ط
مسابقة القصة

الحياة الخفية لــ(سارة المنسي) .مسابقة الرواية بقلم / هبة الله محمد حسن

مشاركة للمسابقة فرع الرواية
هبة الله محمد حسن
جمهورية مصر العربية

الحياة الخفية لــ(سارة المنسي)

رواية

الفصل الأول
سارة

سارة، سارة ، سارة..
تترنح الهمسات ، كأنها قادمة من بعيد، من بعيد جدا..من ذلك المكان الذي يتلامس فيه الأفق مع الأرض، ولا تستطيع الإمساك به أبدا..

سارة، سارة ، سارة..
الجميع ينادونها سارة، لكن لماذا تشعر أنه ليس اسمها حقا..!!!

لماذا تشعر أن كيانها يذوب وسط الآخرين؟ .. عندما تبدأ بالحديث معهم، تشعر أنها لم تعد موجودة ، أنها دمية تحركها أيد خفية تجعلها تتكلم وتضحك، وتحرك أطرافها ، دون أن تملك من أمرها شيئا..

العشب الأخضر في أرض النادي، الشمس الساطعة، الغادون والرائحون، وهي…أين هي من وسط كل هذا؟

مررت يدها على خصلات شعرها.. شعرها قصير وناعم..هل هي جميلة؟..لا تعرف، ولا يهم..ملامحها الداخلية أهم بكثير، لكنها لا تذكر شيئا عن نفسها من الداخل أو الخارج..!!!

سارة فتاة لطيفة ومرحة، لديها العديد من الأصدقاء..الجميع يحبونها..هذا ما يقولونه، لكن لماذا تشعر هي أنها وحيدة..؟!!!

قررت أن تترك كل هذا وراءها وتنهض، قادتها قدماها إلى المنزل، اكتشفت أنها تعيش في مصر الجديدة قريبا من نادي هليوبوليس الذي كانت فيه منذ قليل..

الشمس تختفي خلف الأفق، لكنها لا تستطيع أن تودعّها؛ فلقد حجبت البنايات المرتفعة وجهها أو ما تبقى منه..

المعروضات تقف منتصبة خلف الواجهات الزجاجية الباردة، كأنها تنتظر شيئا ما؟..تنتظر ما لا يجيء أبدا..هل تختلف هذه المعروضات كثيرا عن الواقفين يراقبونها؟..ربما ليس هناك فرق..
وصلت إلى البناية التي تسكنها، كيف تعرفت عليها ، لا تدري..توقف المصعد أمام الطابق الثامن..
الشقة التي في مواجهة المصعد مباشرة هي شقتها..اتجهت إليها ، دقت الجرس..فتحت أمها..
أمها أنيقة، وربما جميلة كذلك..لكن لِمَ تشعر بان استقبالها بارد ثلجي، كأنها لم تكن تريدها أن تعود أصلا..!!!

أخوها جالس على طرف الكرسي، يتحدث في الهاتف بعصبية..لم يهتم بقدومها، وربما لم يلحظها من الأساس..
والدها يستعد للنزول..قبض على حقيبته، حياها بإشارة من يده..قال شيئا ثم اختفى..

أمها، أخوها، والدها..الجميع هنا، لكن لماذا تشعر أن هناك شخص ما مفقود؟، شخص ما ليس هنا، المفترض أن يكون هنا..ما أقسى هذا الشعور..

الشقة واسعة جميلة ، مفروشة بأساس غال راق..يبدو أن عائلتها ثرية كذلك..عالم جميل هي فيه دمية مدللة..ما الذي ينقصها كي تكون سعيدة؟!!!

دلفت إلى حجرتها..أغلقت الباب ، وجلست على الفراش تتأمل الغرفة..مزدحمة بأشياء كثيرة؛ كأنها تحاول أن تعطي صاحبتها شعورا بالأمان، بأن كل تلك الأشياء تنتظرها هنا كي تدفئها وتحميها..

أعلى الحائط صورة لإحدى الفرق الرياضية، صورة بألوان باهتة لفتاة ما تشبها كثيرا، هل هي صورتها وهي صغيرة..!!

آيات قرآنية، في إطارات مذهبة صغيرة، موزعة على الحوائط الأربع كأنها تشكل حماية من خطر مجهول لا تعرفه..

النادي وأصدقاءها..أسرتها وبيتها..حجرتها وتلك الإطارات المعلقة..هل هذه هي كل حياتها وعالمها…؟!!!
لكنها اكتشفت أن الحياة الحقيقية تبدأ بعدما يذهب الجميع وتبقى وحدها في الشقة..

اهتمامات كثيرة ،عدد لا حصر له من الهوايات..شيء غريب كأنها لا تريد أن تترك لنفسها لحظة واحدة لتفكر..إن التفكير مؤلم في أغلب الأحيان، أكثر مما يمكن أن يتصور أحد..!!!

كانت لديها مكتبة ضخمة من شرائط الفيديو العتيقة، من نظرتها على الملصق على جانب الصورة. عرفت أنها لا تحوي أفلاما بل تسجيلات لحواريات مع شخص ما أو أشخاص..أسماء البرامج مكتوبة بدقة، لكن اسم الشخص مغفل عن قصد أو بدون..!!

هناك كذلك أعداد مفهرسة لمجلات، وجرائد وقصاصات وصور محفوظة في ظرف صغير..

أغلقت الدرج مرة أخرى، وأعادت المفتاح إلى مكانه..لمَ تحتفظ بهذه الأشياء ولمَ تخفيها في صيوان مغلق بمفتاح..؟!!

كان لديها كذلك كاميرا فيديو، وكاميرا عادية..مسجل ضخم..أسفله مجموعة من الشرائط، المحفوظة في أحد الأدراج؛ بعضها شرائط لأغان قديمة وحديثة كذلك، وشرائط تسجيل خاوية، وهناك شرائط أخرى كشرائط الفيديو ملصق عليها أحرف لم تفهم معناها.
وضعت واحدا منها في المسجل فانبعث صوت مألوف لرجل ما، مألوف حتى أنها شعرت بحنين غريب إليه كأنها تعرفه منذ زمن بعيد، بعيد جدا..لكن ذلك الحنين امتزج بشعور آخر أسود مؤلم لم تستطيع أن تفهمه..ما كل هذه لأسرار التي تملأ حياتها؟!!

كادت تغلق هذا الدرج أيضا بمفتاحه، عندما لاحظت تلك المفكرات المكومة بعناية فوق بعضها في أحد الأركان.أمسكت المفكرة الأولى:

من 25 مارس إلى 30 ديسمبر

كان هذا هو المكتوب على الصفحة الأولى

من ا أكتوبر إلى 23 فبراير

وكان هذا هو المكتوب في الصفحة الأولى من الفكرة الثانية..

مذكرات مؤرخة..أكانت تكتب مذكراتها أيضا..؟!!!..متى كانت تجد وقتا لفعل كل هذا؟..الأهم أن المذكرات تبدو كنزا في تلك اللحظة، لابد وأنها تحوى الكثير عن نفسها، تلك التي لا تعرف هي عنها شيئا الآن..

لكن الغريب أن كل المفكرات كانت تنتهي بتلك الصورة؛ دمية قطنية لدب صغير يقف ممسكا حقائبه مستعدا للرحيل..إلى أين؟، لا أحد يعرف..أسفل الصورة كانت دائما تلك العبارة باللغة الإنجليزية:

“من الصعب أن تقول وداعا..”

حتى في المفكرة الأخيرة التي لم تنته بعد..وجدت في نهاية الصفحات البيضاء ذات العبارة، وذات الصورة..
هل كانت تستعد دوما للرحيل وبلا موعد، أم كانت تخشى الرحيل بلا وداع فجأة..؟

“من الصعب أن تقول وداعا..”

أصعب عبارة يمكن أن تقال..

كادت تجلس لقراءة المذكرات، لكنها لسبب ما شعرت برغبة في تركها الآن، وأن تذهب لفتح التلفاز..قلبت بلا هدف بين القنوات، حتى استقرت على تلك القناة..

قفزت في جنون من مكانها..وفي لحظة كانت قد أحضرت شريط فيديو فارغ ، أشعلت الجهاز وبدأت التسجيل..

هو إذن، أتراه هو حقا؟..من تحتفظ بكل تلك التسجيلات له..
من هو؟!!

***

فجأة قفزت كالملسوعة عندما سمعت المفتاح يولج في قفل الباب..أوقفت التسجيل، وأغلقت التلفاز في لحظة..وجلست ترتجف..إنها خائفة ، خائفة جدا..لكن لماذا؟

– “آسف حبيبتي..لقد نسيت بعض الأوراق..”

قالها والدها وهو ينزلق إلى حجرته..ساد الدفء في الشقة لحظات وجوده، ثم عادت البرودة من جديد تخيم على المكان، بعدما أغلق الباب خلفه..
ظلت ساهمة، تحدق في الباب المغلق..شعرت للحظة أنه كان مغلقا للأبد، أنه لم يفتح في وجهها أبدا..
عادت تفتح التلفاز، وتضغط على زر التسجيل..تنساب الصور، والكلمات، لكنها لم تعد تعي شيئا..عقلها سابح في مكان بعيد، وجسدها يرتجف برعشة غريبة..ما بها؟..من أين تتسلل إليها تلك الأحاسيس الغامضة..
من أنت يا سارة حقا؟..من أنت؟..
وعادت تنظر إلى التلفاز؟..
ومن هو؟
شعرت بنفسها مدفوعة لأن تنهض فجأة..تركت التلفاز، وشريط التسجيل يواصل دورانه، واتجهت إلى الفراش..انحنت ومدت يدها لتفتح أحد الدرجين الكبيرين أسفله..جذبته فلم يتحرك..تذكرت المفتاح..مفتاح آخر، ولماذا؟.. كل أبواب حياتها مغلقة بمفاتيح؟..أحضرت المفتاح وانحنت من جديد، ينفتح الدرج ببطء.. يستقر الشيء الأسود البارد في يدها، يقشعر جلدها لملمسه..تدسه بين ثيابها..
سارة، فتاة رقيقة حالمة مثلك، ما الذي تفعله بمسدس مثل هذا؟!!!!

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى