ط
مسابقة القصة القصيرة

قصة : زووم إن . مسابقة القصة القصيرة بقلم / هاله احمد الزقم . مصر

هاله احمد الزقم
مصر
https://www.facebook.com/ya.hala.587?mibextid=2JQ9oc
مسابقة القصة القصيرة
زووم إن
على صفحة مياه النيل الرائقة، تتهادى المركب الصغيرة في دلالٍ متخللةً أشعة الشمس الدافئة، ونسمات العصر الودودة التي تدغدغ سكون المياه في وصلة حب لا يعرف الملل، تتخذ طريقها لقرية تخلّت عن كافة الأصباغ ثقةً في جمالها الفطري! يتمايل ركابها في مرحٍ على أنغام أغنيات محمد منير التي تتسيد كل مراكبَ أسوان، غرباء جمعتهم رفقة ثلاثة أيام شحيحة في رحلة نيلية هجرت الشمال للغوص في معالم الجنوب المنسية، تعرّف بعضهم على البعض، وألِف وجوه البعض الآخر.
يقف المرشد السياحي في مقدمة المركب مشيرًا إلى مقابر النبلاء في إصرارٍ بالغ على تثقيف مجموعته المراوغة:
– المقابر دي كانت لحكام أسوان ورجال الدولة العسكريين والكهنة، تاريخها راجع للعصور القديمة، النقوش اللي موجوده عليها بتوضح الدور اللي قام بيه أمراء الجنوب في حماية البلاد، من أشهرها مقبرة ميخو وسابنى…
يميلُ شابٌ عشريني يرتفع شعره كهرمٍ مدبب فوق رأسه على أمه هامسًا، وهو يعبث بسلسلته الفضية التي تتدلى من عنقه:
– هوّه مش حيريّحنا بقى من النفخ ده!
تنظر الأم لإبنها شذرًا، توشك أن تفتح فمها لتلقي عليه محاضرة عن تاريخ الأجداد والجذور التي يجب أن يتمسك ويفتخر بها، لاعنةً تعليمه الأجنبي الذي اقتلعه من هُويته، إلّا أن صوتًا طفولياً غريبًا يتسلّل بين ثنايا أغنية منير الدائرة؛ فينقذه منها. الصوت يدندن بعنترية طفولية ” في عشق البنات أنا فقت نابليون”؛ فيتداخل مع صوت حكيمٍ يفند ضحك البحر”البحر غضبان ما بيضحكش.. أصل الحكاية ما تضحكش”! . ماهذا الصوت؟! ومن أين يأتي؟! تساؤل ينتاب كل الركاب، يتلفتون يمينًا ويسارًا باحثين عن مصدره، تقوم الأم من مكانها تتبّعه بأذنيها فيأخذها لحافة المركب اليمنى، تميل برأسها إلى الأسفل فترى طفلين سمراوين عاريين في عمر الثامنة أو التاسعة، يسبحان بمحاذاة المركب فوق قارب متناهي الصغر يتناسب مع نحافتهما المفرطة، يُسيّرانه بأياديهما المنمنمة بلا مجاديف! ظنّت في بادىء الأمر أنهما يلهوان، إلا أنها سرعان ما تنبهت لماهيّة ما يفعلانه عندما وجدت إحدى الراكبات تفتح حقيبتها وتخرج منها نقودًا، وتنحني لتدُسّها في كف أحدهما بمودّة؛ فتسرع لتفعل مثلها، وبينما هي تغلق حقيبتها يلتفتُ إليها سائح خليجي قائلًا بأسى:
– قاسية جدّا الحياة في مصر والله.
لا تُجيب وتومىء برأسها إيماءة خفيفة لا تنفي ولا تثبت! وتتراجع إلى مقعدها متعثرةً في خجلها، ولا تدري لمَ تشعر أن الرجل المتعاطف قذف في وجهها بفنطاسٍ من الماء البارد؛ فأغرقها وجعل ملابسها تلتصق بجسدها وتُظهر مالا يجب أن يَظهر! فتهرع تشدّ شالها الصوفي من تحت فخذ ابنتها الصغيرة وتلفه بإحكام حول كتفيها، وتُدلِّى أطرافه على ساقيها العليلتين، ثم تلتفت للحسناء الأردنية التي تجلس بجانبها وتتصنع الابتسام، وتداعب ابنها الرضيع الذي تُجلسه على حِجرها، هذا الإبن الذي أسر قلوب الجميع بخفة روحٍ تزقزق فوق قسمات وجه ملائكي:
– ما قلتيش بقى إنتي منين من الأردن؟
– أنا بالأصل فلسطينية من حيفا، اتهجرنا من أيام النكبة، ورحنا ع الأردن، عِشنا هونيك وأخدنا الجنسية.
تُزيح شعرها الأسود المتطاير من على عينيها، وتزيح معه دمعة كادت تتسرب منها:
– بس انشالله نعود…
تلمحُ الأم الخمسينية غيمات الحزن الذي بدأ يخيم على وجه الحسناء فتؤثر تغيير الموضوع:
– عاملة إيه في شغل الهندسة صحيح بعد الجواز والخِلفة؟
تضحك وهي ترفع الطفل على كتفها وتربّت عليه:
– تِركته…
تشاركها الضحك ونظراتُها تتجاوزها لتستقر عند ذراع الشاب الثلاثيني- الذي عرّف نفسه من قبل كصانع محتوى على شبكة الإنترنت- وهي تلتف حول خصر زوجته الرشيقة، رافعًا الأخرى بالهاتف المحمول لتسجل ذكرياتهما في شهر عسل سيكتبان له الخلود! تبتسم في سخرية عندما تداهمها ذكرى شهر عسلها ممتزجة بمرارات الإنفصال. تهز رأسها محاولةً طرد الهاجس الذي يعشش فيها، وتدّعي أمامه وهو يتسمك بموقعه بلزاجة مقززة أنها مشغولة بموضوع آخر: “إحنا ما عرفناش إيه محتوى المحتوى اللي بيقدمه؟! أنا لازم أقوم وأسأله”.
تقف متأهبةً، وقبل أن تتحرك خطوة للأمام تسمع وقع خطوات ثقيلة فوق سطح المركب، تتعلق الأنظار بالسطح المهتز، ويتنامى إلى الأسماع صوت امرأة قادمٌ من أعلى تصرخ صراخًا مدوّيًا:
– مالكم ومال غيركم.. خليكم في نفسكم.. خليكم في خيبتكم .. بتحاسبونا على إيه؟
يُنصت الجميع لصراخ المرأة الذي تهدأ وتيرته قليلًا لتنطق بكلمات حَذِرة متقطعة:
– طب أقولكم على سر! دول حاطين لينا.. لينااا كاميرااات.. جوه بيوتنا.. بيتصنتوا علينا!
ثم يعلو مرة أخرى في ضحك هستيري:
– إحنا بقينا عريانين ملط…ملط…
يسود الوجوم المركب، وتتبادل العيون نظرات القلق، يتحرك المرشد إلى وسط المركب ويقول بصوت رزين:
– أرجوكم اتعاملوا مع الموقف بهدوء، زوجة الأستاذ طاهر في حالة نفسية مش كويسة، وكلنا معرضين للضغط العصبي.
تفرك الأم الخمسينية أصابعها، تخطو بترددٍ في اتجاه المرشد:
– خليني أطلع عندها، أنا معايا دبلومة صحة نفسية، وممكن أقدر أساعدها.
يشير لها بيده لتصعد السطح، تتقدم بثقة نحو مقدمة المركب، تتمتم بأدعيةٍ لايسمعها أحد، تحاول تجاوز ألم ساقيها لتصعد درجات السلم الحديدي، تصعد درجتين فترى وجه المرأة البدينة المحتقن بنيران الغضب ظاهرًا أمامها، شعرها مبعثر مكشوف، يبدو أنها تخلت عن حجابها، تتفرس في ملامحها الهائجة تبحث عن مدخل لترويضها، تنصت لكلماتها لعلها تفهم منها شيئًا، تلمح زوجها يجلس عاجزًا مستسلمًا على كرسي صغير في الزواية اليسرى، خافضًا رأسه يغطى وجهه براحة كفه اليمني، تعود بنظرها إليها، ثم ترفع قدمها على الدرجة الثالثة فترى طفليها التوأمين ذوي الأربعة الأعوام وهما يمسكان بذيل قميصها القطني الباهت في ذعر وقد تخشبت أصابعهما، بينما تجاهد أقدامهما المتسمّرة لحفظ توازن الأجساد المرتعشة، يحاولان البكاء ولكن الخوف يجمّد الدموع في الأحداق. تسقط الزوجة المسكينة على ركبتيها رافعة وجهها لأعلى، تتخذ صرخاتها طريقًا مألوفًا للسماء، يرفع المرشد صوته من خلف السلم محاولًا تشتيت الانتباه مشيرًا إلى ضريح أغاخان، صوت الطفلين السابحين في الأسفل مازال يدور في الأفق، همسات الركاب تنطلق ما بين مذعور ومتعاطف ومدّعٍ، أبصار التوأمين زائغة، آذانهم تلتقط ما يتعلق بالسماء، وما يتشبث بالأرض، يتلفتان حولهما باحثيْن عمّن يلقي لهما طوق نجاة…
ترتجف الأم الخمسينية، تختنق بالدموع، تتراجع وتعود أدراجها في صمت مثقلة بإخفاقها المعتاد…
يحاول العجوز الأرمني المعتز بسكندريته أن يلطف الأجواء؛ فيطلب من سائق المركب الصغير أن يرفع صوت الأغاني، يصدح منير:” فين الحقيقة يا خال.. تعبت علشانها القلوب”، يذهب إلى مؤخرة المركب ويطلب من الجميع النظر إلى عدسة الكاميرا التي يعلقها في رقبته طوال الرحلة ليلتقط صورة أخيرة قبل الوصول للنوبة، يحاول الجميع الابتسام، يعدّل المصور ضبط عدسته مرارًا في محاولة لتسع الصورة الجميع…

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى