ط
الشعر والأدب

إبن الإنسانية قصة بقلم / مصطفى بوالطين من الجزائر

مصطفى بوالطين
——————————————————————

الموتى لا يرجعون بعد الموت، لكن أبي عادَ بعد أن قتلتُه بيدِي، غرزت الخِنجر في قلبه فخرّ متثاقلا أمام قدميّ شاخص العينين، لكنني عُدت من رحلة علاجي فوجدته في البيت كأن شيئا لم يحدث، وجودُه هو الشيء الوحيد المعهود منذ عودتي إلى الوطن وسط النظرات المرتبكة التي يُلقيها سكان الحي على الخارج لِتوه من مصحة سانتا روزا النفسية بكاليفورنيا الأميركية للعلاج من موجة اكتئاب حاد ألَمّت به بعد الغياب المفاجئ لأبيه، تتساقط شظايا كلامهم على أذنيّ عن هجرته إلى فرنسا طوال أعوام كنت متيقنا فيها أنه لم يعد جزءا من هذا العالم، يتخافتون فيما بينهم عن شقراء فرنسية لعبتْ برأسه تحت بريق عاصمة النور لتُلقِي به على قارعة أزقتها النظيفة بعد أن سلبَته كل ما يملك. في المصحة أكثر شيء تعلمته هو ألا أكترث لكلام الآخرين وأن أثق فيما تراه عيناي ويمليه عليّ رأسي، أفتح أي كتاب تقعُ عليه يدي، احتلَت القراءة جزءًا كبيرًا من يومياتي فقد كنت أدخلُ مكتبة المصحة الضخمة لا أخرجُ منها لساعات تشدّني سِير العُظماء وملاحم القدماء ألتهمها بشغف فقدتُه عند عودتي، لا أستطيع أن أركزَ على عنوان الكتاب الذي حملته، أحاول القراءة لكن المَشاهدَ تتراقص أمامي بلا هوادة، صوت أبي المخمور في أواخر كل ليلة ينهال بشتائمه على أمي التي تنتظر أن تخور قِواه لتَتلقفَه وتجرّه إلى غرفته راضخةً لهون سِبابِه وماسحةً بصاقه عن وجهها الطاهر. الكلماتُ لا وجود لها، كل ما في الكتاب وجه أبي المشتعل غضبًا في ليالي إفراطه في الشرب ودفعِ أمي الفاتورة من لحمها الطري المرصّع بالكدمات، في الليلة التي قتلتُه فيها كان كالثور الهائجِ يتخبّط في كل اتجاه يرمي بها ويلكزُها في كل نواحي جسدها، أمسكتُ قبضَتَه فدفعني إلى الحائط، أسرعتُ إلى المطبخ لأحملَ سكينا أُهددُه بها لكنني عند عودتي وجدتُ أمي طريحة الأرض بلا حراك، لم أع ما فعلتُ إلا ووالداي على الأرض جنبا إلى جنب أحدهما غريقُ دمائِه والأخرى غائبة عن الوعي من شدة الصدمة. لم أعلم كيف تمت الإجراءات لكنني كنتُ سعيدًا أنني سأقضي ثلاثة أشهر في الولايات المتحدة الأميركية عدتُ منها أرى الوطنَ كأنني أراه للمرة الأولى مسلوبَ الألوان متهالكًا يئِن في صمت ولا يسأَل عن شيء غير قوتِ يومه. تخرجُني أمي من سجن ذاكرتي بأمرها إياي بترك ما في يدي لمرافقتِها إلى الطبيب للمتابعة الدورية، أسألها على الطريق كيف استطاعَت أن تغفرَ له خيانتَه وهجرَه لها كلّ هذه السنين بعد سنينِ القهر التي عيّشها فيها فتُجيبني ببراءة علَت محياها أن الإنسان عليه أن يُسامح حتى يستمرَّ في الحياة وأنها تُسامح لنفسِها لا لوجه أحدٍ آخر، نُكمِل طريقنا دون أن أستوعب ما تقوله ندخُل على الطبيب فلا يبدي أي تجاوب مع وصولنا يَجلِس في مواجهتي يرمقُني بنظراتٍ باردة لا تُوحي بشيء، لامبالاتُه تستفزُّني يَحسبُني مازلت مريضًا وأن رحلتي عقّدت من وضعيتي لكنني أخبرتُه كيف أقنعتُ الأطبّاء هناك بسلامة أفكاري والدورِ الحاسمِ الذي ينتظره العالم مني، يَغرق الطبيب في كرسيّه عندما أَبدأ في إخبارِه كيف أن حسيبة بن بوعلي والعربي بن مهيدي اِنزَويَا بي يبلغانني المبادئ الحقيقية للثورة والتي يجب أن أحفظَها عن ظهر قلب وأعملَ على تلقينها لكل أفراد الشعب لتكون لَهُم منهاجًا يَسمُون به ببلادهم إلى المراتب العليا لا شعاراتً فارغةً تُردّد في المناسبات الوطنية وعند دُنو الانتخابات، بن مهيدي يتحدثُ على عجلةٍ خشيةَ أن يحُول الجلّاد بينَه وبينَ إيصالِه الرسالة إلى الأجيال القادمة، ولا يتوقف عن النُصح رغم جرّ الجلادين له وكمِّهِم لِفَمه، تَبكِيه حسيبة بدموعٌ غزيرة تنحدِر على خدِّها النضِر أُواسيها فتُجيب بكلماتٍ مخنوقة أنها تخشى أن يَذهَب دمُه سُدى بين المزايدات السياسية والنعرات القبلية لكنها مُتيقنة أنني سأكونُ الحارسَ الأمينَ لنَار المِشعل المتّقدة لذلك يجب أن أنجو من الانفجار القادم، تَفتح البابَ الخلفي لأَخرُج وتُغلقَه خلفِي أجد الأمير عبد القادر ينتظرُني ممتطيًا جوادَه الأبيضَ الأصيل، يُركِبُني خلفَه وينطلِق بنا قبل أن ينفجر البيت خلفنا، ألتفِت يشغَلُني مصير حسيبة فيُطمئِنني أنها ماتت لِيحيَى وطنٌ بعدها وأن روحها لم تُقبَض لكنها تناثرت على القلوب تُحيِي فيهِم الحرية، يُسرِع بنا الجواد فأُطوِق الأميرَ بذراعيّ وأُسند رأسي كطفلٍ صغيرٍ على ظهرِه يَبلُغُني منه صوتُه الواثق أننا سلالة الأحرارِ لن يَهنَأ لنا بالٌ حتى تغمرُنا الحرية نقيّةً لا شائبةَ فيها وأنه يعوِّل عليّ للتخطيط للعملية فأردُّ عليه أنّني لا أملكُ الخبرةَ الكافية فيُحذِّرني من الوهنِ ويذكِّرني أن الطريق طويلة وفيها من التجارب ما سيَزيدني فِطنة وتمييزًا للأعداء الحقيقيين. على الطريق تَستوقِفنا ديهيا الكاهنة، انتظرَتْنا على جوادها الأسود فقد كانت تعرّف أننا لن نسلُك طريقًا أخرى، تَحومُ حولَنا فأتخفّى استحياءً منها بعد أن أضعْتُ الأمانة التي أودعتها عندي فتُقرِّب رأسي تَسنِده إلى كتفِها وتمسح عليه راضية عن تمسُّكي بأمازيغيتي رغم الإضافات التي صارت تَصنع انتمائي، تُقبِّل رأسي قبلةً دافئةً وهي تهمِس بأننا جميعًا أبناؤُها وأن اختلافنا هو الذي يَصنع إعجابَها بكل فردٍ منا وحُبّهَا له بطريقة فريدة. يَستعجلُني الأمير لطولِ الطريق فأُفارق ديهيا بعناءٍ بعد عناقٍ طويل. السماءُ بدأتْ تتلبّد، تُبلِّل القطراتُ الأولى جَبِيني أمسَحُها بيدِي فإِذا هيَ بلونِ الدم ورائحته، يأتيني صوتُ الأمير مختلفًا هذه المرة كأنه مشُوب بصَوت ثان يشرحُ لي كيف أنّ هذه الدماءَ لا مفرَ منها في طريق نشر المعتقدات، صوتُه نقيٌّ هذه المرة لكنه ليس بصوت الأمير، يلتفتُ فإذا بي خلفَ عقبة بن نافع وقد شدّ لِجام الجواد عند وصولنا لِبابِ الكوخ المنشود، يستقبلُنا ماسينيسا بحرارة، يَعقد لساني العناقُ المليء بالمشاعر بيْن الرجلين، يُدخلنا ماسينيسا وهو يُثرثِر عن الصداقة القديمة التي جَمعَته بعقبة فأُقاطعه بأنهما لم يعيشا في نفس الزمن فيضحك من سذاجتي ويُخبِرني أن الصداقةَ لا تَعترِف بالأزمان وأنه مُمتن له تنويرَه الأمة وحريصٌ على استمرارِ صداقتهما حتى يستطيع الشعبُ العيشَ في ألفة وأخوة. لا يَبدُو على الطبيب التعجبُ لما أقوله ولا الإعجابُ بالمكانةِ المرموقة التي حظِيت بها والمهمة النبيلة التي وُكّلت إلي، تركيزي على سرية المهمة جعله متحفظًا في الأسئلة المطروحة، أَستعجِلُه لأن طبول الحرب قد قرعت ويجب علي أن أمنَع وقُوعها، أُحاوِل الخروج من عنده لكنه يَستحلِفُني أن أواصل إخبارَه بتفاصيل المهمة وخُروجِنا نحن الثلاثة من الكوخ للوقوف على الربوة كلٌّ على جواده بعد أن اِلتحَق بنا صلاح الدين الأيوبي نُطِل على المعركة المحتدمة أسفل الربوة أَهُمّ بالنزول لكن صلاح الدين يَمنَعني أَصيحُ في وجهه أن المسلمين يُقتلون فيردّ وكأن الأمر لا يعنيه أن القاتلين أيضا مُسلمون أما تدخّلُنا فلن يزيد شيئا سوى منسوبَ الدماءِ المسكوبة، ينطِق ماسينيسا وعقبة بصوتٍ واحدٍ أن هذا ما خَشِياه منذ زمن، خشيا تحوّل تنوع مجتمعنا إلى نقمة يتقاتل بها الإخوة فيما بينهم مُغمِضين الأعين عن العدو الحقيقي، أسأَلهم عن هذا العدوّ الحقيقي الذي يتحدث عنه الجميع فيَدفعُني صلاح الدين نحو المنحدر صارخًا أن أبْحثَ عنه في خِضَم المعركة أن أُفرِّق طعنَتَه عن الطعنات ودِمائَه عن الدماء لا أن أبقى متفرجًا مكتوف الأيدي. في نهاية المنحدر أقِف مغبَر الثياب والتراب يملأ فمي وسط معركةٍ حامية الوطيس تتطايَر الرؤوس أمامي وتلطّخ الدماء وجهي يَتعالَى صوت تشي غيفارا قادمًا من كل مكان مبتهجًا بثورة الضعفاء يتلقى الصفعةَ تلو الأخرى على وجهِه مفتخرًا بمشاطرته ألَمَ المظلوم، يقطعُ حديثَه صوتُ المهاتما غاندي الذي كان جالسًا وسط المعركة إلى جانبِ جان جاك روسو، جلستُ إلى جانبِهِما غير آبهِين بما يجري حولنا، ينهرُ المهاتما المُتَقاتلِين ويذكّرِهم أن التسامح صفة الأقوياء قبل أن يَلتَفت إليَّ ويَأمُرني أن أسأل إذا كنتُ أبحثُ عن أجوبة، أَتساءل لماذا يَجلسون دون حراك ولا يُشاركون الثوارَ ثورَتهم، يتعالى ضحِك جان جاك روسو حتى يَسقُط على ظهرِه وهو يُحاول الإجابة على سؤالي بكلماتٍ متقطعة أن هؤلاء يَجهَلون معنى هذه الحرية التي يبحثون عنها ويتمرّدون من أجلها دون تحَمُّل المسؤولية ودفعِ الثمن مسبقًا بنَزْعِ أغلال الاستعباد عن أعناقهم، أجُول بنَظَري فأرى المتَقَاتلين قد غُلّت أعناقهم بسلاسل غليظة تَربِط كلّ واحدٍ منهم بالآخر، يُقاطِعه المهاتما وقد حزّ في نفسِه عشوائيةُ السهامِ المُصَوّبة نحو الفزّاعات المنتشرة في كل مكان، يقول أن الطاغية الحقيقي في داخلِ كلّ واحدٍ منا في أنانيّتِه وجَشَعِه، وما قد يكون ثورةً بالنسبة لأحدٍ يكون عبوديةً بالنسبة لآخر، أتساءل كيف لي أن أُميّز الحقيقة وسط كل هذا الدخان المُعتِم والموتِ العبثي، يَردُّ جان جاك روسو بصرامةٍ أنني اُختِرتُ لأنني أعرَفُ بالبحث في أدغال قلبي وجعلِه نفسَ القلبِ الذي يدُقّ في صدور الإنسانية كافة. القبضةُ عنيفةٌ على عُنق ردائي تَجُرّني وسط الزغاريد والصّياح نحو نارٍ متقدةٍ تكادُ تبلُغ الأفق، أُرمى داخلَها ككومَة قش فإذا سيدنا إبراهيم يُقاسِمني النار لا تَبلُغنا تلْفَحُنا بردًا وسلامًا، أتأَمل وجهه المجعّد وشيب شعره يَفهَم ما يَدور في رأسي فيُذكّرني أن الفرَج يأتي من الله ولو في أرذَل العمر، كل ما علينا فِعلُه هو التوكّل عليه والخضوع لأَمرِه، يَبلُغني صوتُ غيفارا متسللًا بين الضوضاء أن اُثبُت إنّك تحترق لتُنِير طريقَ الآخرين، يُدنِيني سيدنا إبراهيم إليه يقول أن الإنسان حاضِرُه فقط لا المستقبلُ الذي في حُكم الله ولا الماضي المليء بالأخطاء، أذكُر أنّ أباه كان يُسيء مُعاملَتَه هو الآخر فيُجيبني كأنّه يقرأُ أفكاري أنّه سامَحَ أَباه كما تسامَحَ مع ماضيه. يَأتِيني صوت الطبيب يُخرجِني من سلسلة أساطيري يَسأَلني إذا كُنت لا أزال مُصرًّا على فكرةِ عودة أبي بعد الموتِ فأُفضِّل الصّمت، أَعرِف أنه يُشكِّك في كلّ ما أقوله، أحدِّق إليه بنظراتٍ ثاقبة لا يَظهَر تأثيرُها عليه، وجهُهُ الواجمُ يَزيدُ ثِقل الصّمت على صدري، أُقاوم رغبة الكلام لكنّ لساني يَخُونني فأُواصِل قصة ما تنتظره الإنسانية منّي أنا المخلِّص المنتظر كأنّه لم يطرَح أي سؤال، أُواصِل قصّة يَدِ فريدريك نيتشه الممدودة إليَّ خلال اللهب يسحَبُني من بَينِه ويركُض بي خشية أن يَبلُغَني الموتُ المتربص بنا في كل زاوية، يوصيني لاهثًا أن أَركُن إلى الأديان وأنبِيائها لا إلى رجال الدين أنْ أبحثَ عن الحقيقة في عقلي لا أن أتلقّاها على منابر المساجد وجُدران الكنائس، يُفلِت يدي عندما يقِفُ بوذا في طريقنا ويتلاشى كأنّه لم يكن، يُهوّن بوذا من روعي فالبحثُ عن الحقيقة هي مُهمّتنا في الوجود ولنَا العمر كلّه للعثور عليها لَكنّني لن أجِدَها طالما لم أترفّع عن وديان القتال حيث تَوافِهُ البشر وصعاليكهم، لم يُطِل بوذا الكلام قال أنه يُفضّل الصمت وأنني أَملِك داخلي كل ما أبحثُ عنه وما أحتاجُه لإتمام مُهِّمتي، أسأَلُه وقد ابتعد عني عمّا علَيّ فِعلُه الآن فيأمُرُني أن أتوقّف عن طرحِ الأسئلة لأبدأَ في العمل، أقِفُ على الهضبةِ مُتأملًا الفراغَ المُمتدّ على السهل اللامتناهي تحتِي، صمتٌ رهيبٌ يملأ الأفق، على الهضبةِ المقابلةِ يَبدو طيفُ رَجُلٍ جالسٍ أركُض نحوَه لكنه يَبدو في كلّ مرة أبْعَد، أُسارع الخُطى فأتبيّن وجهَ سقراط، أكاد أصِلُ إليه فيُشير بيده أن أتوقَف مكاني وبسبّابته إلى رأسِهِ يدُقُّها عليه أن أستعمِل عقلي قبل الإقدام على أيّ عملٍ ثم يفتحُ ذراعيه يَبسطُهما إلى الفراغ أن أَتأملَ في الطبيعة ويُمسِك قبضتَه يُربّت بها على صدرِه أن أُنظُر بعينِ قلبِك ليَفتَح سبّابته ويُشيرَ بها إلى السماء، يُناديني توماس إديسون الذي كان جالسًا على حافّة الهضبة هو الآخر إلى جانِبِ كلٍ من إسحاق نيوتن وليوناردو دافنشي، يُواسيني أن لا أَبتئِسَ لعدم حديثه إليّ فثلاثَتُهم هنا منذُ قرون ينتظِرون كلمةً منه لكنهم لم يتوقفوا عن البحث عن المعرفة بَقَوا مُتعطّشين لها ومُستمتِعين بالطريق إليها، قاطَعه دافنشي أنه لولا إتّبَاع الحدس ما وصل أحدٌ منهم إلى هذا المكان وما جَلسُوا يُعمِلون خيالهم ويُشفون فُضولهم عن الطبيعة، بَدأَ المنظرُ في الأسفل يتغيّر أَخذَتْ جِدارية في التكوّن على بعد أمتار من الحافة، أَعرِفُ هذه اللوحة فَأنَا راسِمُها، أخذَ دافنشي يمدحُ لوحة ” أبناء السماء ” التي رسمتُها ودَورَها في إِرساء التسامحُ بين الأديان، أَتساءل كيف للوحة أن تَقْضي على كل هذا القتْل باسمِ السماء وتنزَعَ العنصرية عن قلوب البشرية وتُفَهِّمَهم أن الاختلاف رحمة فيُحذّرُني من إحباط النّفس والتقليل من دَوْرِنا نحو الإنسانية إذا كنتُ مؤمنا بتحقيق مهمّتي، يجِب أن أتحلّى بالثقة العمياء التي تحلّى بها الأنبياءُ حتى أوصَلُوا رسالَة السماء إلى البشر. أنهضُ من مكاني قبل أن أتذكّر أن نيوتن لم يَتكلّم أطلُب منه أن يُمدّني بشيءٍ قبل أن أُغادر فيُجيب في الحين كأنّ إجابتَهُ كانت تَنتظِر على لِسانه أن كل فعلٍ أقومُ به سيكونُ له ردة فِعل فلا أبتئسَ لغيابِ النتائجِ اللحظية ليُضِيف وقد ابتعدتُ أن لا أنسى أن للضوءِ الأبيضِ سبعة ألوانٍ في الحقيقة، أُريد أن أكمِل طريقي تاركًا الثلاثة خلْفي فأصطدمُ برجلٍ أرفعُ رأسي فأجِد سيّدنا المسيح بوجهِه المضيء وشَعْرِه الطويل يَضُمُّني إليه بابتسامة أبويّة أشكو إليه تعبِي وقلّة حيلَتي وضياعي عن الطريق فيمْسَحُ على رأسي ويذكّرني أنه وُلِد بلا أبٍ لكن البشرية كلّها اتبعتْهُ ويُشجّعُني بأنه يرى نَفسَه هو الآخر قليلَ الحكمةِ والمعرفةِ بحلّ مشاكل البشرية، أَرشَدني للبحث في كوخٍ بعيد عن النّبي محمد، على بابِ الكوخ خَرجَ عمر بن الخطاب يُغالِب الدموعَ لوفاةِ الرسول لكنّه متفائلٌ بأننا سنحمي سنّته وننشرُها في العالم، أنهارُ أمامَه كخيمة متهالِكة أبكي بحُرقة على ضياعِ أمَلِي في لقاءِ الحبيب والبكاء على قدميه الشريفتَين وإبلاغِه كيف أرهقَنَا هذا الزمن وكيف أضعْنا الطريق وأضعنَا أنفُسنا، يَحملُني عمر وهو يردّد أن لا وقتَ للبكاء على الأطلال ويأمُرني أن أذهبَ إلى سيدنا نوح الذي أوشكَ على الانتهاء من صُنع سفينتِه، أسألُه عما يجب أن أَفعل للنجاةِ بالبشرية فيُجيبُني دون أن يرفَع رأسه أن الطوفان قادم ولن يَنتظِر إيجادَك للطريقةِ المُثلى، المُهم أن تُقنعهُم بالركوب وأن لا تأْبهَ بآراء المستهزِئين. صوتُ خريرِ المياه يصمّ الآذان قادمًا نحونا بكل سرعة نركبُ السفينة هربًا من الأمواج الضخمة تقذفُنا في كل اتجاه إلى أن رسَتْ بنا على أبواب الجنة وآدم وحواء خارجَان منها يجرّان أذيالَ الخطيئة أُحاول أن ألقي نظرة على الداخل لكنّ ساقاي لا يحمِلانني أفقِد الإحساس بهما يَنسَابان على الأرض أنظر إليهما فإذا بهما صارَا من طِين، أرفعُ ذراعي يتقاطرَان طينًا أندمجُ مع الأرض والأُفق يملؤه صوت يؤذّن إنما المؤمنونَ إخوة وخلقناكُم شعوبا وقبائل لتَعارفوا، أحسّ بالبللِ يغطّي جسدي بأكمله والغضب يَعمُر قلبي لفشَلي في إخراج البشرية من النفق المظلم أرفعُ رأسي فإذا أبِي قد دخلَ مكتب الطبيبِ وقبضَ على رقبة أمي يُريد قتلها مرة أخرى، تصرُخ في وجهه لكنه لا يتوقّف عن الضغط أحاول نجدتهَا لكنني عالقٌ في الوحل يُخرجُني منه وخز الإبرة في رقبتي أعودُ إلى وَعيي فأجدُني قابضًا رقبةَ أمي وهي تتوسّل إليّ باكية ألا أقتلَها كما قتلتُ أبي، تَرتخي أصابعي ثم يَرتخي كل جزءٌ من جسدي أرتطم بالأرض أمامي الطبيب حاملاً الحقنة، جسدي لا وزنَ له أُحسّنِي خفيفاً نقيًا كأنني أطيرُ إلى السّماء.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى