الاسم: سيما خالد حمد صقر
العنوان: فلسطين/ جنين
الايميل: [email protected]
مسابقة القصة
وما ادراك ما هي
طأطأت الأشجار فروعها بخجل، وتوارت الشمس آخذة معها أشعتها لتعلن الغروب قبل أوانه، أصفد الناس أبوابهم، ولم يبق إلا الرياح التي أبت الرحيل دون أن تحمل معها الضغائن الكامنة في نفوس تلك المدينة، وما استطاعت ولن تستطيع حتى لو حاولت أمد الدهر.
كان التفكير يلقي بظلاله الثقيلة على عقل أبي عماد ويقض مضجعه، دوامة من الأسئلة دارت في رأسه، وإحساس بالندم تولّد داخله، راوده شك في أعماقه وعقد حاجبيه متعجباً متمتماً:” هل يعقل أن يستيقظ ضميري بسبب هذا الفتى؟”.
نزل من بيته، أدار محرك سيارته وسار يطوي المسافات على جناح السرعة، علّها تنسيه ما انهال عليه من أوجاع باتت تخالج قلبه، استرجع شريطه الأسبوعي وكانت تلك المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك، تذكر ابن حيّه سامي الذي لا يلبث أن يراه حتى يشرع بتأنيبه على بيعه المثلجات في وسط الشوارع لا على قارعة الطريق مثل بقية الباعة المتجولين، وانتهى الأمر بينهما إلى رفع أبا عماد شكوى ضد الفتى البارحة فمنع من مهنته.
كل أهالي الحيّ أثنوا عليه دون شفقة أو رحمة قالوا: إنه يستحق ما حلّ به، فهو طماعٌ يقوم بإزعاجنا ليكسب المزيد من المال، ربما جرفتهم الحياة إذ ذاك ونسوا إنسانيتهم، أو أنهم من الذين قال عنهم الله عز وجل:((خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ{7} )).
أما سامي راح أنينه يتخبط دهيم الليل مفجعاً رغم أنه خافت يخشى إيقاظ أخويه الصغيرين، تصيبه الهلوسة، يتمتم، يغفو فإذا هي رمية سهك حتى يصحو من جديد، تراوده الكوابيس، وما أهرقه من دمع يروي مآسيه وفتيل الأمل يتلاشى، وأخيراً استلهم أرباب ذاكرته ولمع في ذهنه قول أبيه -رحمه الله- :” دائماً أيقن بأن الغد أجمل، فحتى إذا لم يحمل لك ما تتمناه ابتسم لمجرد قدومه فهذه نعمة حرم منها الراقدون تحت الأرض”.
ولمّا انبلجت الشمس من مكمنها استعد سامي وتوجه ميمماً شطر جيرانه معتذراً، متوسلاً لأبا عماد بأن يسحب شكواه، وبالطبع ذهبت جهوده هباء منثوراً، فأنّا له تخيل الحصول على عطف من قلوب مقفلة؟
تمثل طيف سامي أمام أبي عماد جاحظ العينين، فامتقع لونه وفتح فمه مشدوهاً ثم هبطت كلماتٌ أثقلت قلبه، وأثخنته محدثةً جروحاً دامية:” ألم تفكر يا عمي بالذنب الذي اقترفته؟ أنا لاجئ عندك لكنّي لست لاجئاً إليك، لم أنكس رأسي يوماً، حملت جنسيتي الفلسطينية على جبيني فأعترف بقلة حيلتي ووهن مالي لأشتري الورق، مضيت قدماً لأحقق مسعاي الذي يكمن في رغيف خبز يسكت أمعاء إخوتي الصغار ويرأف بحناجرهم المحرومة، تتهكم، تستهزئ في كل مرة أقول لك فيها أنا ابن الحرب، وابن العراء، وابن الأرحام الغاصبة، تردد كلمة حرب بكل صفاقة وسذاجة، وما أدراك ما هي الحرب وأنت تنام وتتدثر في غطاء من حرير، تنعم بالسكينة، أصميت أذنيك عن دوي الرصاص ووقرها عن أنين الملاجئ، ما جرّبت عيشة الأنقاض، أستحلفك بالله أغرورقت عيناك بالدمع مرة لعزيز بعد أن نجى ورأى عصافير الحرية قتلته عصافير بطنه؟” هكذا قال ثم تلاشى.
ارتج على أبي عماد وعقد لسانه لبضع دقائق ثم عاد إلى الحيّ يقصد سامي الذي يقطن خربة وراء إحدى العمارات، شاهده يحمل خرقتين كان يرتديهما منذ مجيئه ويهم للمغادرة، نادى عليه وقال: أعتذر عن سلوكي الأرعن، خذ هذه النقوض وسأعطيك مثلها كل ما احتجت.
استشاط سامي غضباً، وحدق في العم ثم رد عليه: أتظنني محتاجاً؟ ولدي من مخلفات الحروب ما يكفي، عزة، كرامة، وشهامة، لا أريد نقودك.
أشاح بوجهه وترك وراءه أبا عماد غارقآ في جحيم النسيان، اجتمع أهل الحيّ حوله وقد كان على وشك الانهيار وقالوا له:” ماذا يعنيك كلامه، مذ جاء وهو يوجع رؤوسنا بقصة التشرد والحرب، إنه مجرد لاجئ لا يقدم ولا يؤخر في حياتنا شيئاً”.
أجهش أبو عماد بالبكاء وصرخ:” إنه ابن الحرب وما أدراكم ما هي الحرب؟”.
وحلّ السخط على هذا الحي فلم يزره لاجئ مرة أخرى ليعلمهم معنى الإنسانية، وبقوا على حالهم إلى الآن وحتى إشعار آخر.