ط
مقالات بقلم القراء

أصداء Sous Les Tilleuls.( قراءة لرواية ماجدولين ) .للكاتبة / هالة جاد

                                        ✿ أصداء Sous Les Tilleuls

“الحب هو ذلك السلاح الذي يقضي أحياناً على آمالنا، وربما على حياتنا”.

“إن اليوم الذي أشعر فيه بخيبة آمالي، وانقطاع حبل رجائي؛ يجب أن يكون آخر يوم من أيام حياتي، فلا خير في حياة يحياها المرء بغير قلب، ولا خير في قلبٍ يخفق بغير حب”.

“وما الرجال كما يقولون إلاّ أنصَافاً ماثلةً تطلب أنصافها الأخرى بين مخادع النساء، فلا يزال الرجل يشعر في نفسه بذلك النقص الذي كان يشعر به آدم قبل أن تتغيّر صورة ضلعه الأيسر، حتى يعثر على المرأة التي خُلِقَت له؛ فيقِرّ قراره ويُلقي عصاه”.

“لا رذيلة في الدنيا غير رذيلة الفشل، وكل سبيل يؤدي إلى النجاح فهو سبيل الفضيلة، وما نجح الناجحون في هذه الحياة إلا لأنهم طرقوا كل سبيل يؤدي إلى نجاحهم فاقتحموه غير متذمّمين ولا متلوّمين، وما سقط الساقطون فيها إلا لأنهم تأثموا وتحرجوا وأطالوا النظر والتفكير”.

كانت تلك بعض كلماتٍ كتبها استيفن إلى ماجدولين في بعض رسائله، ولعلكم عرفتم الآن عن أيّ رواية أتحدث، على الرغم من مرور كل تلك السنوات من كتابتها لأول مرّة، ثم إعادة طبعها ونشرها وترجمتها مرّات عديدة، وكيف تكون الرواية أو القصة جيدة؛ إذا لم أبكِ لبكاء أبطالها، أو أضحك ملء فمي لزقزقة الضحكات في أفواههم؟!، وماذا أفعل إذا اعتصرني الهم والغم بين يديه بؤساً على حالهم، وحزناً على مآلهم؟!.

إذا لم يحرك ما تقرأه أو تشاهده أو تسمعه شيئاً بداخلك؛ يستفز وجدانك ويبعثر بعض مشاعرك، فهو بالتأكيد أي شيءٍ آخر غير أن يكون عملاً أدبياً ذا قيمة، فالدراما والتراجيديا والكوميديا والإثارة والتشويق، حياة منّا وإلينا وليست مهنة؛ تستمتع بقضاء الوقت مع أبطالها، متعايشاً مع أحداثها، ومتفاعلاً مع تفاصيلها الصغيرة والكبيرة، وما شعرْتَ مطلقاً أنك ضيّعت بعضاً من وقتك ولا تسلّلَ إليك الملل، وربما حان الوقت لمراجعة نفسك في ما تقرأ وتشاهد أو تسمع.

كانت رواية ﴿تحت ظلال الزيزفون﴾ فرنسية الأصل، وباكورة أعمال الروائي والأديب والصحفي والناقد الفرنسي ألفونس كار، وقد اعتمد أسلوب المراسلة معظم الوقت سمةً للسرد فيه، والتي اتخذت طابع الأدب الرومانسي الحاد، الذي كان منتشراً في أوروبا عامةً، وفرنسا خاصّةً أثناء القرن التاسع عشر، وقد اتخذت طابعاً وجدانيّاً عميقاً حد الخيال، ولوناً رومانسياً كمال المثال، الأمر الذي أعجب المنفلوطي، وبادر إلى ترجمتها، رغم جهله التام باللغة الفرنسية حينها.

 ما أشبه اليوم بالأمس!!..

لم تحتلّ ﴿ماجدولين﴾ هذه المكانة الأدبية والاجتماعية من فراغ؛ ولكنها أظهرت كيف يختلف الناس في طريقة فهمهم للسعادة، وكيفية الوصول إليها؛ فالبعض يرى أن السعادة كامنة تحت ميثاق الحب الغليظ والوفاء للمحبوب، والبعض الآخر يرى أنها في امتلاك المال وإنفاقه والتمتع به، بغض النظر عن طرق الحصول عليه.

كما وأصبحت ﴿ماجدولين﴾ إحدى الركائز الأساسية في تأسيس الأدب الرومانسي الحديث، وكانت انعكاساً قويّاً وحاداًّ لصورة المجتمع الأوروبي في تلك الحقبة من التاريخ، والتي أظهرها الكاتب في أبسط صورة لحالة الاضطهاد الذي كانت تعيشه المرأة وتعاني منه، فالرفض لم يكن إلاّ للفروق الطبقيّة التي كان يتنفسها المجتمع آنذاك، فلم تكن المرأة غير تذكرة عبورٍ للارتقاء من الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى الغنيّة الراقية.

وكيف مات الحب خوفاً تحت ظلال الزيزفون، بينما اتّقدت جذوة الحب واشتعلت نيرانه في أروقة القصور المذهبة، الآمنة بين أكوام المال!، وكيف أوقفنا المنفلوطي وقفة تساؤل ومحاسبة للمجتمع والناس عن اختلال الموازين واختلاف القيم والمبادئ!، وكيف نضحت الرواية بكل تلك المشاعر الجياشة من بين سطورها الحب والمعاناة التي سبّبتها قلة الوفاء، والتي أشارت إلى قيمة من القيم الإنسانية الرائعة، والتي يجب أن يتصف بها كل إنسان في هذا العالم.

ومع أن هذه الرواية صدرت عام 1832م؛ إلا أنها تحاكي الآن واقعاً نعيشه بحذافيره البغيضة، فلا صوت يعلو فوق صوت المال، فلقد كان المال ومازال ويكأنّه الحاكم الفعلي في العلاقات الاجتماعية، ولا سيّما الزواج، وقد باتت الأغلبية توقن بأن الفقر يقتل الحب، وفي ذلك مقاربة بين المجتمع الغربي والعربي.

ليس من السهل نسيان كمّ المشاعر والأحاسيس المخطوطة في تلك الرسائل المتبادلة بين استيفن وماجدولين، ولا أن يغيب عن عقلك وقلبك شعور ماجدولين في ذلك الحال، وماذا ستفعل إذا وضعت أمام الاختيارات نفسها، وكيف ستتصرف؟، فضلاً عن حال استيفن؛ ذاك المُحِبّ العتيد، المخلص، الشديد الكبرياء، والحادّ في محاسبته لنفسه ومواجهتها وتقويمها وحثها باستمرار للنجاح وبلوغ ما بعد الطموح بطموح، وكيف وضعته الظروف موضعاً قاسياً مؤلماً، لا مفرّ منه.

كما يتراءى لي الآن الأبطال في هيئتهم وأشكالهم وأخلاقهم، وكيف اعتصرتهم الأزمات والمواقف جميعهم، وكيف كان رد فعلهم تجاهها؟، ومن هنا وجدنا أنفسنا نحكم عليهم ونعطيهم البطولة المطلقة أو الثانوية، نعم هم كذلك؛ استيفن، ماجدولين ومولر، إدوار وسوزان، وكل واحد منهم كان بطلاً في وقته ومكانه، وعلى طريقته.

تجلّت موهبة ألفونس كار وهو يصبّ الحب ونيران الوَجْد صبّاً في هذه الرواية، وها هي النزعة الرومانسية الحادة وقد طغت على الرواية بأكملها؛ متجوّلة بين مشاعر الحب والاشتياق، نيران البعد والاحتراق، ثم المجالدة والمجاهدة بعد تجَرُّع كؤوس الغدر، وتحمّل الطعن بخناجر الخيانة المسمومة حد القهر، ثم الهرب مع اليأس والغرق في الحزن كما القبض على الجمر، وما عاد دواءٌ ينفع ولا ابتهالٌ يشفع.

وكما أبدع الروائي دي كار في ترتيبه لأفكاره ولمسته الرقيقة في الكتابة، والإبداع والدقة في اختيار المفردات والألفاظ وحبكة الأفكار وتسلسل الأحداث، مع التأثير على القارئ قلباً وقالباً دون ابتذال أو هزل أو تجاوز، مع المحافظة على عفّة العلاقة بين استيفن وماجدولين، كما كانت العادات وأخلاق العائلات المتديّنة حينها، وكذلك فعل المنفلوطي الذي أسبغ على الرواية هنداماً جديداً وألبسها لباساً حسناً؛ في خلاصة مثيرة للمشاعر الجياشة بأسلوب سرده الساحر، وطريقته الرائعة الفريدة، وبلاغته الشديدة قد وصل لشغاف قلوبنا، الأمر الذي كان من حُسن حظّنا نحن القرّاء.

و ﴿ماجدولين﴾ ليست رواية رومانسية اجتماعية فحسب، بل كانت شاهداً على العصر آنذاك، حين سلطت الضوء على تلك المرحلة التاريخية، وكيف تناولتها من زاوية اجتماعية متمعِنَة في جوهر الكيان الإنسانيّ الذي تحكم في المجتمع الأوروبي، وجسَّد العلاقة بين الطبقات الغنية البرجوازية وتلك المتوسطة والفقيرة، والمعاناة الظاهرة والباطنة الدائرة بينهما.

وخلال كل ذلك وأنت تتنقَّل بعين عقلك وقلب قلبك بين الأبطال؛ فتتعجّب من (ماجدولين) وكيف أمكنها أن تكون النجمة القريبة البعيدة على اختلاف المراحل والمكان والزمان، ومع اختلاف قوة وميضها وسيطرتها، فلقد كانت النجمة التي تدور حولها الأحداث ومن ثمّ تعود إليها، فكانت محور النص المنتج للأحداث والدافع له.

في حين كان (استيفن) بشخصيته المتميزة؛ البطل الحقيقي الصامد على الدوام، المقاوِم لكل الظروف مهما بلغت قوتها وشراستها ضده، والمحرك الأساسي للأحداث، وفيه انعكاس لصورة المثقف الأوروبي الذي علّم نفسه بنفسه، واجتهد عليها بقسوة لتكون ما هي عليه من ثقافة وفهم ووعيّ، مع ما طغى على شخصيته من التمرد، وطبيعته الرافضة للمجتمع الطبقي وموازينه الجائرة الظالمة، والداعية للمساواة والعدالة الاجتماعية.

وشيئاً فشيئاً ستتساءل عن دور الصديقَيْن (إدوار وسوزان) في الرواية، وللحقيقة فإن دورَيْهِما من الأدوار الأساسية في بناء الحبكة وقوتها الدرامية، فلقد كانوا أسوأ الشخصيات باحتراف، وأسوأ الأصدقاء بامتياز؛ حيث جسّد (إدوار) دور الصديق الانتهازي بجدارة، والذي لم يقدّر صديقه حقّ قدْرِه، ولم يحفظ له مساعداته الوفيرة له حقّ حفظها، وفي طرفة عينٍ خائنة ضرب بقدسية الحب والميثاق بين اثنين عرض الحائط، عندما تزوج حبيبة صديقه الوحيد، رغم معرفته التامّة لكل شيءٍ بينهما، وإدراكه الكامل لكمّ عانى صاحبه تلقاء ذلك، ولم يزل.

فكان الخنجر المسموم الذي أصاب استيفن في مقتل، والطعنة الملعونة النافذة التي استهدفت قلبه مع سابق إصرار، وتلك كانت بداية النهاية، غير ما كان يبدو عليه من نجاح وتفوق وسعادة وعلّو شأن في موسيقاه، وانتشار صيته في البلاد، جنباً إلى جنب استحواذ الحزن على قلبه، واستئثار الألم والوجع تلابيب روحه.

وهناك (سوزان) التي لم تكن أكثر من صديقة أنانيةٍ غير أمينة، وتجسيداً نموذجيّاً لطبقتها الغنية المتعالية، والتي لا يعنيها سوى الحصول على المال والتمتع به، حتى لو كان ذلك بلاستيلاء على أحلام وآمال صديقتها.

وعندما تنجلي كل هذه الحقائق دفعةً واحدة بكل قسوة؛ تجد (ماجدولين) قد خسرت نفسها مرتين، مرّة عندما تخلّت عن حبيبها من أجل المال، ومرّة أخرى عندما وقف كبرياء استيفن وظلال إدوار بينهما بشراسةٍ وحِدّةٍ أكثر مما كان، فاختارت الغرق طواعيةً على العيش بنصف قلب، واحتقار كامل لنفسها، فأودعته ابنتها وديعةً يتيمة، وأودعت جسدها نهراً جارياً، علّه يغسل عنها وِزْرَها في حق نفسها وحبيبها.

ولم تكن تعرف أنها بفِعلَتها تلك قد خطّت وثيقة وفاة استيفن، والذي أوصى بأن تُرَبّى الطفلة في منزله، الذي بناه من أجلها، وأصبغه الألوان التي اختاروها سوياً، وبأن يدفن معها في قبرها، فمات مصِرّاً على رفقتها، حتى لو كانا جثتين هامدتين.

فالرواية الجيدة لا تموت أبداً، والمشاعر الصادقة لا تندثر مهما تعاقب عليها الزمان؛ فالروايات تنبض من واقعنا، وتتنفس أنفاسنا.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون
زر الذهاب إلى الأعلى