قصة : أزرار القميص
لــ : بوزيان أحلام
البلد : الجزائر
السن : 19 سنة
المستوى الدراسي : سنة اولى جامعي . تخصص أدب عربي .
كانت أزرار القميص تخترق أحداقه، تتسلل إلى أعصابه الحركية، تحتلها و تعشش فيها،
و تراوده همساتها التي تسقط أوامرا عليه، تغريه أطياف الفضول بقضم تلك الأقراص
القمرية التي اختزلت عليه مسافة الشوق لخرق معالم خيالية قد لا يراها إلا في الأسرة الموحشة بين أغطية ممنوعة مرغوبة …
تتغلغل تلك الأزرار إلى قعر الشهوة الدفينة أين تجلس القرفصاء في صدره المثقل بخفايا الرغبات السرية المتوارية خلف معتقدات كان لا بد من وجودها لضبط المسير، تستحي من قيم هدهدت شواربه قبل انتصاف الدرب العسير، ثم لا تكاد تخرج للعلن متمردة على ما بعد الخامسة، لتبدأ لعبتها المسائية المتواطئة مع بعض الأزرار …
ما كادت نظراته تنزاح عن أزرار دهماء تفتح لمتأملها حب التلذذ بغموضها الساحر الأخاذ، كانا بؤبؤيه ينزلقان على بياض القميص الناصع، و يتدحرجان رويدا رويدا على منحدرات تنهيدات ساخنة، خرجت من فوهة بركان على شاكلة نهد ترامى عليه الألم، و كبلته باقات الشوك البري المذبل في قوارير الزيت المغلي على موقد الزمن العصيب …
كانت ضربات نجواه السرية تزداد كلما دغدغت حواسه الغريزية فكرة اكتشاف ما وراء تلك الأزرار المنتصبة أمامه، و التي تقف حاجزا بين رغبته الشديدة في طبق تحلية جديد، و بين جسد مرمري عذري قد لا يرتوى منه برشفه مستعجلة، و لا بأكواب كؤوس الحلوى المسكرة …
كان القميص يحكي حرمان الحنان الأبوي، يتصفح قصائد اليتم الممرغ في برك الظمأ العاطفي، و كان الرجل يتساءل في قرار نفسه : كيف يمكن لهذه الأزرار أن تغلق أبوابا لأكواخ الغبن و العوز ؟ و كيف لهذا القميص المغري أن يتحمل هذه المسؤولية المجحفة على الرغم من مقاسه الذي لا زال يحمل شيئا من الطفولة البائسة ؟؟
راحت فصول القصة الخريفية تتساقط بردا شتويا على جسده، فتجمد أوعية أمنياته الشهوانية، تصنع جبلا من جليد بينه و بينها، تلبسه جناحي ملاك سماوي، و تمنحه إكليل الأرواح الطيبة … لا يكاد يستوي على رأسه حتى يخلعه الفضول، و يطلق المثالية الزائفة و يخترق قوانين المدينة الفاضلة و يحمل القوس ليصيب قلبا بريئا من الإثم، إثمه الوحيد أنه دفع به إلى الوقوع في الإثم …
ما كان الجليد يقدر على الوقوف أمام لسعات اللهيب المتنامي مع شهوة النار الحارقة، لكن ما ذنب قلب بريء ليحرق ؟ ليوأد ؟ ليكون ضحية الأنانية ؟
علقت رغوة الضمير غصة في حلقه، و جلست تنصت لوقع أنغام حروفها تستعطف وريده الذي ما زال يحفظ شريط فيلمه الكلاسيكي، و يبثه بين الفينة و الأخرى على مرأى من مستقبله الصامد … يتذكر أنه كان ذات يوم يتحسس النور في ظلام حجرته الضيقة المكدسة بسبعة إخوة و أم أرملة خذلتها الأيام الخوالي، يلجأ إلى الزقاق الضيق المزركش بالقنوات الصرفية و فضلات الطيور، يطوي بعض الكرتون و يتخذ منه كرسيا يكفيه شر البرد القارص المنبعث من وجنات الأرض … يتوسل لذلك العمود الكهربائي المنتصب وحده في ظلمة الدجى، يحسب نفسه إلها ورث جوبيتر البرق و الرعد خاصة الإله
زيوس … لكنه تأخر في معرفة الحقيقة و في اكتشاف أنه لا يعدوا كونه أسلاك يكسوها الحديد يحقق رغبة موجده و مخترعه …
يكتفي الرجل الطفل برضع البعض من جرعات التدفئة المجانية، و يغتنم الفرصة ليكمل درسه بعد أن ما عادت شموع البيت تكفيه لتحقيق حلمه بأن يشتري قميصا ذا أزرار يحكمها وقتما شاء، و يسلط أنامله لتفرض سيطرتها عليها و تفرمها بعنف أو بلطف حسب نوعيتها …
و ها هو الآن يريد أن يمتلك قميصا آخر ليس من حقه، رغم أنه تفاعل مع قصته المؤثرة، بل و تمادى في لعن المدير الخسيس الذي تخلى عن عامل فقد ذراعه في آلة طحن القمح بمصنع الشعير المجفف …
تركه يقضم أظافره ندما على حافة الموت البطيء، يحمل للمارين لافتة كتب عليها بحبر الظلم ” معاق “و يعيش مرغما على منحة لا تتجاوز ثمن شراء لعبة آخر خادم لبالونات سمسرة الأزرار …
صدقة أقبعته ينتظر ساعات في طابوهات المعوزين من أجل تأمين رغيف خبز كان ذات يوم المسئول عن درسه و تحويله إلى طحين، ها هو الآن يشحذه من الآخرين الذين لا يفقهون شيئا عن معانيه …
ها هو يرتدي القفة الوهمية بعد أن تمزق قميصه صارخا وسط جموع العقلاء الذين انتهى من تهذيبهم الصبر، و خلا بعقولهم الوسواس، و صاروا دمى تعيش وسط تزاحم الضوضاء و الغارات …
جعلته هذه المعزوفة السيمفونية الدرامية يدلك رقبته محاولا التخلص من نعاق الضمير الذي استفاق على ظهر مكتبه فجأة، و رفض إجهاض آخر حياة تنام و تصحوا على ضلال قميص نعجة مستلقية أمامه …
كان لا بد له أن يعلق قميصها على رفوف انتصاراته المتوالية، فهو يعلم أنه إن لم يكن أول كاتب اسمه المخضب على نحرها، فسيأتي آخر و يستلم التكدير اللانهائي في عالم غدت الغابة ارحم منه بألف مرة كان لا بد أن يتذوق معها طعم سلطة الأزرار … كان لا بد أن يجردها معصم القنوت و يسلمها جرعات من خدر ملوك الطوائف … كان لا بد أن يفرك نزواته على محك الرغبة المستبدة عليه هو نفسه …
كان لا بد أن يفاوضها على مائدة المقايضة الحتمية، و يخيرها بين اللذة و بين الاستسلام الحتمي، بين امتيازات تشبع إخوتها و حناجرهم الجوفاء، و بين العيش بحظيرة جرداء … و كان عليها أن تختار بين قميص لم تراه إلا مغلقا طيلة ثلاث و عشرين سنة مضت، و بين أزرار ترتجف أناملها كلما دنت منها لتفتحها … كان عليها أن تختار، و أن تحتار في عملية الاختيار …
تركت قميصها مستلقيا على كرسيه الهزاز، و بعض الأزرار متطايرة هنا و هناك، فقد عمدت إلى تركها لأمر هذا الذي صار سيدها فجأة، تركته يعبث بها ، يرسم معالم خريطته الجديدة على منحدرات هضابها …
تركته يسقي لسانه من لبنها، يتوسد عليها و يفرض نفوذا سلمته إياه، يقطف أنفاسها و يسل حبلها السري ليحتسي نخب اللذة … تركت شرايينها تنسل و تخرج خيوطا حمراء تنسج لها قصة نهاية القميص التي باتت وشيكة بعد أن فرت باصمة على مقبض باب الأزرار جريمتها الأولى و الأخيرة …
14 / 01 / 2015