ط
الشعر والأدب

مُذَكّرةُ ميِّتٍ قصَّة قصيرة /بقلم: جهاد زهري

جهاد زهرى
***************
**************
تلكَ الغيمَةُ الَّتي مرَّت بقلبي ،حسبتُها خيرًا وفيرًا ومَطرًاغَزيراً سيحيي جفافَهُ ،بعدَ أن صارَ أرضًا يابِسَةً متَشَقّقَةً ،كنتُ أحسَبُها لتنعِشَهُ بعدَ موتٍ طويلٍ داهَمَهُ،لكنَّها غيمَةٌ عقيمَةٌ الاَّ من سوادِها الذي حجبَ نورَ الشَّمس ،وأظلمَ أرجاءه ،فلم تزده الاَّ عَطشًا ،ولم أُسق الاَّ خيبَةٌ جديدة ككل مرَّةٍ
هل ستُمطرُ بهذه الأرجاء يوما ما ؟
وأنا ممدَّدٌ يومَها ،أقصدُ يومَ وفاتي،يومَ فارقتُ الحياة أذكُر ذلكَ اليَومَ جيّدً ،وهل بإمكان الواحد فينا أن ينسى ذكرى وفاتِه؟
لا شيءَ مُمَيَّزٌ ،النَّكَدُ هو النَّكَدُ ،الرّوتينُ هو الرّوتينُ ،كنتُ أحسَبُ قبلَ أن أفارق الحياة أنَّهُ سيكونُ حَدثًا عَظيمًا ،لكنّني أكتَشِفتُ في بدايَةِ الموتِ ،جفَافًا في المَشاعِر ِ ،وهُوَ الغالبُ قبلَهُ -في الحياة أقصد-
تُستَبدَلُ الأبجديَّاتُ القديمَةُ للّغَةِ ،للَّهجَةِ ،لمَخارجِ الحروفِ ،لوهلَةٍ يتَرجِمُ الدَّمعُ كلَّ شيءٍ ،وما أدراكَ ما يترجِمُهُ الدَّمعُ وتتخلَّلُهُ الحشرجاتُ …
بينَ يدي مُغَسّلٍ ،لم أعرفهُ بقدرِ ما خُيّلَ الي أنّي رأيتُهُ من قبل
أينَ ؟ … متى ؟
لا أعرفُ ،ليس مُهِمًّا ،المُهِمُّ الآنَ أنّي بينَ يديهِ يفعَلُ بي ما بدا لَهُ ،لم أستَطع الحراكَ يومَها ،لكنّهُ خُيّلَ اليَّ أني أستطيعُ الصّراخَ ،قد أوجَعني بغسلِهِ هَذا ،صحتُ في وَجهِهِ
-الا ترحَم قليلًا يا أخي ،لستُ جذعَ نَخلَةٍ ،لو غسلتَ سيَّارتَك لكنتَ أرحمَ…!
لكنَّهُ يدَّعي أنَّهُ لا يسمَعُني ،ماذا لو كانَ فِعلاً لا يستطيعُ السَّماعَ؟
ذلكَ البخور لم يُعجبني كثيرًا ،كنتُ العنُ الجميعَ ممَّن حولي في المغسلَةِ ،لا أحب بخوركم ،الكاريرا عطري المفضَّل ،امَّا هذه فرائحة الموتى لماذا تعطرونني بها؟ -صرخت-
لكنَّني سارعتُ بالصَّمت ،قبرتُ فيه كلَّ امنياتي بعد أن تَذَكَّرتُ أنّي ميتٌ
لا لومَ عليَّ فلم أعرف الموتَ قبل هذهِ المرَّة …
البسوني يومَها ثوبًا أبيضَ ،فيهِ من البساطَةِ ما يدعو للبكاء ،أحسست بالنفور منهُ ،ها أنا اصرُخُ مرَّةً أخرى كالعادةِ يَدَّعي الجميعُ أنَّهم لا يسمعونني
ماذا لو كانوا لا يسمعونَ حقًّا ….أيّها الموتُ لستَ جميلاً بالمرَّة
أيّها الموتُ أنا لا أحبّك ….
رغمَ كلّ هذا عذرتُ المُغَسّلَ ،سامَحتُهُ ففي الأخير كان يريدُ ستر سوأتي لا غير ،
لكني-لو كان الأمر بيدي – لكنتُ أخترت لونًا آخرا كالأزرق السماويّ مثلاً ،مابهِ الأخضَر العُشبيّ أليسَ جميلاً ؟
تذكرت أني بالنسبة اليهم ميت والاموات لا يطلبون شيئا ولا يختارون
بل يستسلمونَ وفقط يمعنونَ في نهايتهم الجامدة جماد اجسامهم وشللها الدائمَ
للموتِ حِكمتُهُ أيضًا ،وربَّما لاختياراهم كلّ الذي لم يرقني تفسير مُعيَّن !
تلكَ الآلة الحَدباءُ ليست مريحَةً جِدًّا
-لا اريدُ ان احمل عليها الا تسمعون؟
-الم تجدوا أفخَم منها وأكرمَ
الأرائكُ الطَّريَّةُ ،حلمت بها طوال حياتي ،الأفرشَةُ الفاخرة اللحافات المزركشة القطنية الناعمة
خيبتم ظني يا أهلي وأحبابي …خيبتم ظني !
وَجدتُ ان ارى الى الأمر من زاويَةٍ إيجابيَّةٍ فتبادر الى ذهني أنَّ الأمر ليس بكلّ هذا السّوء فالقومُ يحملونني على أكتافِهم وليس هذا فقط ،بل ويتهافَتونَ في ذلكَ ،يتبادلونَ الدَّور حتَّى إن انهك التَّعب أحدهم استبدَلَه غيره
لعَمري إنّي ملِكٌ من حيثُ لا أعلَم ،ولعمري إنَّهم يحبونني وليس الا الحب من يجعلهم هكَذا
صرتُ مَحبوبا أخيرًا ،ماكان ليلتفت اليَّ أحد لولا هذا الموتُ الجميل
فلحيا الموتُ ولتمت الحياة …
لكنَّهم يبكونَ بغزارةٍ فائقَةٍ ،فهل الحبّ ما يبكيهم أيضًا؟
أحببتهم جلهم يومًا لكنّي لم أبك بهذه الطَّريقَةِ …اه …بلى والله قد فعلتها يومَ مات عَمّي كنتُ كائنًا من دموعٍ يومَها وخفت أن أُهلَكَ بعدهُ…تَذَكَّرتُ الأحاسيسَ التي انتابتني ونحنُ نَقودهُ الى مثواه الأخير …اعني حُفرة في الأرضِ
-اتراهم يحسون بذلكَ الذي أحسسته يومَها ؟
يا الله رفقا بأمّي ،ويا ربي رفقا بأبي وقومي فليس الأمر بالسَّهل أبَدًا
اصواتٌ كثيرَةٌ يغوصُ بِها مسمعي الآنَ ،لكنَّها كخربَشَة طفلٍ أمسكَ بالأقلامِ من حيثُ لا يحتسب ويا ويحَ الأوراق مما سيخُطَّه من الفلسفات جديدها وقديمها عليها
حاولتُ التَّركيزَ ،فشلتُ الأولى والثانية ،ليستَقرّ صوتُ أحد الذينَ كنتُ لا أطيقهم في الحياة الأولى ينعاني ويندبني أسمعه في سِرّهِ يوَدّعني وقد سرقَ الحزنُ منهُ عباراته وجملهُ …قد سرق الحزنُ حرفَه لهذا اليوم
لم يكن بهذا اللطف معي قبلاً ،فكيفَ الآن يبدي كلّ هذا …؟
وما ان لبثتُ أتساءلُ حتَّى غاصَ مسمعي مُجدَّدًّا في سرّ أحد الذينَ سخَّرتُ حياتي لأجلهم وكنتُ أضحي حتَّى أتألَّم أنا وهم يفرحونَ
ركَّزتُ قليلا فيما يقول قبل ان أبكي أنا و تبكي روحي التي اراها تلتحِقُ بالفضاء الكبير دونَ رجعَةٍ
كانَ فرحا مُغتبِطًا ،يقولُ أنَّه أخيرًا تَخلَّص مني وبأنَّه سيستفرد مع حبيبتي ويقنعها ان يتزوَّجا على سُنَّة الله ورسولِهِ
الخبيث …الخبيث ما أحزنَهُ فراقي
هاهيَ الغشاوات تنجلي ،وهاهو الحَقّ يطفو كجُثَّةٍ لم أحتمل رائحتها
أيّها الموتُ …ايها الحَقّ المبين
فجأةً بدأ كلّ شيءٍ بالتَّماهي ،الآن انا لا ادرك شيئا ،لا اسمَعُ شيئًا بَعد أن وَضعوني على الأرضِ بدا لي كلّ شيءٍ مُخيف ،فالموتُ الذي صيَّرني الى ملكٍ منذ لَحَظاتٍ يتعمَّد احالتي الى علامات استفهامٍ وتَعَجّبٍ ضخمة
أهلي ،أصدقائي ،قومي ،أبي يا حبيبي أنت أيضًا تريدُ ان تضعني في هذهِ الحُفرةِ …هل ستتخلَّى عَنّي بهذه الطريقَةِ ؟
لم أعد أريدُ الموت ،ولا المُلكَ ،أريدُ ان أرجِعَ الى البيتِ أن أحضُنَ أمّي ،اشتقتها ،صوتُها ،رائِحَةُ الأكل على ثوبِها
صرختُ
لكنَّهم كعادتهم يَدَّعونَ أنَّهم لا يسمَعون ،وتا الله إنَّهم فعلا لا يسمعونَ من ندائي شيئًا …
القوني في تِلكَ الحُفرةِ …لم أصرُخ ،بل بكيتُ بكاءً مريرا ولحفنَةِ التّراب الاولى استيقَظتُ من نومي ،والمآقي قد أحرقَها الدَّمع وأختي الصَّغيرة على صدري
احتضنتها واكملتُ البكاء …وناديتُ بأعلى صوتي

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى