* لابت الشمس في كبد السماء وأبت الغروب .
وقفت غاضبة لتشاهد بكل مرارة مايحدث فوق تلك البقعة علي سطح الأرض .
إشتد غضبها فصارت ترسل إليها أشعتها الحارقة .
بدأ أهل ” المدينة ” يهرعون في رعب إلي ” الميدان الكبير ” ،
ومن خلفهم شاحنات رباعية الدفع وقد رفعت عليها الرايات السوداء ،
وإعتلاها رجالا ضخاما مدججين بالسلاح ، ينادون الناس عبر مكبرات الصو
ت ، فصار الناس من كل حدب ينهلون .
إلتف أهل المدينة حول الميدان .
الرجال في المقدمة وقد إقفهرت وجوههم وعلاها عبسها ،
وترتدفهم بعض النسوة وقد إنتقبن وماظهر منهن إلا عيونا تشع بالخوف .
إكتمل الحضور ، توقفت السيارات ، صمتت مكبرات الصوت ،
إشتدت حرارة الشمس ، ساد الصمت القاتل بين الجميع .
فجأة ،،
دلف إلي ساحة الميدان رجال مقيدون الأيدي خلف الظهور وكأنهم ” أسري حرب ” ،
معصومين الأعين ، مطأطئين الرؤوس .
يستاقهم بعض الرجال الملثمون ، الذين يرتدون البذلات العسكرية السوداء ، طوال القامة ،
أقوياء البنية ، بجيديهم أغمادا بخناجرها ، يطأون الأرض بكل ثقة وكبرياء ،
مطمئنين وكأنهم جند الله الذين نزلوا من السماء لتحقيق العدالة علي الأرض الظالمة.
إنضم مسلحون كثر إلي الساحة ، منهم من قام بتأمين الميدان ، ومنهم من وقف ليشاهد في شغف .
إقترب رجل تجاه الملثمون ، يرتدي جلباب قصير ، ذو لحية كثيفة ، يعصم رأسه بعمامة بيضاء ، تدو
ر حوله الشياطين من كل إتجاه ، يتملقه الفخر والخيلاء ،
وكأنه ” قائدا ” للعالم ، أو نبي مكرم من الله ، أو من بيده أمر الحياة والموت ، و
ما هو إلا قائدهم وشيطانهم الأكبر .
ثم توقف عند بداية الصفان ، نظر إلي الحضور بعينان حادتان يشعان دماءا وأشلاءا ،
ثم عاود النظر إلي الأسري الركع أمامه ، أشار إليهم بأصبعه شامتا وهز رأسه وإبتسم قائلا : لقد ركعتم لي كما وعدتكم
، وهذه نهاية من يتحدانا ،
سأرسلكم بعد دقائق في رحلة إلي الجحيم .
ثم واصل السير يتفقدهم واحدا تلو الآخر وتعلوا هامته إبتسامة نصر
، وبعد أن إنتهي من تفحيصهم وتمحيصهم توقف ثم أشار بيده تجاه الشاحنات خارج الميدان .
فدخل إلي الساحة رجال مسرعون يحملون آلات التصوير ، وإتخذوا مواضعهم أمام الركع ،
وبدأوا في تشغيل آلاتهم لتصوير وتسجيل ما يحدث ..
همس ” شيخ كبير ” من الحضور إلي رجل بجواره قائلا : ” الرقة ” لم تعد رقيقة !
رد الرجل : لم تعد محافظة ” الرقة ” السورية كسابق عهدها ، لقد دنسوها بأقدامهم ،
يقولون أنها ” خلافة إسلامية ” وهم أبعد الناس عن الإسلام !
رد الشيخ : يذبحون الأبرياء كل يوم كذبح البعير بلا رحمة ، يصلبون ويقطعون جثث الموتي ،
يحرقون الناس أحياءا حتي الموت ،
يعذبون الناس بلا شفقة ، يغتصبون النساء بلا هوادة ،
فالمسلم ” من سلم المسلمون من لسانه ويده “.
الرجل : لقد سأمت من الحياة هنا ،
أريد الفرار من هذا الجحيم ، أريد أن أرحل خارج البلاد كلها .
الشيخ : تريد ترك بلادك للأغراب ؟
فطأطأ الرجل رأسه قائلا : لقد قتل أولادي وزوجتي علي يد ذلك ” التنظيم الإرهابي ” ،
ودمر بيتي بقصف طائرات الجيش .
الشيخ : ولماذا لم تمت أنت أيضا ؟
أين كنت ، أكنت مختبئا وقتها ؟.
شهق الرجل بالبكاء وقال بصوت متهدج : كنت خائفا من الموت ،
وعندما علمت بقدومهم تركت عائلتي وذهبت إلي بيت صديق لي ،
وعندما عدت وجدتهم قد فارقوا الحياة ، أنا جبان ، أنا جبان ياسيدي ،
كنت أظن أنهم عندما يجدون نساءا وأطفالا سترق قلوبهم ،
وسيتحلون ببعض المشاعر ، ولكن هيهات لما ظننت .
الشيخ : لقد أصبح شباب هذا التنظيم الإرهابي ” آلات ” لا تحمل داخلها أدني مشاعر ،
أصبحوا آلات تنفذ ما تؤمر به دون تحكيم للعقل ،
آلات قتل وسفك دماء تتسارع إلي الجحيم بكل جهالة ،
فقد خرجوا علي كتاب الله وسنته بأفعالهم التي لا يقبلها عقل أو دين .
الرجل : أحلوا لأنفسهم المحرمات ، وصاروا آداة في آيدي أعداء أوطاننا لتدميرنا بآيدي أبناءنا ،
ولتفتيت جيوشنا .
الشيخ : حسبنا الله ونعم الوكيل .
فجأة ،،
إنهمر الرجل بالبكاء قائلا : لقد إفتقدت عائلتي كثيرا ، إشتقت إليهم ،
إشتقت لمداعبة صغاري ، إشتقت لغمرات زوجتي وإبتسامتها التي غربت عني بلاشروق ،
رحلوا عني ورحل معهم الأمان والطمأنينة ،
لقد مللت ، أريد الذهاب إليهم ،
أريد اللحاق بهم حتي أعتذر منهم عن تقصيري في حقهم .
الشيخ : إن شاء الله سيسكنهم الله فسيح جناته .
أغمض الرجل عينيه من شدة البكاء ثم قال : سيدي ، إنهم ينادوني الآن ،
. نظر إليه الشيخ بتعجب .
واصل الرجل حديثه : نعم ينادونني : تعالي يا أبي ،
إشتقنا إليك ؟.
نظر إليه الشيخ سائلا إياه : أحقا تريد اللحاق بهم ؟
فتح الرجل عيناه الداميتان ونظر إلي الشيخ : حقا ياسيدي أريد الرحيل إلي دار الحق ،
وترك دار الباطل لمن يتناحرون عليها .
إبتسم الشيخ وأدار جسده صوبه وأخرج في خفاء من جيبيه ” قنبلة ” صغيرة ،
وقال للرجل : هذه القنبلة كانت تأشيرة رحلتي إلي أحبابي بعد قليل .
ولكن مادمت أنت مصر علي الرحيل الآن ، فلتحصل عليها ،
ولتكن تأشيرتك لرحلة إلي عائلتك ،
وأنا سأرجي رحلتي قليلا . إبتسم الرجل وهو غارق بدموعه وأخذها ووضعها بجيبه وهم بالذهاب ،
فإستوقفه الشيخ قائلا : ليس الآن ياعزيزي إنتظر حتي ننصرف وبعدها إقترب من
إحدي تجمعات الإرهابين وفجرها وإنتقم لعائلتك وكن مطمئنا إن لم تمت من الإنفجار ،
ستمت برصاصهم ..
أشار ” القائد ” وأمر بالذبح بعد أن ألقي كلمته أمام آلات التصوير .
إنبطح الأسري أرضا ، وأخرج الملثمون الخناجر من أغمادها ،
وهرعوا بنحر الأسري بلا شفقة ،
وسط صراخ وغرغرة وإستغاثات من الضحايا حتي فارقوا الحياة جميعا ،
وسالت الدماء لتروي عطش شياطين الأرض .
نادوا فالناس بالإنصراف ، بدأ أهل المدينة بالعودة إلي مساكنهم متبلدين المشاعر مصدومين كارهين للحياة .
إقترب الرجل من إحدي تجمعات ” الإرهابيين ” فسمع زوجته تناديه فإبتسم ،
إقترب أكثر سمع أبناءه ينادونه قائلين : أسرع يا أبي ؟
إبتسم أكثر وأخرج القنبلة من جيبه وجري ناحية ” المسلحين ” فإنتبهوا له ،
ولكنه قاب قوسين أو أدني .
فتحوا عليه النيران ،
فإقتلع فتيل القنبلة ،
فسرعان ما إلتقي بعائلته بعد طول غياب ..
فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون