قراءة في رواية “تلمود نرت” ل مسينيسه تيبلالي. بقلم: محمد أمين بشيرباي (مستغانم – الجزائر).
كتب / محمد أمين بشيرباي
“تلمود نرت” رواية تاريخة ملحمية لها من الخيال نصيب، تضرب للقارئ موعدًا مع حياة سكان جنوب مصر وما يجاورها قبل ثلاث عقود من الميلاد.
تنقسم إلى 4 أسفار: سفر الجسد، سفر القلب، سفر الذاكرة، سفر الروح. وتتكوّن من 33 فصلاً في حدود 530 صفحة.
في أوائل الرواية: من يلاحظ كيف تقمص الكاتب “مسينيسه تيبلالي” دور الملك المستبد، الفنان، المتسوّل المنبوذ في سرده لا يصدق أنها أول رواية له. حيث اتسمت الفصول الأولى من الرواية ببراعة كبيرة في المزج بين مل ما هو تاريخيّ وعاطفي وفنيّ، ويظهر جليًّا أن الروائي لم يتخل في السفرين الأول والثاني عن توظيف الثلاثية الروائية (الجنس، السياسة، الدين)، أين راح ينتقل من فصل إلى آخر بسلاسة وتأنٍ فظيعين يغطيهما الطابع الشاعري تارة والحكواتي تارةً أخرى.
المثير أن من يقرأ ما بين الأسطر سيدرك أن للروائي نظرة المثقف المتمكن جدًا، فقد برع في التطرق لموضوع عزل الدين عن الدولة وشخصنته في الأفراد وخلافه الدائم مع موضوع دين الدولة في الفصل السابع من روايته إن لم تخن الذاكرة، وكيف انتصر الملك حينها لدين الدولة رغم تعددّ الآلهة آنذاك، وذلك دون إفصاحٍ مباشر.
وقد سلّطت ملحمية “مسينيسه” هذه الضوء على الصراعات السياسية وما يحدث خلف الستار من مؤامرات وخيانات وتسلّط واستبداد وما يقابلهم من عدالة ورشد وحسن التسيير.
وأشار في رواياته إلى أسس بناء الدولة وتجديدها بطرح النقاط الستّ التالية: التاريخ وإعادة النظر فيه، إصلاح المجتمع، توطين المواطن، تنظيم الشعبوية، فكّ وإطلاق سراح الخيال، إضافة إلى أكثر النقاط حساسية “الدين”.
وما يلفت انتباه القارئ لهذه الرواية التاريخية هي أولى النقاط الستّ التي تعامل معها الكاتب بحساسية ودقة وتصويب تجلى في نظرية “التاريخ يدوّنه المنتصر”، مركزًا أيضا على أن التاريخ الصحيح مرآة استشراف الغدّ.
في الصفحة 201 وعلى مشارف نهاية السفر الثاني من الرواية اصطدم تاريخ تعدد الآلهة الذي سرده الكاتب على لسان شخصية الملكة “مزنا” بمفهوم التوحيد وفكرة الرّب الواحد، الذي دعا إليه النبي يوسف عليه السلام في زمن ما، مما أحدث في مصر نقلة نوعيّة في التفكير الديني، ومن مظاهر نبذ تعددية الآلهة ما جسده ودعا إليه “أخناتون” كديانة توحيدية جديدة في جعل كل الآلهة في إلوهية الواحد.
في سفر الذاكرة والماضي، سيطرح القارئ على نفسه سؤال حيرة لا جواب له: “بالله عليكم متى سافر الروائي مسينيسه عبر الزمن ليجوب أرجاء مصر سنة 341 ق.م؟ كيف برع في تصوير مُدن وممالك مصر أنذاك فمن “طيبة” و”ممفيس” و”دميط” شمالا إلى “النّوبة” ومملكة “نبتة” جنوبًا؟ بل ووصل في رحلته إلى معظم أنحاء الإمبراطورية الأخمينية وإلى بلاد الرافدين!؟”
كشفت القافلة الزمنية التي ركبها “تيبلالي” طلاسم وأسرار وحيثيات تجاهلها ناقلي التاريخ ومؤلفيه على حدّ سواء، حيث تعمّق في العادات والتقاليد والتفاصيل التي توضّح نمط الحياة بمختلف مجالاتها آنذاك.
وفي خضم حالة الترقب التي عاشتها مملكة “أرامست” التي كانت مسرح الرواية، بعد خروج القافلة السنوية، صوّر لنا الكاتب بشاعرية مطلقة حياة البطلة الصغيرة “نرت” وهي في سن السادسة، تصول وتجول في شارع النبلاء وحاشية الملكة، حياةُ البراءة والتلقائية، وسط تراكم الأساطير والحكايات وإحاطة المؤامرات البلاطية الخفيّة -إن صحّ التعبير- بالبرج الملكي.
وبين فصل المؤمرات الخفية والمصالح الشخصية وفصل الولاء والخدمة والتفاني حلّ “فصل البكاء”، في منتصف الرواية تقريبًا، وبعد أن طفت المؤامرات والدسائس إلى السطح لتنكشف، يرفع لنا الكاتب وتيرة الأحداث ويسارع سردها مضيفًا جرعة من التشويق افتقدها القارئ في النصف الأول من الرواية. ومما خلصت إليه هذه الأحداث، هو أنه في المعارك عادةً ما يروح الشجّعان ضحيّة شجاعتهم أو كباش فداء، يُضحي بهم الحكّام والملوك ليتشبثوا بالكراسي ويشتروا مقابل الأرواح هدنة وسلم اجتماعيين.
وقد وظّف “مسينيسه” زاده الفلسفي حين تحدث عن صراع طويل عاشته الملكة “مزنا” مع تأنيب ضميرها وقسوة فؤادها عليها وصراعهما مع قلب “نوشين” الرّقيق، ولعل أكثر عبارة ملمة بفلسفة ذلك الصراع الذي اختاره الروائي “إنّ الانتحار حلّ نهائي لمشاكل مؤقتة” و”اللا معاناة تعني اللا حياة”.
كما جسّد الكاتب لمسته الفنية وميوله للرسم والإبداع التشكيلي في حوار صنعه في إحدى ليالي نوفمبر بين “مزنا” والباب المتهرئ. ولم تخلو فصول رواياته من اقتباسات فنيّة تنم عن تمكّن وذوق فنيّ رفيع لدى الروائي كالعبارة التي جاءت في ص 419 “الفنّ غاية وكفاية ما ورائية… إنه محاولة للاستحواذ على الصورة الجوهرية للأشياء، هو تمثيل للحياة دون استنساخ”
في مقاربة لواقعنا مع ملوكنا ورؤسائنا: تَرْكُ الملكة “مزنا” ليلا لعرشها أول مرة، جعلها تستكشف آفاق وعوالم لطالما جهلتها أو تمادت في تجاهلها، حالها حال ملوكنا وحكامنا، ما إن يصلون إلى الكراسي حتى ينسون ويتناسون طبقة الكادحين والبسطاء، يتناسون الفساد والظلم الذين يعيثان في رعيتهما سوءًا، ينسون تلك الفئة البسيطة محدودة الفكر والحلم والأمل، ينسون اليتامى والأرامل والمقهورين… وغيرها من الحالات العاطفية والاجتماعية المتفاوتة!
وقد قادتها تلك الخرجة الليلية إلى مفهوم جديد، يلامس فيه الإنسان معنى الوجود الحقيقي بدل المزيف الدنيوي، مفهوم ترتقي فيه الروح وتصبح الرابط العجيب بين العالمين المزيف والحقيقي، إنه “التصوّف”.
حقًا مبدعٌ هذا الكاتب الذي فجّر العديد من الموضوعات والمفاهيم والفلسفات والأفكار والآراء والصراعات والماديات والروحانيات في مخطوط واحد “تلمود نرت”!
في “سفر الروح”، سردٌ لصراع الشرق والغرب، الفس والإغريق، “دارويش الثالث” و”الإسكندر المقدوني”، صراع البقاء والثأر وكتابة التاريخ ورسم البطولات.
وقد تعمد الكاتب منح صفة “الأميّ” لشخصية “هيروكلوس”، الذي لا يجيد أدنى أبجديات القراءة والكتابة،ـ ومع ذلك هو قائد لجيش العاصمة المصرية “ممفيس” التي أعلنها الإسكندر، في إشارة مضمرة إلى أن قربك من الحاكم والملك وتسترك لفضائحه يُمكنك من بلوغ أرقى المراتب دون النظر إلى كفاءتك وقدراتك، وكأنه يقول لنا أن الخبرة العسكرية والحنكة في تسيير الجيوش وليدة الممارسة والتجربة الميدانية والحيلة دون الحاجة للتعلّم.
أما بخصوص موضوع الصراع الدائم بين “السياسة” و”العسكر” فقد جسده الكاتب ببراعة في شخصية السياسي الدبلوماسي البارع “ايبروس” والعسكري المحنك الأمي قائد ضباط الجيش “هيروكلوس”.
بعدها أدخل الروائي بطلته “نرت” في دوامة الحياة بمختلف مآسيها وأفراحها، حيث ولدت في أسرة يجمعها سلطان الحب والغرام، وعاشت حينها البساطة في أجمل معانيها، إلى أن عانت البنت النورانيّة “نرت” كارثة فقد الأحبة فقد ماتت أمها أمام عينيها جوعا وعطشا واختناقًا، وفقدت والدها أمام عينيها شنقًا.
بعد هذه المآسي رسم لها كاتب الرواية حياةً سيئة أخرى في إسطبل الحمير مع رجل غريب بليد مقرف، بعدها نقلها الروائي إلى حياةٍ جديدة، حياة القصور والملوك، حياة الترف عند ملكتها المحبة لها “مزنا”.كما تعرضت “نرت” لاختطاف أدخلها مرحلة صعبة أفقدتها قدرتها على النطق والحراك لهول ما رأت من سفك للدماء أمام عيناها الزرقاوتين.
في لحظة ما، يسحب الروائي بلاط التاريخ الضارب في القدم، ويصل على لسان “نرت” بالقارئ إلى المستقبل، الأرجح أن بعده عن الماضي الأول كان بحوالي ألفين سنة، حيث التكنولوجيا والرفاهية. وبالتالي فشخصية نرت هي شخصية نورانية ذاقت أطياف الحياة بمختلف ألونها.
ملخص المرحلة التي عرفت حربًا ضروسًا بين جيش القائد الجاهل الأمي وجيش “ممفيس”، وبين “الإسكندر” ونظيره “دارا” هو أن: شناعة الحروب والفتن تقتل كل حيّ، لا تعترف بوسطية في المأمورية ففي المعركة يا موت أو نجاة، المعارك دمرت كل شيء جميل، دماء وجثث، دخان وآهات، صراخ ودموع، مشاهد مأساوية تقدمها لنا حروب الجشع وحبّ التسلط والتملك.
في آخر فصول الرواية، وهب “مسينيسه تيبلالي” بطلة روايته القُدرة على استشراف واستحضار المستقبل المعاصر، أين راحت تسرد المفارقات والتشابهات العديدة بين عصرهم وعصرنا، حيث أن:
-كلما تقدمت حضارة الإنسانية فكرًا وماديًا، رافقها تفنن في الحروب والمعارك والصراعات التي لا تنتهي، بل تتجدّد بِتجدّد وتقدم التكنولوجيا، وستعاني البشرية الويلات والمجازر مقابل الرفاهية التي تعيشها.
– يتحول صراع الشرق والغرب إلى صراع الشمال والجنوب، فيكون للشمال حصة الأسد من الحضارة -المادية خاصةً-، ويقبع الجنوب في صراع مع الذات والهوية والحكومات المستبدة الظالمة، وتتسع الهوّة كلما تمادى الشماليون في استنزاف ثروات الجنوبيين، ويساهم التخلف الفكري وشيوع الخرافات والخزعبلات في زيادة على التخلف المادي لأهل الجنوب تخلفا ثقافيا آخر.
-مسألة الدين والمرأة، الشمال ماديّ التوجه والتفكير، يؤمن بالعلم وبأن ما وراء الحياة زوال وفناء، يعطي المرأة الحرية المطلقة حتى تنفلت وتصير سلعة في أغلب الأحيان، أما العالم الجنوبي فهو روحاني التوجه، يؤمنون بالإله الواحد الأحد، وبأن بعد الحياة وجود أبدي، والمرأة عندهم تعاني وتحرم من عدّة أساسيات التفكير والتعلم والخروج والإمارة وغيرها، ممّ يخلق بين الشمال والجنوب عالم فسيح من التناقضات.
في الأخير تحوّلت تنبؤات “نرت” وأحاديث المستقبل المعاصر إلى مادة دسمة يتناقل تفاصيلها الكل ويتغنى بها الشعراء تحت مسمى “تلمود نرت” إلى أن يفرض بعدها ساسة إسرائيل رؤاهم التشريعية في مؤلفات جماعية أخرى.
ويتحسّر الروائي في آخر الرواية عن سبب إهمال المؤرخين وعلى رأسهم “سودو كاليستيناس” مدينة “السيدة الهادئة” الجنوبية في ما نقلوه من أخبار وأحداث عن المنطقة، وكأنها دعوة غير مباشرة من الكاتب إلى استيعاب أن التاريخ يُقرأ بكل تفاصيله دون تحريف وتأليف حسب الأهواء.