صقر محمد البعيني
البلد: لبنان
تلفون وواتسأب: 009613449742
رواية “بقبشة[1]”
رواية من الزمن الجميل زمن الأصالة والتراث والمحبة والإلفة، إذ تتحدّث عن أمور كانت تحصل في غابر الزمان، بين أهالي بلداتٍ جبلية، كانت ترزحُ تحت نير الاحتلال العثماني، وكان أهلها متمسِّكين بالتقاليد إلى أبعد حدود. تلك التقاليد التي نعتبرها هذه الأيام بالية، ولكنّها كانت بالنسبة لهم ناموساً لكل أعمالهم ومناسباتهم.
أعزائي القرّاء، سوف تجدُون في هذه الرواية الكثير من المواقف الإنسانيّة منها المضحكة ومنها المبكية ومنها المضحكة المبكية في آن. كما يظهرُ في طيّاتها الظُّلم الذي كان يلحق في المجتمع بجناحيه، وذلك بسبب تلك التقاليد. يَظهرُ فيها الحبّ العاصف، الخيانة الممنهجة، الحقد القتّال والبراءة والبساطة المظلومتين وغيرها من المشاكل الاجتماعية.
تدور أحداث رواية بَقبَشَة في منطقةٍ جبليّةٍ في القرن الماضي، أي في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، حيث البساطة في العيش وفي التفكير والحفاظُ على التقاليد التي كانت من المقدّسات. لكن، وكما في كل الأزمنة، كانت الطبقيّة موجودة وبشكلً قوي وتحكّمي وظالم في كثيرٍ من الأحيان، إذ سيتمُّ محاربتها بطرقٍ بسيطة، أو بالتقاليد ذاتها، ولكن هل ستنجح تلك الطُّرق أم لا، ستجدون الجواب بين طيَّات دفّتي هذه الرواية.
“بَقْبَشِة” لا تعالج قصة حبٍّ بين حبيبين، كالروايات الأخرى، ولكنّها شاملة للعديد من المشاكل التي كان يعانيها الناس جرّاء تلك التقاليد. سنجد انهيار العائلات، بسبب حلٍّ متهور لبعض المشاكل والذي قد يؤدي إلى مشاكلَ أكبر وأخطر، كذلك سنجد أنَّ كل إنسان سيلاقي نتيجة أعماله.
أخيراً، أتمنى أن تنال هذه الرواية استحسانكم، وأن أكون قد وُفّقتُ في تقديمِ موضوعٍ جديد يُغني المكتبة العربية والرواية العربيّة، وأن أساهم في زيادة معلوماتكم حول بعض تقاليد تلك الحقبة، وأعدكم بمزيدٍ من الروايات التي تعالج أموراً مهمّة للجميع منتشرة في مجتمعنا المحلي والعربي على السواء.
ب
في بلدة الزنزلخت[2] الجبليّة الهانئة، تحضنكَ الطبيعة الخلّابة بصوت حفيفِ الأشجار وزقزقة العصافير مع صياح الديوك، حيث تُشعرُك بالراحة، لأنّ تلك البلدة بعيدة كل البعد عن الضجيج ومشاكل البلد الذي كان يرزحُ تحت نيرِ الاحتلال العثماني، لكنها لم تكن تُعاني من احتلال العثمانيين بشكلٍ مباشر، فهي نائية لا يصلها المحتلّون إلا نادراً، لماذا؟! لأنَّ لهم أعينًا وأناسًا يمارسون الاحتلال عنهم، هذا ما كان يعكِّرُ صفو الطبيعة والناس، حيث تبرز عدة أمورٍ سلبية، مثل التمييز الطبقي والاجتماعي، إضافة إلى تسيير أمور أناس على حساب أناس آخرين وفرض أمورٍ أو ظلمٍ على أناسٍ بغيرِ إرادتهم، ولكنَّ طيف العثمانيين لم يغب كثيراً، فقد كانوا يسيّرون دوريات على حدود البلدة، ويقيمون الحواجز لأخذ الخوّات أو للبحث عن مطلوبين فارّين من ظُلمهم أو كُرمى لأتباعهم.
في ظلِّ كل ذلك، نشبت قصّة حبٍّ بريئة بين راوية، ابنة عزّ الدّين، الفلاح البسيط، وإبراهيم ابن برهان بيك، سليل الباكوية أبًّا عن جَدّ. الكلُّ يعلمُ كيف كانوا يحصلون على اللقب والنفوذ، وذلك بعد إعطائهم أراضٍ للعثمانيين بالمقابل، حتى صاروا سليلي العز والسطوة. أمّا عزّ الدّين فقد كان يعمل لدى برهان بيك كمدير أعمال لمزرعته الكبيرة، وكان يديرُ شؤونها ويجني الغلال، كان يعمل في الحقل وزوجته آمنة تهتمُّ بنظافة القصر وشؤونه، هما كانا مجبورين على تحمُّلِ طلبات البيك وزوجته الست ياسمين، وإلا سيطردا من عملهما، أو قد يتأذّى هو أو ولداه لدى العثمانيين، فهو لن ينسى منظر الفلاح منتصر، الذي خالفَ رأي زوجة البيك، فما كان منها إلا أن طردته من العمل، وبعد يومين أتى جنودٌ عثمانيّون وأخذوا ابنه الوحيد منصور إلى الخدمة العسكرية الإجبارية لديهم، راح منتصر يرجوها كي تعفو عنه وعن ابنه، لكنَّ قلبها القاسي لم يَلِن أمام رجاء الوالد، حتى أنَّ برهان بيك، ذا القلب الرقيق، لم يستطع فِعلَ شيء، لأنّه يحبُّ زوجته ولا يخالف طلباتها أبداً، فأخذوا منصور ولم يرجع إلا بعد ثلاث سنوات.
كان إبراهيم، البيك الصغير، معجبٌ براوية منذ صِغره، يلاحقُها في كلِّ مكان، ويتحيّن الفرصة عندما تكون والدتها آمنة تنظِّف قصر برهان بيك، فيذهب ليلعب معها في حديقة القصر أو قرب النهر، في مكان غير منظور لا تراه والدته ياسمين، لأنّها ستمنعه وتصرخ براوية كي لا تقترب منه، كذلك حالُ آمنة التي تلقِّن ابنتها الدرس في كلِّ مرّةٍ تذهبان فيها إلى القصر. أمّا راوية فلا تفهم سبب هذا التشدّد لإبعادها عن إبراهيم، فهي تحبّ أن تلعب معه، لكنّ والدتها لم تُفهمها ما السبب؟ وطلبت منها أن تنفِّذ كلامها وفقط.
صارت راوية تعدُ والدتها بذلك فقط كي لا تمنعها من الذهاب معها.
هذه كانت الوصيّة اليوميّة لابنتها، فهي لم تطلب مساعدة زوجها عزّ الدّين، لأنّه لن يرضى فقط بتوصية ابنته بالابتعاد عن إبراهيم، لا بل سيضربها ويقسو عليها، وربّما قد تصلُ معه إلى القتل.
مع كل تلك التوصيات من الست ياسمين وآمنة، كان إبراهيم يستخدمُ ذكاءَه الطفولي ويستطيع أخذ راوية إلى النهر ويجلسان قربه بكلِّ براءة، ويحلمان بمستقبل باهر، يعيشان فيهِ مع بعضهما البعض، فهما لا يعرفان بالفروقات الاجتماعية، فقد كانا صغيرين على فهمِ تلك المعضلة الأزلية الأبدية.
ظلَّ هذا الحب البريء ينمو بين الولدين حتّى صارا يافعين، وبدأت الأعين تتفتّح عليه، خاصة ًوأنَّ البلدة صغيرة والناس تعرف حركات النمل فيها، ليس فقط تحرُّكات البشر.
صارت آمنة تذهب لتنظيف القصر من دون ابنتها راوية، وذلك بضغطٍ من الست ياسمين التي وصلها كلامٌ بأنَّ ابنها يلتقي براوية سرًّا، وفي أماكن غير منظورة لها.
آمنة قد تسكت على فِعل ابنتها دون أن تُخبر عزّ الدّين، أمّا الست ياسمين فلا يُمكن أن تسكت على استمرار العلاقة بين ابنها والصبيّة ابنة الفلاح عزّ الدّين، فما كان منها إلا أن تعهّدت إخبار زوجها “البيك” بالموضوع، فمن المؤكّد أنّه سيتضايقَ من ابنه، وسوف يطلب إنهاء تلك العلاقة وعدم التحدّث مع الفاتنة راوية، فهي كلّما كبرت في العمر ازداد جمالها.
بعد ثلاث سنوات على غيابِ منصور في الخدمة العسكرية مع العثمانيين، سمحوا له بزيارة أهلهِ ولكن لفترةٍ وجيزة، عند وصولهِ كان لدى منتصر زائرٌ من بلدةٍ بعيدة، اسمه نجيب، جاءه لكي يبيعه، أو يقايضهُ، هو يعطيه من غلال حقلِه ومنتصر يعطيه بالمقابل الأغنام.
وصل منصور وسلّمَ على أهله بكثيرٍ من اللهفة، فهو مذ غاب عنهم لم يسمح المحتلّون له بالعودة ولا حتى لزيارة أهله تنفيذاً لطلبِ السِّت، فهي فعلت ذلك ليس فقط بسبب ما فعل منتصر، ولكن لإبعاد منصور عن ابنها، فهي لم تحبّذ تلك الصداقة المتينة بينهما. عرّفهما منتصر على بعض.
– أهلاً عمّي نجيب.
– أهلاً يا اِبني.
تألّم نجيب من سلام منصور ذي البنية القوية، جلس على الأريكة وهو يفرك يده من الألم. ثمَّ غادر منصور إلى العليّة.
رقَّ قلبُ نجيب لِما رآه من حسرة الوالدين وتعلّقهما بولدهما، وحزِنَ أكثر عندما عرَف بأنَّه أعزب ووحيد، فنصحَ والده بأن يزوّجه ليرى ذرّيّته فربّما أخذه العثمانيّون إلى الحرب وحصلَ له مكروه، لا سمح الله، هو يقول ذلك لأنّ لديه ثلاث بناتٍ ولا يريدهن أن يعنّسن في البيت، فقال له منتصر:
– إيدي بزنّارك يا خيّي نجيب، هيدا الشّي يلّي بتمناه شوف لابني العاقبة، مثل ما قلتلّك هو وحيد.
كان منصور خلال تجوالهِ مع الجيش العثماني قد رأى صبيةً جميلةً في بلدةٍ بعيدة عن بلدته، كانا يتبادلان النظرات خلال دوريّاته، ولكنّه لا يتجرّأ أن يكلّمها أو يُشعِر اليوزباشي أحمد بأنّه مُعجبٌ بها. فلشدّة ظُلم العثمانيين، كانوا يعتبرون الجندي كحيوانٍ يعيش لخدمة الدولة العليّة وللأكل فقط، أي يجب أن لا يكون لديهِ أحاسيس.
أمّا نجيب، من بلدة جوار العلّيق، فوجدها فرصةً كي يشجِّعَ منتصر على أن يزوّج ابنه الوحيد، فدعاه إلى زيارته لكي يريه أحلى عروس لأحلى شاب، فهي ابنته الغالية، وتمنّى عليه في حال لم تُعجبه العروس أن لا يخجل، فهو ليس مُجْبَرًا على شيء.
شكرته منتهى على هذه الخدمة المهمّة. اتَّفق الرَّجلان على موعدٍ للزيارة، إذ سيذهب العريس ووالداه لكي يروا العروس، ابنة نجيب.
خرج منتصر وضيفه ليكملا مقايضة الغنم بالمنتجات البيتية والزراعيّة، وضعها نجيب في عربة الخيل وانطلق على أمل اللقاء بعد أسبوعٍ لرؤية العروس، لكن منتصر تمنّى أن يكون الموعد في الغد لأنّه لا يضمن أن يطلب العثمانيون ابنه إلى الخدمة ويُلغى الموعد، فوافق.
بعد ذهاب الضيف، نادى منتصر ولده وأبلغه الخبر السعيد، لكنّ منصور انزعج وأخبر والده، بعصبية بأنّه لا يريد الزواج، فما كان من والده إلا أن أهانه كيف يخالف رأيه، إذ درجت التقاليد أن يُطيع الشاب والداه حتى لو كانا على خطأ، فأجابه منصور أنّ العروس قد لا تعجبه؟!
استغربت منتهى كيف يردّ على والده، فهذا عيب، طلبت منه أن يثق بها وبذوقها، فهل من الممكن لها أن تقبل بأن تكون كنّتها غير جميلة؟؟ وأكثر، فإنَّ والدها قد قال أنّه ليس مجبراً على شيء.
فما كان من منصور إلا أن وافق على مضض، فهو لا يستطيع رفض رغبة والديه، هذه التقاليد.
لم تستطع ياسمين تحمُّل أن يتعلّقَ ولدها براوية، لأنّها ليست من مستواهم الاجتماعي، فهي تتمنّى لابنها عروساً غنيّة، وابنة ناس ذوات.
التقت بزوجها مساءً كالمعتاد، أمام موقدة الحطب الفاخرة، رآها زوجها مربكة ومحتارة ولديها كلامٌ تريدُ قوله، ولكنّها متردِّدة، قالت بأنه يجب أن تزوّجها، أجابها برهان:
– كيف!! مين قصدِك، بنتنا؟! خير شو بها؟؟ ههههه
قالها ممازحاً فإبراهيم وحيد عند أهله. لم تتقبّل ياسمين هذا المزاح الثقيل، فهي لا تعير زوجها اهتماماً كبيراً، وأضافت بأنّها تقصد راوية. لم يتذكّرها فسألها من تكون؟ أجابته بأنّها ابنة عزّ الدّين، وأنّها تريد تزويجها كي لا يتعلّق ابنهما بها.
انتفض من الغضب، لأنَّه لا يُمكن أن يسمح بحصولِ ذلك، ووافق فوراً على تزويجها لأنَّ ما يهمّه هو أن تبتعد عن ابنه، ولكنّه سألها، من سيكون العريس؟
فكّرت مليًّا وكأنّها تعرفُ أحداً يكون من مستوى عزّ الدّين، فخطر ببالها:
– شيخ العزّابية بالضيعة، فريد.
أجابها برهان بأنّه كبيرٌ جداً عليها، لكنّ ياسمين اعتبرت بأنّه أفضل منها، ولدى إصرارِ برهان على أنّ فريد أكبر منها، نظرت إليهِ ورمقته بنظرةٍ حادة وجدّية، ما يعني بأنّها أصدرت الأمر. فقال:
– طيب حبيبتي مثل ما بدِّك، المهم تضلّك رايقة وما تعصبي.
فهو يخاف أن تغضب منه، خاصةً في المساء، لأنّها ستجعله يُمضي ليلهُ في الصالون أو في مكتبهِ أسوةً بالمرّة السابقة، حيث أغضبها ولم ينفّذ رغبتها، ولدى صعوده إلى غرفة النوم وجد ثيابه واللحاف أمام باب الغرفة والباب مقفل.
اقترب منها واحتضنها بحنان، ووعدها بأن يكلّم عزّ الدّين، فالمهم أن تبتعد راوية عن ابنه، طلبت منه بدلال أن يصعدا إلى غرفة النوم، فنهضا وذهبا متعانقين إلى غرفتهما لقضاء ليلةٍ حمراء، على شرف زواج راوية من فريد، لكنّه دائماً عندما يصل إلى الغرفة ويشرب قليلاً من المشروب، يغلب عليه النُّعاس وينام قبل الاقتراب من زوجته.
وصل نجيب إلى بلدته متأخراً، فالطريق وعِرة وتأخذُ وقتاً للوصول من بلدة الزنزلخت إلى بلدته، إضافةً إلى الحواجز الطيّارة التي يقيمها الجيش العثماني، خاصة على ناصية الجسر فوق النهر، هذه الحواجز تُقام لكي يقرصن العثمانيون ويأخذوا الخوّة، وقد كان نصيب نجيب أن يخسر كمية لا يُستهانُ بها من المنتجات التي قايضها مع منتصر، ولكنَّه مُعتادٌ على هذه الخسارة.
كلَّم زوجته في قصَّة الزواج، ولكنَّ لديه ثلاث بنات، زهر البان، خولَنجان وست الحسان، والتقاليد تقول بأنّه لا تزويج للأولاد، صِبية أم بنات، إلا بحسب الأعمار، أي الكبير في السن قبل الصغير. وهو، أي نجيب، يعرف جيّدًا بأنَّ ابنته البِكر زهر البان، ليست جميلة فقد أصبحت كبيرة ولم تتزوّج، فهذه مصيبةٌ على الأهل، إذ إنَّ سنَّ الزواج عند الصَّبيّة في تلك الأيام هو سنُّ بلوغها.
فإذا لم تُعجِب زهر البان منصور وأهله، سوف لن يستطيع تزويج ابنتيه الوسطى والصغرى اللتّين يعتبرهما أكثر جمالاً. طلب النُّصح من زوجته، طبعاً الرجل لا يحترم رأي المرأة، لكنَّ نجيب في ورطةٍ كبيرة واستنجد بزوجته، لأنّه يعرفها ذكيّة وقد تساعده في إيجاد الحل المناسب. فقالت له بأنّه محقٌّ وأنّها ستفكِّرُ في حل. أجابها نجيب بغضب:
– شو قلتي؟! بدك تفكري؟! أنا الرجال وأنا يلي بفكّر وبقرّر بس، فهمتي ولا شو؟ (بهدوء) طيّب شوفي شو بيطلع معك حل.
خافت منه أن يضربها لأنّها تخطّت حدودها في الجواب، فأكّدت له بأنّه تاج رأسها، والعينُ لا تعلو عن الحاجب، وهو الذي يُقرّر. فرح لهذا الكلام وراح يفتلُ شاربيه بأنّه هو الرجل. وغرق كلٌّ منهما في التفكير بالطريقة المُثلى، لا بل الحيلة المُثلى، لكي يقبل منصور بابنتهما.
في غابر الزمان كانت المرأة تُعتبرُ من أثاث المنزل، زوجها لا يُعيرها اهتماماً حتى في أبسط حقوقها الزوجية، فهو يعمل طيلة النهار ويأتي في آخرهِ مُنهك القوى، قد يكترث لرغباتها الزوجيّة وقد لا يفعل، وفي حال فعَل، فقد يكون ذلكَ منقوصاً من ناحيتها، أي كما يُقال بأن “الرجل في السرير كالأرنب والمرأة كالسلحفاة”، فدائماً تشعرُ بأنّها مظلومة من هذه الناحية، وهذا قد يوقعها في أول مطبٍّ أو نظرةِ إغواء.
لا زالت ريحانة في ريعان شبابها في منتصف العقد الثالث من عمرها، متزوجة من جميل الفلاح ولديهما طِفلٌ صغير اسمه يوسف. جميل رجلٌ ثلاثيني يعيش ممّا يجنيهِ من حقله، وأيضاً مما يأتيه من مساعدة عزّ الدّين في الأعمال الموكلة إليه من قِبل برهان بيك. فهو يعمل طيلة اليوم ويأتي إلى البيت تعِبٌ ولا حَيلَ له للتحدث مع زوجته، لا بل يأتي ويغضبُ عليها، وفي كثيرٍ من الأحيان يضربها كي يُثبتَ رجولته، لأنّه لا يستطيع الغضب بوجه البيك أو التُّجّار الذين يشترون منه المحصول، وهي مجبورة على التحمُّل لأنّه زوجها وهو الآمر الناهي، حسب التقاليد.
كان يقطنُ في البلدة إسكافيٌّ اسمه خليل، رجلٌ درويش لديه شفةٌ مشرومة خلقيًّا ورِجله اليُمنى أطول من اليُسرى، كانت تأتي ريحانة إلى دكّانه لإصلاح حذائها وتتركه عنده وتذهب، ومن ثمَّ تعود لاحقاً لأخذه، ولكن عندما سمِعَ خليل بسوء العلاقة بين ريحانة وزوجها وضربِه لها، أحبَّ استغلال الظرف، فصار كلّما أتت لدكّانه يستبقيها:
– خليكي لخلِّص تصليحو، ما بدّو وقت.
قبِلت منه وبقيت، وراح بدوره يسايرها ويحاول إظهار حُسن النيَّة ويُضحكُها، وهي أصبحت تتسلّى عندما تزورُه. كان يتغزّل بها بطريقة مبطّنة، ثمَّ ينظرُ إلى جسدها بطريقة وكأنّه يشتهيها، كانت تخجلُ قليلاً ولكنّها في داخلها تروق لها نظراته تلك، فقد ارتاحت نفسيّتها كثيراً، لأنّها شعرت من خلال كلامه بأنوثتها التي نسيتها مع زوجها، لكن في طريق عودتها للمنزل شعرت بالحَرج مما فعلته، لأنّه ما كان يجب أن تتمادى مع خليل، فهي متزوّجة ولا يجب أن تنظر لغيرِ زوجها. وصلت المنزل وقرّرت عدم الذهاب لدكّان خليل ثانية، كما وقرّرت أن تُصلح علاقتها بزوجها فهو والد ابنها.
راوية صبيّة في أواخر العقد الثاني من عمرها، وأصبحت تفهم أكثر في أمور الحب والعشق، إذ صارت تتحرَّك مشاعرها نحو الجنس الآخر وخاصّة نحو إبراهيم. لم تتعلّم القراءة والكتابة كثيراً، لأنَّ العِلمَ كان شبه معدومٍ في البلدات النائية، فقد كان هنالك مدرّسٌ واحدٌ لكل الأعمار. درست عنده عدّة أيام فقط، لأنَّ والدتها كانت تأخذها معها لتنظيف قصرِ البيك، أو تتكّل عليها في تنظيف بيتهم والطبخ، لذلكَ فقد تحمّلت مسؤولية البيت في غياب والدتها أو بوجودها، لكي تخفّف عنها عبء الأعمال البيتية، كما وتعلّمت أصول الطبخ، لأنَّ والدتها تريد منها أن تُسعِد زوجها المستقبلي، فهي تعتبر الطريق إلى قلبِ الرجل هو معِدته، كما هو حالها مع عزّ الدّين.
لقاءاتها مع إبراهيم لم تعد كما كانت في السابق، فلا يوجد مبرّر لخروجها من المنزل إلا عندما تكون والدتها في القصر، فتسترق الوقت لكي تكون معه، ولكنَّ مشاعرها كصبية صارت تتحرّك أكثر، وتخاف أن تنجرَّ وراءها.
في لقائهما هذا اليوم، حيث خرجت راوية بالخفاء بعد ذهاب والدتها للعمل في القصر، بدأ الحديث يزداد حميميّة، حيث كلّمها إبراهيم عن شعوره تجاهها وأنّه لا يستطيع العيش من دونها، كذلك هي بادرته ذات الشعور، وقالت:
– بس إنت عم تكون بعيد عنّي بسبب درسك بـ بيروت، وأنا عم اتّضايق من دونك وخايفة إنّك تنساني.
قالت ذلك واغرورقت عيناها بالدموع، تضايق من كلامها وقال بأنّه لا يمكن أن يبعِدهُ عنها أي شيء أو أي أحد، وأنّه ينتظرُ حتى ينتهي من عِلمه ويأخذها معه. ضحكت لكلامه لأنّها تعرفُ بأنَّ والدته ستحول دون القيام بذلك، لكنّه وعدها بأنَّ لا أحد في الدنيا سيفرض رأيه عليه تجاه حبِّهما. اقترب منها واحتضنها، من ثمَّ مسح دموعها بيديه وطبع قبلة خفيفة على خدّها، تنهّدت وأبعدت يديه عن وجهها:
– شو عم تعمل… أ.. أ… أنا بدّي فلّ، تأخرت.
قالت جملتها ونهضت وهي لا زالت تلهث، فقد تحرّكت مشاعرها، أما إبراهيم فلم يتركها وحاصرها بذراعيه، مدَّ يديه خلف رأسها وفكَّ ربطة شعرها وراح يفردهم بين يديه:
– هيك أحلى، إنتي صبية مثل القمر.
قبّلها بحنان، لم تستطع صدّهُ، ولكنّها تذكَّرت كلمات والدتها بأنّها لا يجب أن تستسلم لشاب قبل الزواج، “هيدا عار”، صدّته وهرعت راكضةً نحو البيت، أما هو فبقي في مكانه مسمّراً لأنّها قَطَعت عليه أجملُ لحظات حياته.
هي تركض وشعرها الأسود الطويل يتغلغلُ فيه الهواء النقي، أحسَّت بأنَّ هذه القبلات قد حرّرتها وجعلت منها صبية ناضجة، توقفت قليلاً وكأنَّها ندمت على فِعلتها، لكنَّ جملته ظلَّت تُردّدُ في مسمعها، “صبية مثل القمر”، راحت تُفكِّر في العودة، ولكنّ صوت والدتها كان أقوى وهي تقول:
– “هيدا عار”.
فعادت وأكملت طريقها، وإبراهيم نام على العُشب يحلمُ بتلك القبلات التي سرقها من حبيبته، ويضحك كيف احمرَّت وجنتيها من الخجل، إذ زادها ذلك جمالاً.
كان هذا أول لقاء شبه حميم بين العاشقين، حيث كان يسوده العِشق والحنان.
كانت آمنة تنظّفُ القصر عند الست ياسمين، فهي نشيطة، ولكنَّها تعملُ بجدٍّ أكثر، لأنَّها تخاف من ملاحظات سيدة القصر التي كانت تجلس في الليوان العلوي الذي يُطلُّ على صالون القصر الكبير في الطابق الأرضي، نادت على آمنة وطلبت منها أن توافيها لمجلسها.
هرعت آمنة مسرعةً، خائفة أن يكون لديها ملاحظات سلبيّة على عملها.
لدى وصولها أومأت لها الست ياسمين أن تجلس، رفضت آمنة ذلك باحترام، لأنّه لا يجوز لها أن تجلس على مقاعد الصالون نفسها التي يجلس عليه الأسياد.
نظرت الست ياسمين إليها بطريقة وكأنّها تقول “يلّا قعدي”، فالست لا تتكلّف عناء الكلام مع الخدَم كثيراً، سألتها مباشرةً عن ابنتها، فأجابتها بصوتٍ يرجفُ من الخوف بأنّها في البيت تطبخ وتنظِّف، ردّت ياسمين بكل تعجرف:
– وابني مش بالبيت، متأكدة إنها بالبيت؟! على كلٍّ حكينا أنا وبرهان، بنتك لازم تتجوّز، ودبّرنالا عريس.
تفاجأت آمنة كثيراً، وردت بعنفٍ لا إرادي بأنّ ابنتها لا زالت صغيرة، فأجابتها الست ياسمين:
– هيدي زغيري!! بنتك عفريتة، برهان بيك رح يحكي جوزك عن التفاصيل.
ثمّ أومأت لها بالذهاب لمتابعة عملها دون انتظار الجواب.
عادت آمنة إلى عملها، التقَت على الدرج الدائري بين الطابقين بإبراهيم بيك وهو يدندنُ فرحاً أغنية للمطربة منيرة المهديّة “أسمر ملك روحي”، رأى آمنة مكفهرّة الوجه، سألها عن حالها.
نظرت إليه والدمع محبوسٌ داخل عينيها، أومأت رأسها بالإيجاب أي إنّها بخير، وأكملت طريقها نحو عملها. أما هو فقد أكمل طريقه حيث التقى بوالدته، قبّلها على جبينها وأراد الذهاب لغرفته، صرخت به ياسمين بصوتٍ عالٍ:
– وين كِنْتْ؟ أكيد كنت معها؟
سمعت آمنة صوتها، فتحت عينيها من الخوف، مخافة أن يكون كلام الست صحيحاً، كذلك جواب إبراهيم لم يطمئنها.
– إمي أنا حر بحياتي.
فكان جواب الست ياسمين قاسياً:
– على كلٍّ، بحال كنت معها، رح تكون هيدي آخر مرّة بتشوفها لأنها رح تتجوّز قريباً.
لم يُعِر إبراهيم كلام والدته أيّ اهتمام، لأنَّه كان منذ قليل مع راوية، ولم تُخبره بشيء عن موضوع الزواج.
أما آمنة فراحت تضرب المقاعد والكنابايات بقوة بمضرب الغبار.
كان برهان بيك يكلّمُ عزّ الدّين بموضوع زواج ابنته، لكنَّ رأي الوالد من رأي زوجته، بأنَّ راوية ما زالت صغيرة على الزواج، لكنَّ البيك يحاول إقناعه بأنَّ ابنته صارت صبية فالزواج سيكون سترًا لها، لأنَّ بنظره الفتيات قد يجلبنَ العار لأهلهنَّ في حال أخطأنَ مع أحد.
خاف عزّ الدّين من كلام البيك، ولكنّه يحبُّ أولاده كثيراً، خاصة راوية، وهو يعرف بأنّها متربية تربية جيّدة، فراح يفرك ذقنه من الهم والتفكير، وأضاف البيك بأنَّ زوجته قد دبّرت لابنته عريساً جيّدًا على ذوقها، وذكّره بأنه لا يجب إغضابها. فأجابه بلهفة الخوف:
– عريس؟؟؟ مين العريس؟ أكيد ذوق الست ما في شك فيه!
أخبره برهان بيك من يكون العريس، فهو رجلٌ يعيش لوحده، يعني ابنته ليس لديها حماة كي تزنَّ على رأسها ما يعني أنَّ ابنته سوف تكون ست البيت.
صُدِمَ عزّ الدّين عندما سمعه، فهو يعرفُ أن فريد يعاني من أزمةٍ نفسية بعد أن أخذه العثمانيون وعذَّبوه، لقد كان متعلّماً ومتكلّماً وذو شخصية ملفتة للنظر، لكنَّ الست ياسمين هي من وشَت به، فاعتقلوه وأخذوه إلى التجنيد ولكنَّه لم يخضع لهم فعذّبوه كثيراً، عاد إلى البلدة وهو شبه مختل عقلياً، أو هكذا يعتقد أهل البلدة، لأنّه يظلُّ ثملاً، فاضطرَ أن يعمل في حقل برهان بيك، والست ياسمين توصي به دائماً ولا تريد أن يغيب عن ناظريها، أمّا هو فلا يطيقُها ولا يحبُّ سماع صوتها. حاول عزّ الدّين الاعتراض أو إبداء رأيه، لكنَّ البيك صدّه.
– بس…
– لا بس ولا شي، قلتلك، معقول تزعِّل الست.
قال برهان بيك كلامه وذهب، أمّا عزّ الدّين فقد اتَّكأ على المعوَل الذي كان يحمله وغرق في التفكير، فمصيبةٌ أن يرفض كلام الست ومصيبةٌ أكبر أن يرمي بابنته بين أحضان فريد السّكّير.
نهَره البيك من بعيد كي يُكملَ عمله. عاد عزّ الدّين إلى الواقع وراح يُكمل عمله المضني والحرقة تدمي قلبه.
لقد وجد نجيب وزوجته فهيمة الحلّ الناجع لكي يزوّجوا ابنتهم البكر إلى منصور، فالزوجة قويّة وذكيّة جداً، وقد وجدت ذلك الحل مستندة على التقاليد والأعراف.
فقد ارتأت أن تجعل عائلة العريس ترى ابنتها الثانية خولَنجان على أنّها ابنتها البِكر زهر البان، فالتقاليد تقضي بأن يرى العريس عروسه من “خُرم الباب” ولا يُسمح له بالجلوسِ معها إلا بعد كتبِ كتابها ودخوله إلى غرفة نومها بعد العرس. لكنَّ نجيب خاف أن تأتي والدة العريس وتُصرّ على رؤية العروس. فطمأنته فهيمة بأنّها ستتدبّر الأمر، وأنها تطمئِنُّ من ذكاء ابنتها خولَنجان لأنَّها تشبه والدتها. فعتبَ عليها لأنه اعتبرها تتنمَّرُ عليه، فأنكرت ذلك وقالت له إنه تاج رأسها.
قالتها مع ضحكة ماكرة فهي تعرف أنّها أذكى منه. نهضت ونادت خولَنجان وزهر البان كي تلاقيانها إلى غرفتها حتى تتلو عليهما الخطّة الجهنّمية التي ابتدعتها كي تزوّج ابنتها البِكر.
دخلنَ الغرفة وبدأت فهيمة بشرح الخطّة، خولَنجان استوعبت المطلوب مباشرةً أمّا زهر البان ذات الصوت الأجشّ والقدّ الممتلئ فلم تقبَل ولم تفهم الخطة واعتقدت بأنَّ العريس ستأخذه شقيقتها، فطمأنتها والدتها:
– ولي يا هبلة، منقول إنو خولَنجان هي زهر البان، منشان ينعجب العريس فيها ويوم العرس بتكوني إنتي العروس.
كذلك غضبت زهر البان لأنّها اعتقدت بأنّ والدتها تعني بأنّها غير جميلة، لكنَّ فهيمة التي لا تريد إغضاب العروس المنتظرة فأفهمتها بأنَّ العريس يحبُّ العروس البيضاء وهي سمراء لذلك ستُظهر له خولَنجان، عندها استلمت خولَنجان مهمة إفهام شقيقتها باللعبة، ولكن كان لديها استفسار وهو مخافة أن تُفتضح العروس يوم العرس من قِبَل أمّ العريس، فطمأنتها فهيمة بأنَّ التقاليد سوف تحمي العروس، لأنّه يُمنع على أحد رفع “الحبرة[3]” إلا العريس، مع القليل من المجهود من العروس أيضاً.
لم تنسَ راوية لقاءها القليل البراءة مع حبيب قلبها إبراهيم، فبدلَ أن تُكمل شغل البيت والطبخ، وقفت على شباك غرفتها تحلمُ شاردة الذِّهن، وتداعبُ شعرها الذي فكَّ ربطته حبيبها.
وصلت والدتها، معصّبة الرأس بمنديلها الذي لا يفارقها، فقد كان رأسها يؤلمها لما سمِعته من الست ياسمين، وكذلك عندما جاء إبراهيم واتهمته أنّه كان مع راوية، وأيضاً تقرير زواج ابنتها يؤلمها، فقد خافت أن يكون كلام الست صحيحاً.
جلست على الكنبة، ونادت ابنتها، لكنّها لم تُجِبها، عادت ونادتها. عندها صَحَت راوية من حُلمها على صوت والدتها، ركضت لترى ما بها؟، فبادرتها والدتها بالقول:
– وين كنتي كل النهار ولي؟
– إمي والله ما تركت البيت!!
فهي لا تستطيع قول الحقيقة كي لا يُفتضَح أمرها، لم تصدّق آمنة ما قالته ابنتها، صرخت أكثر بأنّها أوصتها عدّة مرّات أن لا تراه، لأنّ والدته ستُتعبهما كثيراً.
– يا بنتي إذا عِرف بيّك والله بيقتلك، وشو بيثبت للست إنك مش عم تشوفيه؟ رح تئذيكي وتئذينا، بدها تجوزك يا حمارة، قلتلك بعدي عنوووو، يا دلّي أنا شو معثرة.
وهما في هذه المعمَعة، دخل عزّ الدّين وهمُّ الدنيا فوق رأسه، رمى السلام ومشى وكأنّه لم يَرَههما، نادته زوجته:
– لوين رايح؟! تعا شوف المصيبة يلي نحنا فيا!
طلب منهما تركه بهمّه، ركضت ابنته نحوه، لأنّه يحبّها وهي تحبّه، وقالت له بلهفة:
– بيّي شو باك؟!
نظر والدها إليها واحتضنها بقوة وكأنّه يريد أن يُدخلها إلى قلبه كي يحميها. استغربت هي ذلك، هو يحبُّها ولكن أن يحتضنها بهذه الطريقة يعني أنّ هنالك أمرٌ كبير.
أحسّت آمنة بأنَّ ما أوجع لها رأسها هو نفسه الذي أَهَمَّ زوجها.
– بقّ البحصة، ما يكون يلّي ببالي؟!
جلس على الكنبة، رمى لبّادة العمل على الأرض، وراح يمرغُ شعره بيديه وينفخ، وقال كلاماً مؤثّراً:
– المتسلطين بدّن يسرقو أغلى شيء عندييي.
سألته راوية بلهفة عمّا به، فأخبرها بأنّ مصيبة ستقع، لأنَّ برهان بيك أخبره بأنّهم يريدون تزويج ابنتهما.
في البداية ضحكت راوية بداخلها، اعتقدت بأنّه سيزوجها ابنه إبراهيم، لكن صدمتها هي ووالدتها عندما أعلن اسم العريس:
– فريد.
صرخت الأم وابنتها، شوووو؟؟!!
بعد يومٍ مضنٍ من العمل في حقل برهان بيك، عاد جميل إلى بيته منهك القوى، وغاضبٌ جداً لأنّ رب العمل قد صاح به بسبب ضياع نعجةً من النعاج ولم يجدوها، لكنَّ البيك وضع اللوم على جميل، الذي كان يجب عليه عدُّ النعاج ليعرف بأنَّ نعجة ناقصة، والبحث عنها، فما كان من البيك إلا أن خصم عليه إيجار هذا اليوم بالكامل، فجاء إلى منزله غاضب و”بناقر خيالو”. جهّزت له ريحانة المياه الساخنة لكي يستحم، وقالت بأنّها ستحضِّر الطعام، لكنّه رفض فهو ليس بجائع. دخلت غرفتهما بعد أن نيّمت ابنها يوسف.
أرادت أن تُصلح العلاقة مع زوجها، فبحركات خليل تحرّكت مشاعرُ الأنوثة لديها، وأرادت أن تُفرغَ طاقتها مع زوجها كي لا تُضطّر إلى النظر لغيره، نامت في غرفتها على الفراش شبه عارية علّها تُغري زوجها ويواصلها.
دخل جميل الغرفة ونام بقربها ولكنّه لم يكترث لا لوجودها ولا لإغرائها. حاولت أن تقترب منه وتحضنه، لكنّه صدّها بقوة، أعادت الكرّة فقد استبدّت غريزتها بها، لكنَّه غضب منها وأبعدها بقوة.
– حلّي عني مش رايقلك، بعدي عنّي أحسن ما فش خلقي فيكي.
– بس أنا اشتقتلك!
قالتها بدلال وعادت لتحتضنه، فما كان منه إلا أن أبعدها بقوة ونهض من فراشه وراح يضربها وينعتها بالفجور وأنّها لا يهمّها شيء سوى غريزتها، ويقول بأنّه يشقى ويتعب طيلة النهار لكي يخصم عليه البيك تعبه، كان يعيد كلامه ويضربها.
نهضت من الفراش كي تهرب من ضربه لها، وقالت وهي تبكي بأنّها أرادت وصاله كزوج لا أكثر. أجابها بعصبيّة:
– ولِك عم قلِّك حلِّي عنِّي مش طايق حالي، فهمي عربي.
لبست عباءتها وخرجت إلى الغرفة الثانية تبكي وتتنهنه، كرهت حياتها من تصرّفات زوجها وطبعه، قرّرت الذهاب لبيتِ أهلها وتركه نهائياً. خرجت من المنزل دون أن يشعر جميل، فهو بعد خروجها من غرفتهما عاد إلى الفراش.
لم تشكّ ياسمين يوماً بأنَّ زوجها برهان سيخالف رأيها أو لا ينفّذ طلباتها، فهو مُغرمٌ بها، لا بل منصاعٌ لها بالكامل… أتاها وهي تجلس قرب الموقدة على الكرسي الهزّاز، تقرأ رواية فرنسيّة، فهي امرأة مثقفة، وأخبرها بأنّه تكلّم مع عزّ الدّين وقريباً ستتزوّج ابنته من فريد. فرحت ياسمين بالخبر كثيراً.
كان إبراهيم يحضِّر ثيابه لأنّه سينزل إلى بيروت حتى يُكمل دراسته، سمع الحديث من آخره حين قالت ياسمين بأنّه بقي على زوجها إقناع فريد بالزواج من راوية، قال إبراهيم:
– شوووو! مين بدو يتجوّز مين؟
رمى حقيبة الثياب على الأرض بقوة. تفاجأت والدته ولكنّها ذات شخصيّة قويّة، انتفضت من مكانها وأخبرته:
– فريد بدّو يتجوّز راوية، ليش مستغرب؟
صاحَ بوالدته ولامَها لأنّها تعرف بأنّه يحبّ راوية فكيف ستزوّجها من شخصٍ آخر. تدخّل برهان بيك:
– معقول تحبّا وهي مش من مستواك؟
أخبرته ياسمين بأنّه متعلّقٌ بها منذ كانا صغيرين، وأخبرته بأنّهما كانا يلتقيان قرب النهر، وأنّها هدّدت والدتها بعدم لقائهما، لكنّهم عائلة محتالين يحاولون الإيقاع به. عتب عليه والده، لأنّه من غير المنطقي أن يتعلّق بها. حاول إبراهيم الدفاع بشراسة عن حبيبته، وأنّها آدمية ولو كانت ابنة فلّاح، وذكّر والدته بأنّها أيضاً ليست أرستقراطية. عندها عاتبته ياسمين وصاحت بوجهه بقوة، مؤكّدةً على زواج فريد وراوية.
لم يردَّ عليها، لكنّه ترك القصر، ركب حصانه وذهب إلى النهر كي يشكو له غضبهُ، فهو الأعلَم بما بينه وبين راوية.
لم تستوعب راوية ما قاله والدها، حتى الوالدة كاد يُغمى عليها، وراحت تنظرُ إلى ابنتها وتلومها على علاقتها بإبراهيم، ولكنّها لا تستطيع قول شيء أمام زوجها، فأيقنت بأنَّ هذه ردّة فعل الست ياسمين. سألت راوية والدها وهي تبكي:
– بيي ليش تِقبل؟!
بكى أمامها وقال:
– يا بنتي أنا ما بدّي إقبل، بس البيك هدّدني ت ما زعّل الست، وإلا بتئزيني.
صاحت آمنة بقلبٍ محروق:
– والله ما رح إقبَل، خلص منترك الشغل عند البيك، مش رح نموت من الجوع، بس ما بقبل تتزوّج بنتي فريد.
نهض من فرط قهره وأصرَّ على رأيه بقساوة ملؤها اللين، وقال بأنّها ستتزوّجه غصباً عنها وإلّا سيموت في السجن. فهو يحبّها كثيراً ولكن “حكم القوي”، قال كلامه بحرقة ورمى جسده على الكنبة وهو يتنهنه من البكاء.
أمّا راوية فقد تركت البيت وركضت وهي تبكي، تركضُ وتتخيّل حبّها الذي سيضيع.
ذهبت ريحانة لبيت أهلها شاكية باكية. هرعت والدتها للقائها بحفاوة لأنّها خافت أن يكون مكروهاً قد أصاب ابنتها:
– خير يا إمّي، بكي شي، يوسف بو شي؟!
جاء والدها ملهوفاً لاعتقاده بأنَّ شيئاً مهمًّا قد حصل:
– شو يا بيّي شو بكي ليش عم تبكي؟! جوزك بو شي؟!
– دخيلك يا بيّي خلّصني منّو، بضلّ يضربني، ما عاد بدّي عيش معو.
– شو عم تقولي؟! شو عاملي ولي لضربك؟ أكيد غلطانة ب شي؟
قال كلامه وضربها بقوة؛ حاولت والدتها ردعه، لكنّه أبعدها وأكمل ضربه لريحانة ناعتاً إياها بالفاجرة، وأنّها بفعلتها ستضع رأسه في التراب وستتكلّم عليه الناس بالعاطل، حاولت زوجته تهدئته لكي تستعلم عن الموضوع، لربّما كان جميل مخطئٌ مع ابنتها.
– سكتي إنتي كمان أحسن ما أضربك إنتي وياها، يلّا نقبري رجعي عبيت جوزك، المرا المحترمي حالا ما بتترك جوزا بهالطريقة ولو جَرش الملح ع ضهرا.
وما كان منه إلا أن طردَها وطلب منها العودة من حيث أتت غصباً عنها، لأنّه لو تركها في منزله لألحقت به العار، وستتناوله الألسن بأنَّ ابنته غير سوية، وأنّ زوجها قد تركها لعاهة أخلاقيّة فيها.
عادت ريحانة إلى منزلها مطأطئة الرأس، وأُجبِرت عندها على الصبر على طبع زوجها وإهاناته لها ساعة يشاء.
تركت هذه الحادثة أثراً سلبياً في نفسيّتها ولم يخطر ببالها سوى خليل وضحكاتهما وكذلك نظراته الجريئة لجسدها، وظلّ الدمع يملأ مقلتيها.
وصلت راوية إلى النهر حيث كان لقاءها الأخير مع إبراهيم. جلست على صخرتهما تبكي وتنتحب. ما هي إلا دقائق حتى وصل إبراهيم فاعتصر قلبه عندما رأى حبيبته تجلسُ في مكانهما المعهود وتبكي. جلس بقربها حزيناً أيضاً، حاول وضع يدهُ على شعرها لكي يضمّها إليه، لكنّها صدّته بقوة وقالت:
– عجبك شو عِمل فينا بيَّك؟؟ بدّو يجوّزني لفريد، أنا فكّرت بدو يجوّزنا، بس لااا أنا مش قدّ المقام.
كلّمها بصوتٍ حزين بأنّه تفاجأ مثلها وأنّه افتعل مشكلةً مع أهله كرمى لها، وقال لها:
– حبيبتي إنتي منّك مجبورة تِقبلي، فيكي ترفضي الزواج.
عندها غضبت جداً منه لأنّها لا تستطيع أن ترفض، فوالدته ستسجن أباها، وأكثر من ذلك سيطردونه من العمل في القصر هو ووالدتها. نهضت وأرادت الذهاب، حاول أن يمنعها، لكنّها دفعته وقالت له بحرقة أن يجدَ حلاً ويبرهن عن مدى حبّه لها، وإلا سينتهي كل شي بينهما.
قالت كلماتها وركضت، أمّا هو فقد راح يناديها واعداً إياها بأنّه لن يتركها. لكنّها ذهبت ودموعها تملأ عينيها.
في بيت منتصر تسود الفرحة لأنهم سيذهبون في صباح الغد إلى بلدة جوار العلّيق لرؤية عروس ابنهم منصور، والعريس غير راضٍ بسبب إعجابه بصبيةٍ أخرى. لكنَّ والدته طمأنته وقالت له:
– إمّي بكرا منشوف الصبية وإذا ما عجبتك وحياتَك ما بصير شي، بيّك كثير متفهِّم. قوم سندي نام بكّير، تقبرني بكرا مشوارنا بعيد.
أمّا من ناحية أهل العروس، فما زالت الوالدة فهيمة تدرّب ابنتها خولَنجان على كيفية العرض أمام العريس، وتُقنع زهر البان أن تذهب من البيت كي لا يُخرّب كل شيء، وكذلك تطلب من زوجها أن يكون يقظاً لكل شيء، وأوصته على المهر وقيمته، أما نجيب فقد طلب منها تجهيز ما لذّ وطاب من الأكل للتغطية على فعلتهم.
كذلك حال ريحانة التي تتحضّر للقاء خليل، صحيح أنها تخاف من كلام الناس، فما حصل معها غير مقبول.
لم يحتمل إبراهيم فكرة أن تتزوّج حبيبته راوية أحداً غيره، عاد إلى القصر ليلاً، وصاحَ بوجه أمّه التي اعتبرها أنّها وراء كل ما سيحصّل لحبيبته، لكنَّ الست ياسمين سيدة جسورة لا يهمّها جرحُ قلب ولدها، وكل ما يهمّها هو أن تنفِّذَ كلامها وأن تُبعِدَ راوية عنه.
تركها وخرج من القصر، ركبَ حصانه وانطلقَ مسرعاً، راحت أمّه تناديه، لكنّه لم يردّ عليها، هي أيقنت أنّه سيعود، فحقيبته ما زالت في القصر، ولن يُغادر من دونها. انطلق نحو منزل حبيبته، وعندما وصلَ، صهل الحصان، سمعته راوية، عرفت فوراً بأنَّ إبراهيم قرب منزلها، أرادت أن تخرج، منعها والدها لأنَّ الدنيا مظلمة في الخارج.
– رايحة ع المفترج[4].
………………
المؤلف: صقر البعيني
[1] – بقبشة: كلمة عامّية تعني البحث عن شيء، والباحثُ مغمض العينين، أو في الظُّلمة.
[2] – الزنزلخت: هو نوع من الأشجار المعمّرة، تكثرُ في المناطق الباردة.
[3] – الحبرة: هي طرحة العروس التي تغطّي وجهها، وكان الدارج أن تكون شفافة.
[4] – المفترج: كلمة عاميّة قديمة تعني الحمَّام.