ط
الشعر والأدب

مقتطف من رواية (فى ضيافة زوربا ) للكاتبة الجزائرية / حكيمة جمانة جريبيع

جفاني الارتواء، و جفوتُه بعدما أصبح مائي مُرّا ، بلا لونِ واضح، جرعات تزاحمها حمرة و صفرة ،

كلّما قرّبتها إلى فمي ،يلفظها حلقي حتى جفَّ عودي و كذلك كان حال كل أهلي .

ركبتُ الموجَ العاتي ، أنشدُ أفقا أنقى بجرعاته، يعـيدُ لي بعـض الحياة الضائعة ، لكـن ظمأ الماء كـان

أكبر، لأنّه يشربنا بنهم لا متناه،الواحد تلو الأخر، و لم يبق إلاي في الصحن الخشبي المهترئ الذي لـم

يغفل عنه لحظة ، فظلَّ يلاحقُه دون كلل و لا ملل ، و يلعقه بألسنة من لهب .

ها أنا وجها لـوجه أمام لوحة مهيبة ، تسابق عينيّ في استقرائها ، فظننتُ أنّني أستقرئُها بمفــردي،

غير أنني كنت متوهمة ، فلم تتأخر بدورها في استقرائها لي على طريقتها الخاصة وهي تنضحُ قتامة

و خوفا، تشدُّ إليها عينيّ بقوة ، تتواطأ مع حواسي ، تلهيني عن خـطـر اللعبة الذي طوّقـني مـن كـــلِّ

الجهات، وسرعان ما أتـدارك الأمـر وأعـود لحـيّزي العـابـس العـابث بأعـصابي، وهـو يشهـر مخـالبـه

السوداء، فأتظاهر بإلقاء القبض على خوفي وأنا أجرّه أسيرا إلى قفص صدري المهتز على ربابة الخطب.

سفينتي عرجاء ،أتخبطُّ بمقـود راقـص، لا يلزم حالة واحـدة من الثبات ، تعـبث بها الريح مـن الجهات

الأربع ، و لا وجهة لي محـددة وسـط الظـلام الدامـس، و اللـيلُ حـكـمٌ في الحـلبة التي أنـا بداخـلها ، مـا

أشبهني بتلك الرياضة المستحدثة و التي اصطلح عليها أهـل الاختصاص بلعبة ” الكاتش” !

سفينتي حلبة عارية تتأرجح بين مدّ وجزر، يعلوها الزبد حينا و ينحسر حينا أخـر، يحاصرُها الموجُ ،

يغمرُها الماء ، يقذفني قشّةَ إلى الجهة الخلفية، أقع على وجهي أستجمع بصعوبة أطرافـي المهرّبة تحت

الماء، أجـرُ قدميّ ، ألملمُ وقفتي المبعثرة حتى لا يحتسب الحكم دقائق السقـوط .

كم جائر الليل ، هذا الحكمُ ينحازُ بعاطفة متأججة إلى الماء و لا ينصفني ، يرتفع الماء ، يضربُ وجهي،

تنحني رأسي أحسُّها قد هُربتْ عن جسدي ، يُصفـّق الليل مهللا لهزيمتي و مستعجلا على توثيقها بشكـل

رسمي ( لماذا تبتهجُ القوّةُ لسحق الضعف دومـا رغـم أنّ دلالة النعت لا تتطـابق مع الماهـية و الجوهـر ،

ضعف بفعل فاعل ، ضعف أوجدته ملابسات الواقع المتعسف بسخافاته التي اعتادت على أن تلتهم ما لــذّ

و طاب من الضعفاء ؟! ).

لعبة المصارعة تلك المصطلح عليها “بلعبة الكاتش” لم تحلُ لي يوما ، أذكر أنني يوم شاهدتها لأول

مرّة بمحض الصدفة ، بكيتُ كثيرا لبشاعة ما وقـعتْ عـليه عيناي ، كم مؤلم أن يُهان الانسان ، و يكوّم

ككتلة لحم تعلو و تنزل ، يلوّح بها عـن بعـد ثم يلقى بها على أمواج البشر المتعـطشة للـفـرجة بعـيون

بلهاء تطلّ من رؤوس الحمقى المنتشين بساديتهم الشاذة ، وفي الأخير يتوّجون العنف باللقب ويقلدونه

ميدالية الذهب ، لماذا ينهش الإنسان أخاه بهمجية قرون الغاب و غدر الذئاب ؟!

هـواجس كثيرة تتلاطم برأسي المبتلة و تتواطأ مع ليلي و بحري .. تبتغي انكساري و دحـض شمـسي

وهي تلهيني عن مهمة الصراع مع عدوي الثاني .. ما أغرب الحياة ،أنا من أحببتُ البحرَ، تغنيتُ بالماء

في أشعاري حدّ القداسة ولطالما اعتبرته حصني الذي أهرب إليه كلما استبد بي الهـمّ ولطالما اعـتبرتــه

بلسما أيضا لدائي ساعة نفاذ الدواء حتى هذه اللحظة فغامتْ الصورة و فسدتْ !

هربتُ إليك يا بحـر لأحتمي بـك من النار التي تأججـتْ في بلدي وأتت على الأخضر واليابس ، ولم يـبق

لنا من الزاد غير جبال الرماد التي تقتات عـليها أعـيننا و أفـواهـنا حتى يخـرج من أجسـادنا الدخـان ثانـية،

هكذا لوّثنا الرئة البشرية و الرئة البيئية.

و تلـوّثتْ أرواحنا ومات فينا كـل شيء جميل ، أدار الوطن لنا ظهره رغما عنه، و ركبنا البحر ليلة البارحة

أربعتنا ، أنا وزوجي و ابني عمر و قـائد السفينة، و خـاننا البحـر، ابتلع ثلاثـتنا وتقاسم العـظم مع العاصفة

و الدلفين ، لستُ أدري لِـمَ خافتْ مني العاصفة ، و ولّتني ظهـرها ، ربما تلّقتْ دعـوة لوليمة دسـمـة مـن

جهة محاذية ..؟!

مـا أبشع المشهد الذي لم يتعـد عمره ثلاث ساعات فقـط ، كانوا معي ثلا ثتهم ، يحلمون بخيمة هـادئـة

و حـفنة هـواء نقية على الشاطئ الأزرق و بضعـة سمكـات مشوية على نار حميمة ، تدفئ و لا تحــرق ،

تشبع لا تُجـوِّعُ ، تجمع و لا تُـشرّدُ ، متلهفين لـزخـات مـطــر تثلج بعـض اللهـب الساكـن في أجسادنا .

ابني عمر كان يحبُّ المطر و يسألني دوما ( لماذا – يا أمي – السماء عـنـدنا تمطـرُ رصاصا و دخـانا ،

و لماذا جفانا المطر ، أريدُ أنْ أنزلق مع الباَلّون ؟! )

آه عـمـر ، جـرفـتـكَ العاصفـة و حمامتك الـصغيرة عـلى كفّـكَ الأخـضر هي كـل ما تبقى لـك من هناك ،

بعد أن حرموك من اللعب و الاهـتزاز على أرجوحة البراءة، أبتْ حمامتك إلا أن تصطحبك إلى العمق .

هكذا انزلق حلمك و أُخْـرِسَ الترنّمُ ، وحدها ترنيمة الماء بقيت تملأ الآذان نشازا بعدما فقدتْ الميزان.

آه عمر .. فلذة كبدي، هو ذا الماء قد لبى أمنيتك بصورة معاكسة، وشـربك قطـرة قطـرة ، لا شـكّ أنّ

جسدك الأخضر ممتلئ الآن بالندى، والحلم البكر قد تواعد مع الغـد، و هو يمنِّي حمامتك بغصن أخضـرَ

و سماء زرقاء ، لم تُوجَد يوما إلا في كفّك الصغيرة .

لم يسقط الدمع من عينيّ، خانني كما الماء تماما، و صرنا أنا و الموت وجهان لعملة واحـدة ، لـم أبـْكِ

أستنفذتُ دمعي هناك ، بكيتُ عائلة كبيرة أبـيدتْ على آخـرها ، و بكيت أكـثر من أيّ مـرة عـندما قــرأتُ

رسالة أخي الغريق التي وجدوها في جيبه، ما ذاب حبرها وما ابتلع حروفَها البحرُ، كأنّه تعمّد في تعذّيبنا.

كم موحش هذا البحر، لماذا ترك لنا هذه الرسالة، أً ليجلد قلوبنا التي قُدّرَ لها اللهبُ ،أبكتني دما كلماته !

كان يعتقد أنّ أمي و أخي الصغير لا زالا على قيد الحياة ( أمّي سامحيني ، حلمي كان صغيرا، عـلبة دواء

تخفف ضغطك ، و هاتف نقال من آخر طـراز كان يحلم به أخي الصغير،لم يمهلني الماءُ ولا السمك الكبير

في الوصول إلى ضفة الأمنية ، آسف أمّي ، كفكفي بصمت دمع أخي)

ما أجـبن الأحـلام التي تغتالنا و تخـوننا في منتصف الطـريق ، فتتناسى العهـد و تغـدر بنا بلا رحمة !

هـربنا من الموت ، و جرّنا الحلم المخادع نحو البحـر وهـو يضرب موعـدا مع العاصفة و الماء و اللـيــل

الحالك ،كنا ثلاثة مما تبقى من عنقود العائلة ، و رحـلا معا عدنان وعمر، و بقـيتُ أنا و حدي متدليّة مـن

عنقود السلالة المُبادة .

ما عساني أفعـل بمفردي بعـدهما وسط التيه، وماذا أبتغي الآن وقد محا الماء الحلم مثلما يمحـو الموج

تماثيل و بيوت الرمل على الشاطئ عندما يباغتها في لحظة عناق .

سفرة الحلم التي زينت في أعيننا الغد بفرح قان ،ها هي تهديني سكتة اللسان الذي أخرسه الموت وللأبـد،

لساني لا يتحرك، لا ينبس ببنت شفة ، فأين ذهبتْ تلك اللغة التي غرفتُها من مناهـل الـعـرب و أيـن صارتْ

تلك البلاغة التي كرمتني في ولائم الكلام . ؟!

ثمة موضع آخـر تطـلع منه لغة أخـرى تتماوج فيه الإيحاءات و الانفعالات ، غـيّبتْ لساني الفـصيح الـذي

مات بموتهم ( لماذا لم تأخذني العاصفة ،هـكذا أومأتْ الروح المنهكة ، و بعـد ما جــدوى بقـاؤك ؟ )

تلطمني ريح باردة تقتلعني عن حديث الروح لتعود بي للحلبة الملطخة ، أشدُّ وسطي بحـبل ، أوصلهُ

بالصاري ، يملأُني الماء ، علّني أشـرب فقيديّ، فيخـفـق كياني بتوحـدهما أو يُبْـعـثُان مـن قطـرات هربتْ

عن قصد إلى صحراء روحي .

وهنتْ العاصفة، و ما وهن الوجع ، و الليل الحكم حائر في نصرتها أم نصرتي ، لم أعد أبالي ،أعرفُ

فقط أنني لا زلـت ثابتة أمامها ، تصفعني، أردّ الصفعة ، تجذبني ، أجذبها ، ترفـعـني ، أطـويهـا بحبلي

الذي التفَ حول جسدي كلّه.

يتدفق المخيال بصوره ، يريني مشهد دلفين ، يقلب السفينة ، يلتهمني على مهل بعد حين ، ثم يُهدي

عينيّ مشهدا من رواية ” العجوز و البحر” ، أراني أجرُّ ألواح السفينة مثلما جرَّ هيكل سمكته الـكبيرة

فكانت فرجة للناظرين و متعة للسائحين، ضاعت منه الغنيمة ، وبقي له بريق المجد .

فمن أين لي بهذه القوة ، والمخيال يزاحمها في وقـت مستقطع، و قـد تشبعتُ بالموت ، كم استجديته الآن

ليضمني إلى قائمته، فقهقه لحالي ،و كأني له فرجة من سخرية، يترقب بلهفة لحظة إسدال الستارة عليها

( افتح فاك أكثر ،اقبلْ نحوي لا يعنيني بقائي أو رحيلي ، ولا هجمة دلفين ، تعـال لا تقهقه خـلف ظهـري

لقد مللتُ لعبتك القذرة ، تعبت و الله ، لم أعد أخشاك ، فلا شيء يغريني بالبقاء ؟! )

حديث الروح لا يهدأ و أسياط العاصفة تنهال على ظهري المتورّم ، تداعب حبلي الواهـن، لكن محنتي

كانت أمامها أقوى فترديها صرعى ، وأحبسها في صدري أسيرة، يُمازحها صبري بلغة الصمت الجديدة .

( ما الخاتمة يا امرأة ؟ ) سؤال كبير جـدا،ما تبقى من عمر اللحظات، وحـده من يوقّـعُ الإجابة بمـداد الجرح

يا بحر جئناك مستنجدين من نار أكلتنا ليطفئ ماؤك الأجاج حـرّها ، لكنك خـذلتنا، شكـرا لك يا بحرُ ، شكرا

لك أرضي ، اهنئي بغيابي .

الليل بارد متحالف و الماء ، و أنا وحدي يؤنسني خواء ملآن بدلالات مـبهمة ما ألـفتها، و قـوة نبتت في

مكان ما على خريطة الروح لا عهد لي بها، و مجاز يقف الند للند أمام الموت الساخـر .

هو ذا الليل يتراجع ، يتخبط مع خيوط الفجر التي بدأت تزيحه عن طريقها ، وسـفينتي لا تزال تبحرعارية

نحـو المجهول بلا شراع ، يعانقها موج هادئ يسحبها بلطـف مقصود نحو ضفة مزروعـة بصخـور تمرح

فوقها نوارس ، أقتربُ وأقتربُ أكثر، أقفزُ إلى الصخرة تُسقطني الطحالـب اللـزجة.

أقفز ثانية ، يتلقفني حارس الشاطئ ،أنتفض مذعورة ( سيّدي) ، أين أنا.. أنت في ( غريس )

غادرتني زرقة الرهبة بصخبها الموجع الذي يضاهي مطارق حـداد لا تتوقـف عن الطـرق عـلى صفيحة

معوجة حتى تعيد لها استقامتها المفقودة ( ما بي اعوجاج يا بحــر، لم ظلمتني، مـرارتك لا شفـاء لي منها

رغم البياض الذي يحاصرني و أكياس الجليكوز و الأملاح الموصولة بذراعي . )

_ هل كان إله السلام في ٌقائمة الألهة الطويلة التي حفظتُها من ملاحمهم ، ولـد السؤال بعـدما حضرني

مشهد العاصفة وتواطـؤ البحر في عـرس بهيج ، العاصفة أغوته برغـبتها فما كان له إلا أن يستجـيب

و يتعانقا في مساء رمادي ، وتناسى البحر ما كان مني من حب و ولاء .

_ ما لي أنا و الحكمة و هل بقي فيّ عقل لأفهـم الحكمة فتصدر عني حكـم ، أنا الشريدة في مـواطئ التيه

المسجّى بالغربة، و معزوفة الوجع تمشي إلى جانبه، وهل آلة البوزوكي هنا قادرة عـلى صياغـة وجعي في

ملحمة حـداثية تقـف الند للند في وجه هوميروس وهـل هي تملك سلطة بعـث وجعـي في تقاسيم لا عـهـد

للآذان بها من قبل ولا من بعد ..؟ !

ها أنا ذا في مخيم ممتد امتداد الوجع ،لا أعرف لي أحـدا فيه و لا أحـد يعرفني في أيامي الأولى، أعيش بلا

وعي، لا أنا بمجنونة ولا أنا بعاقلة،لا أعرف إن كان في التصنيف البشري مثل هذه الحالة حتى يطمئن قلبي.

تؤنسني بعـض أبيات الالياذة و موسيقى البوزوكي التي جادت بها منعطفات الحـنين الراكـدة على سفـح

الصمت .

أريد أن أرقص ، أن أرتفـع إلى عنان السماء بفستاني الزهـري ، أيناك زوربا ، ما أحـوجني اليوم إلى

رقصتك ، أنا هنا تلميذة و أنت الأستاذ ، ما شفعت لي كتبي و لا قصائدي التي همتُ بها حبّا بالبحر بعـدمـا

خانني هـذا الأزرق ، ربما تعـود زوربا لتأخذ بيدي، سأفتش عنك بدء من هذه اللحظة ، علّها تشفيني تلـك

الرقصة وأفرغ ركامي الذي يجثو على صدري بثقله الذي أفقدني توازني .

ماذا سأفعل ، ما جدوى بقائي في الحياة بعـد أن فقدتُ الكل ، وما في وسع كسيرة الجناح مثلي أن تفعل؟ᵎ

أقبل نحوي رجل بزي الشرطة ،أعطاني خيمة و بطانية و كيس لست أدري ما بداخله ، نصبتُ الخيمة

بمعية رجـل يبدو من جماعة الصليب الأحمر ثم طرحـت البطانية تمددتُ، افـترشتُ نصفها ، أما نـصفها

الثاني لففتُه على ركبتيّ المتجمدتين ، مددتُ يدي إلى الكيس الذي احتوى على قطعة خبز أبيض وعلبة

تونة وقنينة ماء صغيرة ، لم أعد أذكر آخر مرة أكلت فيها ، نسيتْ أسناني مهمة المضغ ، فتصارعتْ

مع قطعة الخبز اليابسة التي أغمستها في زيت التونة و أبحرتْ أناملي في العلبة حتى أتتْ على آخـرها .

أفرغتُ القنينة في جوفي تفجر عطشي ليتني ما فعلت ، كل شيء كان نائما فأيقظوه بهذه الوجبة التي لا

تشبع فـأرا .

الظلام يزاحم حمرة الشفق مثلما زاحم هـواجسي صـوت غريب يشبه صوت مقدمي نشـرات الأخبار،

خرجتُ ، لأستبين الأمر أكثر .

قال أحدهم لا تتعجبي ( لقد عانى الرجل بعدما غرقتْ أسرته في عرض البحر حتى فقد عقله )

تناهت إلى أسماعي كلماته التي لم تكن تشبه الكلمات المستهلكة .

( هنا قناة الحنين تقدم لكم نشرة الأنين ..أكل الحوت ألفي عائلة قد يبيضُ الحوتُ سلالة جديدة قبالة السور

الأبيض ، وتطير النوارس في الظهيرة صوب الشرق .)

لسانه طلق و عربيته جميلة، كلامه ثقيل فيه شيء من العقل والجنون، كلاهما يتزاحمان بين صدمـة شرسة

تقف متفرجة عليهما ، ما أصعب الموقف !

و يهدأ الصوت المنزلق على الخيم المصطفة، و ما يهدأ الألم المتمترس وراء صدور الغرباء .. أتقلّبُ على

البطانية التي هي بدورها تعاني ، أهي لتغطيني أم لأفـترشها ،أجـذبها يصطدم جنبي بالأرض الصلبة ، يتعـرّى

الجنب الآخر ، هكذا تعب النعاس من اللف و النشر و صمد أكثر أمام مغريات الجو الخارجي ، أنينٌ من هنا ،

صخب من هناك ، و صرخة تخترق القلب كرصاصة، لامرأة جريحة.

لم أعد أتحمل ،الوجع عنوان كبير كان من المفروض أن يكتب على لافـتة كبيرة ترفـع عـلى ركيزة شامخة.

هنا موطن الألم يا دعاة الإنسانية فمن أراد أن يعـرف لهيب الروح فـليقترب ، و ليَطـلِعَ عـلى أصناف الألم

على خوان الطبيعة ، المشوي على الفحم ، المحروق على أشعة الشمس ، و المسلوق في البحـر و النائـم

في قبور لا عنوان لها غير كلمة مجهول .

لا زالت البطانية الرمادية تتصارع مع هيكلي لم تعـد قادرة على مهمتها أَ تغطيني من فوق أم تقيني من

صلابة الأرض الباردة، و الأصوات الخارجية المتعالية من هنا وهناك تسهم في تعـطيل مهمتها ؟!

أشرئبُ بعنقي من فتحة بالخيمة لأتبيّن الأمر ليس بدافع فضول مني بقـدر ما هـو بدافـع تناسي وجعـي .

حتى هذه اللحظة تناسيتُ اسمي وأصلي و جحيمي ، أشعر أنني امرأة بلا ذاكرة .

( و كم جميل أن تسافر الذاكرة عن جسدي الآن، لأعُبَّ من جرعات الشفاء الكاذبة . )

ويعود مذيع المخيم بنبرة أقوى ( المذبّحُون، لم نعثر على رقابهم حتى دمهم ، هناك من احتساه نخـب

آلهة إغريقية كانت قد مدتْهُ بالقوة فكانت الغنيمة كبيرة . )

ما بال هذا الرجل يتعمد في رشّ ملحه على جرحي أنا مَن اعتقدتْ مِن قليل أنني شفيتُ و لـو مؤقـتا، لا

مناص ، فالوجع يحاصرني من كل الخيم المنتصبة على رقعة قلبي الموبوء بفجيعة البشر وأزمة الأرض

التي تتأوه بأعماقي ؟!

بالأمس كان قلبي مهووسا بمشروعي الذي كان أول بند فيه ، أرض يضخ فيها أوكسجين المحبة ترعاه

خضرة من أنامل تغرس الفسيلة وتبذرغدا من غلال وثمار، أرض يمرح فيها الإنسان المغيّب على صهـوة

الجشع و الطمع ، إنسان زرع في كفيه الورد و العشب الأخضر .

هاهو يقتلني ليرتفع ، يسرقني لأجوع ، و يشبع هو و يشرب نخب نصره مخضّب الكـفين ، يغتصبني

لأجلدَ أنوثة العمر كله ، ليدلّل هو غريزته ، ما أبشعه راهن ، و ما أجبن حلمي !

_ أين اختفى الإنسان ، ومن السارق المتربص دوما بروحه في وضح النهار ؟

هواجس ساخنة ووجع أسخن منها، يتقاذفني يمنة و يسرة، والقـدر ساهـر على رعاية الوجع بشكـل رسمي .

 

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى