ط
مسابقة القصة

حضرة الكولونيل أبى مسابقة الرواية بقلم / رفيق جلول من الجزائر

رفيق جلول من الجزائر
،نوع المشاركة :رواية :بعنوان :حضرة الكولونيل أبي………… 0
أذكر جيدا يومها في الثامن أكتوبر من السنة الرابعة من القرن الواحد والعشرين، أي بعد ساعات من رحيله عن الحياة و التحاقه بالشهداء و الأولياء الصالحين و الأنبياء و صحابتهم المتقين ، لما نزلنا من الطائرة العسكرية بمطار محمد خيضر بسكرة أنا و أمي و أخواي شفيق و بدر الدين وثلة من الأقارب الميامين لحضور جنازته و دفنه بمقبرة العزيلات مشهد العسكر في تلك الجمعة و التي هي عطلة العمال الجزائريين وهم يقدمون له تحية الوداع وهو في تابوت مغلق جيدا و مغطى بالعلم الجزائري ، أذكر تلك الحركات التي قاموا بها في رفع السلاح تحية له في تلك الظهيرة المشمسة كيف رفعوا التابوت و وضعوه على أرض المطار باحترام ، صرخ فيهم قائدهم بالاصطفاف و الاستعداد كما جرت العادة في توديع الميت الواحد منهم و خاصة ممن عملوا مضحين بأغلى ما لديهم من أجل البلاد ، من أجل هذا ودعوه بهذه الطريقة النبيلة رغم أنه يستحق أكثر ، ربما هذا الوداع لن يعيده و لكنه جعلني أتيقن من مكانته على هذه الأرض ، رفعوا أسلحتهم مرة و ثانية و ثالثة مشهد ربما أصفه بالتراجيدي و أنا أراه بأم عيني ، كان السادة الضباط يحومون حول التابوت و ينزعون قبعاتهم احتراما لهذا الميت متآزرين معنا نحن على فقدان أب عظيم قبل أن يكون رجلا شهما خدم بلاده ،أذكر في ذلك اليوم في مشفى عين النعجة حيث سلم روحه لبارئها قبلها بليلة ، عندما وصلت أنا و أخواي إلى مصلحة حفظ الجثث بالمشفى سألت عني الطبيبة السيدة عرجون التي هي الآن تتقلد رتبة جنرال في وزارة الدفاع الوطني و التي كانت مشرفة على علاجه منذ بداية مرضه ، فجاؤوا بي إليها ، سلمت عليّ و نطقتها بصعوبة أحسست بها لحظتها : .. ” أنت رفيق ؟” قلت: نعم أنا هو قالت : والدك في ذمة الله ، فهمت العبارة أنه مات ، و لكن لم أستوعب أن يموت هذا العظيم أبي ، كنت أحسب أنه لن يموت ..وسيبقى حيا ما بقيتُ و أخواي ، لن يغادر الحياة ، حتى بعد مرضه كنت متيقنا أنه سيناضل من أجل الحياة و لن يغلبه مخلوق مثله اسمه الموت ، هذا الأب العظيم الذي مرض بسبب واجب وطني ، تبًّا للواجب و للوطن الذي مات من أجله أبي ، تباًّ لهذه الحياة التي جعلت منا يتامى باسم الوطن و البلاد.. تبًّا لكل الظروف التي يتكلمون عنها .. لقد مات أبي مغدورا ، قتلوه و هو في قمة سعادته بأن يرى أبناءه يكبرون ، مات أبي و أنا لم أكبربعد .. لأبقى ذاك الصغير الذي يحتاج لأبيه في كل المواقف ، وفي كل درب من دروب الحياة بأفراحها.. وأتراحها كان أبي ضابطا ساميا في البحرية الجزائرية ، خلوقا متقنا لعمله و منتظما بما أنه التحق بمدرسة أشبال الثورة منذ سنة 1973 ، كان رجلا مميزا ليس فقط في عيني أنا و أخوي و أمي بل في نظر كل من عرفه ، وكم وُصف بالدهاء منذ نعومة أظافره حيث حفظ القرآن قبل السادسة من عمره وكان والده شهيدا ، وعمه كان رجلا وطنيا استشهد قائدا في أحد الجبال العاتية من جبال الصحراء القاحلة في شرق البلاد ، كما كان سيدا وطنيا سياسيا محنكا وهو من فقهه و علمه قراءة أبجديات العربية و بفضله بعد فضل الله عز وجل قد تمكن من حفظ الفرقان كما لقنه الشعر و الأدب و عرفه بالتاريخ و السنة و جعله يقرأ رياض الصالحين ، و لم يكتمل مشروع العم الجليل حتى التحق بالجبل قائدا ثوريا و سقط مستشهدا في إحدى بطولاته التي بقيت في ذاكرة أبناء قريته رغم محوها من قبل المؤرخين الذين استبدوا بتاريخ البلاد و أحرقوا الشرفاء من العباد وتركوهم طي النسيان قصدا أو بدون قصد . ترعرع أبي يتيم الأب مسافرا مع أخ مجاهد بعد الاستقلال حيث التحق بمدرسة أبناء الشهداء بالمعذر التابعة لباتنة معقل جبال الأوراس الشاهقة ، وأخوه الأكبر عمي الهادي التحق بالبوليس السياسي في عهد الرئيس الراحل بن بلة ، أنهى أبي تعليمه بمعهد أبناء الشهداء و التحق بأهله الذين انتقلوا مع عمي إلى العاصمة مستمرا في دراسته إلى أن نال شهادة الباكالوريا سنة 1972 بتقدير ممتاز و الأول وطنيا ، يحكي لي عمي محمد والذي هو صهر عمي الهادي رحمة الله عليه في بلاد الشاوية ” عين البيضاء ” التابعة لمدينة أم البواقي في جنازة قريب لهم عندما ذهبت لتأدية الواجب العائلي و الرسمي ذات صيف أنه مازال يحتفظ بنسخة جريدة المجاهد باللغة الفرنسية و التي أعلنت قائمة الفائزين بشهادة الباكالوريا ذلك العام وكان اسم أبي متصدرا للقائمة ، حيث يذكر المتحدث عمي محمد أنه يذكر زغاريد النسوة في البيت حينها و رعشة جدتي و هي تعبر عن فرحتها بميسوني حيث كانوا يسكنون ، و كأن فرحة الاستقلال عادت من جديد بعد عشر سنوات ، يصف لي عمي محمد تلك الفرحة التي غمرت بيت العائلة الكبيرة رغم الضيق ، إذْ كان البيت حينها مليئا بالضيوف من بسكرة و عين البيضاء و تكوت و خنشلة فرحين بمناسبة المرتبة التي حققها أبي في السنة التالية . أي سنة 1973 و بأمر من الرئيس الراحل الهواري بومدين التحق بصف الضباط بمدرسة أشبال الأمة ، و سُجل ضمن الطلبة المقبولين لإكمال دراستهم في روسيا حينها ، فأكمل تعليمه و تدريبه ، حيث استفادت الجزائر من مرحلة مميزة في تكوين ضباطها بالروس بين حسناواتها المتألقات. 1 مهما حدثتكم عن أبي و مهما وصفته وحكــيت عن سماته وتواضعه وأخلاقه طبعا لـــن تصدقوا و لن تتصوروا أن شخصية أبي فـــي عصرنا هذا أسطورة رحلت عنا منذ أحـــــــــد عشر عاما ، هي ليست مجرد حكايات و ليست مجرد قصص نرويها قبل النوم ، حكايته ليست بالغريبة و لكنها مغرية للكلام ، تولد في رغبة جامحة للتفكر ، فلا تنسوا أن الأســــــاطير هي حكايات لا يصدقها عقل و حتما حينما تسمعون الحكاية ستصدق عقولكم أن أبي أسطورة خالدة سوف ترويها ألسنتكم على مرّ الأجيال.. أبي الكولونيل أحمد – رحمه الله وتغمده بفسيح جنانه- كان يشع بنور المتقين. كل الحكايات التي كانت تحكيها لي جدتي وأنا طفل ربما لا يتجاوز ثماني سنوات يتصور أن أباه بطلا فيها ، وكنت أعتقد أن أبي هو أحد الأبطال الذين لا يموتون في آخر القصة ولا يضعفون ولا يبكون كذلك ، كنت أعتقد أن الرجال لا يبكون ، يضحكون فقط في وجه الأطفال ويساعدون الناس على الخير . أبي الأسطورة كنت أتخيله كالرحالة سندباد ، وعندما كنت في العاصمة بعين بنيان كنت –دائما – أنتظر مجيئه من مدينة مرعبة و مخيفة أتصورها في صغري كذلك ، مدينة غامضة كوهران هذه المدينة التي لم أكن أعرفها ولا تربطني بها أي علاقة سوى سفر أبي إليها في أوقات العمل ، كنت أخاف أن تمسه رصاصة طائشة من قبل جاهل لا يعرف الانسانية و لا يشعر أن هناك طفل في البيت ينتظر أباه ، أذكر جيدا في إحدى ليالي 1994 وطنا قد علمنا بأن أبي سيحل علينا تلك الليلة بعد أن يصل القطار على الساعة الثامنة و لكن تأخر القطار بجبال عين الدفلى كسر كل توقعاتنا الإيجابية فزرع فينا هواجس الموت و الغياب ، في تلك الليلة سمعنا صوت رشاش من نوع الكلاشينكوف يدوي بكل قواه فاهتزت نبضات قلوبنا رعبا، وتوجسنا خيفة، إذْ كانت أجسادنا ترتعش ، ونحن نفكربأن أبي ضحية ذلك الصوت المشؤوم ، بعد لحظات أطل من شرفة غرفتي التي كنت أتقاسمها و جدتي و مع ذلك الظلام الدامس ، رأيته يبتسم معبرا عن استمراره في الحياة. 2 معلمي” ساعد” من القلائل الذين يدرّسون- في عين بنيان – وهو أحد المقربين لوالدي لأنه كان زميلا له في الأميرالية في ثمانينيات القرن الماضي ، ثم استقال المعلم “ساعد” ليتجه إلى التعليم مباشرة و لما أقمنا بعين بنيان بعد رحيلنا عن المنزل العائلي بميسوني التحقت بمدرسة الصخرة الكبرى بغابة بينام و التي تبعد 2 كلم عن وسط عين بنيان ، هذه المدرسة التي احتضنتني منذ سنتي الأولى للدراسة حيث تعلمت أبجدية الحروف من قبل المعلم “ساعد” الذي أشرف على تعليمي ، كنا نسكن فيلا حدة و هي قريبة لنا تقيم بتولوز الفرنسية ، كان المعلم “ساعد” رجلا محبا ووفيا لأصدقائه و علمني جيدا كيف أصير تلميذا يجتهد في دراسته و كيف أكون طفلا نبيلا بين تلاميذ المدرسة ، كانت “إيمان ساعد” ابنة المعلم زميلة لي في الدراسة و كانت تقاسمني طاولة واحدة ، ولكن مشكلتها الوحيدة معي غرورها الزائد و غيرتها مني لأنها تعتقد أني أزاحمها في حب أبيها ” ساعد” من كثرة محبته لي ، كانت تعتقد أني ابنه من امرأة أخرى إن لم أكن مخطئا ، لما يسألني مازحا المعلم “ساعد” عن عمل والدي كنت أجيبه أنه تاجر في سوق الخضر بميسوني ، فتضحك إيمان من الكذبة التي لفقتها طبعا اعتقادا مني أني أحمي والدي بكذبة بيضاء ، كانت ضحكتها خبيثة تعرف سر عمل الوالد و تخبر زميلاتها و صديقاتها به ، و كانت تعود خائبة إلى البيت كلما كذبها والدها أمام زملائنا في القسم ، المعلم “ساعد” كان البئر الوحيدة التي أخبئ فيها أسراري الطفولية ، وحتى مكان المقروض الذي تخفيه والدتي قبل حلول العيد كنت أكشفه له ظنا مني أنه سيزورنا و يساعدني في سرقته لآكله خفية عن ناظريها . كانت علاقة أبي بالمعلم “ساعد” جيدة رغم كثرة غيابه حيث كان يعمل حينها في قاعدة المرسى الكبير بوهران و أيضا كان يحضر لنيل شهادة الدكتوراه بين بومرداس و روسيا التي أنهى بها تعليمه بعد إرساله من قبل مدرسة أشبال الثورة، في تلك السنوات تعرفت إلى رجل مثقف يحب القراءة كثيرا كالمعلم “ساعد” و صديق لهما اسمه العم “عماري محمود” كان ثلاثتهم يحبون المطالعة و القراءة ، و كانت كتب والدي التي تركها همزة وصل بينهم و أنا ناقلها من يد إلى أخرى و خاصة في غيابه ، كان العم “محمود” يشتغل مدير مدرسة بالحراش ، أذكر جيدا كيف كان يزورنا بسيارته و كان يجتمع بوالدي وفلاح يقيم بزرالدة اسمه العم “معروف” الذي كان يتحفنا بأزهاره الجميلة ، هذا بعض ما كنت أعرفه عن والدي أنه رجل عظيم و متواضع يحب أن يصاحب الناس العاديين ، كل حياته كانت عظيمة بتواضعه مع الصغير و الكبير

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى