( مش مشكلة لو فيه تقرير أكيد هيبان…السلام عليكم), خرج و الشرر يتطاير من عينه,نظر سامح إلى العميد حسام بابتسامة تعلو وجه وقبل أن ينبث بكلمة أشار له سامح بسكوت و كتب على ورقة (خلي بالك المكتب موبوء و مرصود) في إشارة عن وجود أجهزة تصنت زرعت خلسة,ثم قال (حضرتك أنا راجع مكان شغلي وأتمنى التوفيق لغيري في البحث) ثم أشار له إن كل شيء يسير على أكمل وجه,قد حان ميعاد القصاص لكارم.
على الجانب الأخر من المبنى يقع مكتب للمخابرات العامة,رجل يرتدي ملابس مطعم شهير يحمل بيده حقيبة التوصيل,يسأل عن العقيد منصور ,(طلبية مخصوصة من سامح بيه…والباشا بيستناها) قالها الرجل حين سأله مسئول الأمن,رفع سماعة التليفون وأخذ الإذن له بدخول مكتب العقيد,أعطاه الطلبية ثم انصرف دون انتظار إكرامية فمجرد دخوله للمبنى أصابه برجفة قد لا تفارقه مد الدهر!,فتح العقيد الطلبية فوجد ملف اصفر مكتوب عليه(سري للغاية) فتح العقيد و هو يقول (الأكلة الدسمة دي محدش هيقدر يهضمها منهم).