ط
مقالات وأعمده

ويموت السلام في أرض السلام…بقلم / م . بن زادى ..مترجم وكاتب مقيم ببريطانيا

م بن زادى

أخيراً توقّفت العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة بعد 29 يوم من القصف العنيف الدائم على رقعة تغصّ بالأهالي، تصنّف من أكثر بقاع الدنيا كثافة بالسكان، فمساحتها لا تتعدّى 360 كم مربع يقطنها نحو 1,816,379 نسمة حسب إحصائيات يوليو جويلية 2014.

قصفٌ انهال على غزة برّا وبحرا وجوّا، فعبث بمعالم حضارتها، وسفك دماء أهلها، وأخمد نبض الحياة فيها، وأغرق شعبها في طوفان الدماء والدموع والبؤس..

قصفٌ خَبْط عشواء عاثَ فيها فسادا، لا يميّز بين مخازن الأسلحة ومساكن الأهالي، ولا بين الصواريخ ومنابر المساجد، ولا بين معاقل التدريب ومراكز العلاج والمستشفيات، ولا بين الأنفاق السرية وملاجئ أبرياء يفرّون من أهوال القصف، ولا يفرّق حتى بين مقاتل في الزيّ العسكري يحمل في يديه سلاحا وصبيا رضيعا يحمل بين يديه البريئتين رضّاعة يقتات منها حليبا لونه الأبيض الناصع هو لون الصفاء والبراءة والسلام..

قصفٌ قطع الكهرباء على غزّة فأغرقها في ظلامٍ دامسٍ، وما لبث أن أنار ليلها بلهيب النّار والانفجار، وضرّج شوارعها بلون الدم الأحمر القاتم، وغشى سماءها بلون الدخان الأسود الحالك.. فرسم فيها لوحة مريعة بأبشع الأشكال والألوان.

قصفٌ خلّف نحو 1860 قتيلا جلّهم أطفال ونساء وعجزة لا حول لهم ولا قوة، انتُشِلت أشلاؤهم المفحّمة المبعثرة من تحت الأنقاض على مرأى ومسمع من العالم المتحضّر بإسره في زمن التكنولوجيا والأقمار الصناعية والشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي، ما يُيَسِّرُ انتشارَ الأخبارِ ورصدَ الأحداث في كل بقاع المعمورة بالصورة والصوت ساعة وقوعها، فلا مفرّ من كشف الحقيقة المرّة ونشرها في أنحاء المعمورة.

قصفٌ حمل 400 ألف من أهالي غزّة على مغادرة مساكنهم وأراضيهم والنزوح نحو مصير مجهول من أجل الحياة، تلاحقهم في طريقهم النيران والقنابل ويلوح في سمائهم أشباحُ الموت وترى في وجوههم أمارات الرعب والحيرة والقنوط.

لِمَ كلّ ذلك؟
إسرائيل تبرّر عدوانها بحقّها في الدفاع عن نفسها وحماية مواطنيها من صواريخ المقاومة، أطلقتها عليها المقاومة من قطاع غزّة.
وإن كنا ننبذ كل أشكال العنف ونقرّ بحق الدفاع عن النفس، فإنه ينبغي علينا أن نطرح بعض الأسئلة في هذه الحرب:

1. أي قانون حقِّ الدفاع عن النفس هذا الذي تعتمد عليه إسرائيل في حرب الإبادة هذه؟!
فقانون الدفاع عن النفس البريطاني، على سبيل المثال، ينصّ على استخدام قدر معقول من القوة وعدم تجاوز الحدّ أو الإسراف في الرد، وعلى هذا الأساس فإنّه – وهذا مجرّد مثال – إذا تلقّى فردٌ ما لكمةً ما في وجهه يحق له أن يردّ عليها بمثلها أو بنحو ذلك بما يكفي لردع الاعتداء لكن ليس بسلسلة من اللكلمات والركلات وما شابه ذلك مما قد يخلّف ضررا يفوق الضرر الصادر من المعتدي. فإن كان ردُّ الفرد يفوق ردَّ المعتدي وليس ثمة ما يبرّر ذلك تنقلب المعادلة ويتحوّل الدفاع عن النفس إلى اعتداء يعاقب عليه القانون عقابا صارما. فإن طبّقنا ذلك على ما جرى في غزة وجدنا أنّ إسرائيل قد تجاوزت كل قوانين حق الدفاع عن النفس في الدنيا، باعتبار أن صواريخ المقاومة – كما أكّدت ذلك كل التقارير بما في ذلك المصادر الإسرائيلية – لم تكن تصل إلى أهدافها نتيجة مضادات الصواريخ المتطورة المنتشرة في كامل التراب الإسرائيلي والتي شرعت إسرائيل في استخدامها بنسبة نجاح تفوق 90 بالمائة منذ شهر مارس 2011، وحتى وإن زاغت عنها وجدت بيوتا وشوارع خالية نتيجة اعتصام المواطنين في الملاجئ التي توفّرها إسرائيل لمواطنيها، بعد سماع صفارات الإنذار. وما ألحقته المقاومة من خسائر بشرية أو مادية في إسرائيل هو في واقع الأمر قطرة ماء في المحيط بالمقارنة مع ما لحق غزة من ضحايا ودمار شامل. فإسرائيل لم تخسر إلا 67 شخصاً في هذه الحرب وجلهم عساكر.

2. أي قانون وأي منطق في الدنيا يسمح لإسرائيل أن تعاقب الفلسطينيين عقابا جماعيا بحجة أنّ صواريخ المقاومة انطلقت من أرضهم؟! فتقصف شوارع آهلة بالسكان ومنازل ومساجد ومدارس ومستشفيات مكتظة بالأبرياء، فيُنْتَشل منها جثثُ أطفال وعجزة لا ذنب لهم أبدا.

لنغيّر المكان الجغرافي قليلا من باب المجادلة فحسب.. فلنتصور أن صواريخ المقاومة لم تنطلق من غزة الفلسطينية وإنما من مدينة حيفا الإسرائيلية أو من الجارة قبرص أو من مقاطعة روسية أو ألمانية على سبيل المثال وضربت تل أبيب ومدن إسرائيلية أخرى، هل كانت إسرائيل ستقوم بإعلان حرب إبادة مماثلة عليها بذريعة الدفاع عن النفس؟! أم أنّ لتلك الشعوب من يحميها ويمنع عنها مثل ذلك الاعتداء، وليس لأبناء غزة من يصدّ عنهم مثل هذا البلاء والمصير!
أو لعلّ أرواح الفلسطينيين رخيصة لا يُحسب لها أيُّ حسابٍ وأرواح الشعوب الأخرى عزيزة يُحسب لها ألفُ حساب. فأيّ عدل في ذلك ونحن شعوب عاقلة، متحضرة ندعو إلى العدل والتسامح والسلام؟! إنْ كان ذلك هو المنطق والمنطلق فهذا شيء غير مقبول في القانون والدين والأخلاق والمبادئ الإنسانية والأعراف الدولية ومن شأنه أن يخلق شرخا بين الشعوب ويؤثر سلبا في العلاقات بين الأفراد، والعالم في غنى عن مثل ذلك.

تنتهي الأعمال العسكرية اليوم ليعكف العالم على محاولة إيجاد حل لمشكلة الاعتداءات وإحلال تعايش مؤقت – وهو ما حدث من قبل من غير طائل – بدلا من البحث عن حلّ شامل ودائم وعادل حسب الاتفاقيات الدولية ينهي القضية الفلسطينية للأبد ويخوّل الفلسطينيين حقّهم في إقامة دولة فلسطين الديمقراطية المستقلة بجانب دولة إسرائيل، وينير مشعل السلام في هذه الأرض المقدسة الطاهرة وهي أرض الديانات السماوية والسلام.. أرض خليقة بأن تكون يوما أفضل نموذج للتعايش بين الشعوب والديانات في العالم بعيدا عن الطمع والجشع والعنف والفوضى وعدم الاستقرار.. تعايش بين الشعبين الجارين هو أيضا تعايش بين الديانات السماوية وفق الإحترام المتبادل والتسامح والتعاون والوئام.
تضع الحرب أوزارها ولا تُحَلّ القضيةُ ولا يَحِلّ السلامُ، فما زالت المسألةُ عالقةً، وما زالت فلسطين تتألّم وتنزف منذ أكثر من نصف قرن. فبدلا من السلام الدائم، تحلّ هدنةٌ هشة كسابقاتها تنذر بعودة هاجس العنف والرعب إلى هذه الأرض وإلى نفوس الأبرياء فيها، في أي وقت. ويكون العالم في سعيه لتهدئة الوضع وحلّ مشاكل ثانوية بدلا من القضية الأساس كمن يسعى لخلع شجرة بقصّ بعض أغصانها أو أوراقها بدلا من جذورها.

ويغيب السلام مرة أخرى عن أرض السلام.
وإن انتهت الحرب فإنّ آثارها ستستمرّ لأجيال. فإن اندملت جراح الجسد، فإنّ جراح النفس قد ترسخ في أطفال غزة للأبد.

 

ندعو إلى العدل والتسامح والسلام؟! إنْ كان ذلك هو المنطق والمنطلق فهذا شيء غير مقبول في القانون والدين والأخلاق والمبادئ الإنسانية والأعراف الدولية ومن شأنه أن يخلق شرخا بين الشعوب ويؤثر سلبا في العلاقات بين الأفراد، والعالم في غنى عن مثل ذلك.

تنتهي الأعمال العسكرية اليوم ليعكف العالم على محاولة إيجاد حل لمشكلة الاعتداءات وإحلال تعايش مؤقت – وهو ما حدث من قبل من غير طائل – بدلا من البحث عن حلّ شامل ودائم وعادل حسب الاتفاقيات الدولية ينهي القضية الفلسطينية للأبد ويخوّل الفلسطينيين حقّهم في إقامة دولة فلسطين الديمقراطية المستقلة بجانب دولة إسرائيل، وينير مشعل السلام في هذه الأرض المقدسة الطاهرة وهي أرض الديانات السماوية والسلام.. أرض خليقة بأن تكون يوما أفضل نموذج للتعايش بين الشعوب والديانات في العالم بعيدا عن الطمع والجشع والعنف والفوضى وعدم الاستقرار.. تعايش بين الشعبين الجارين هو أيضا تعايش بين الديانات السماوية وفق الإحترام المتبادل والتسامح والتعاون والوئام.
تضع الحرب أوزارها ولا تُحَلّ القضيةُ ولا يَحِلّ السلامُ، فما زالت المسألةُ عالقةً، وما زالت فلسطين تتألّم وتنزف منذ أكثر من نصف قرن. فبدلا من السلام الدائم، تحلّ هدنةٌ هشة كسابقاتها تنذر بعودة هاجس العنف والرعب إلى هذه الأرض وإلى نفوس الأبرياء فيها، في أي وقت. ويكون العالم في سعيه لتهدئة الوضع وحلّ مشاكل ثانوية بدلا من القضية الأساس كمن يسعى لخلع شجرة بقصّ بعض أغصانها أو أوراقها بدلا من جذورها.

ويغيب السلام مرة أخرى عن أرض السلام.
وإن انتهت الحرب فإنّ آثارها ستستمرّ لأجيال. فإن اندملت جراح الجسد، فإنّ جراح النفس قد ترسخ في أطفال غزة للأبد.

م. بن زادي – مترجم وكاتب مقيم ببريطانيا

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى