ط
مسابقة القصة القصيرة

اللقاء . مسابقة القصة القصيرة بقلم / بوخلاط نادية من الجزائر

اللقاء
مسابقة القصة القصيرة بقلم بوخلاط نادية من الجزائر
عاد بعد غياب طويل، فوجد وجه المدينة قد تغيرت الكثير من ملامحه، و هو الذي اختصر حياته في حقيبة سفر حملته من ميناء إلى آخر باحثا عن ذاته في مساحة عذاب و اغتراب.
المدينة كانت تغط في سبات عميق، جدران مبانيها ظلت تحتفظ بتلك الألوان الباهتة ، كانت أزقتها فارغة ، و قد اتسعت السماء و أضاء القمر بعضا من تلك الزوايا المعتمة لأزقتها الضيقة.
فكر مليا، و قدماه تحملانه بتثاقل إلى منزل عمه، منزل غادره ذات ليل عاصف، حتى كاد ينسى تقاطيع تلك الوجوه، كل ما علق في ذاكرته هو خروجه غاضبا في لحظة يأس…..
لم يستطع التوغل أكثر فقد خانته الشجاعة في لحظة ما، عادت و قفزت إلى ذاكرته صور تلك اللحظة، و سأل نفسه عن السبب الذي جعله يعود إلى ذلك البيت الذي خرج منه مطرودا ذات ليلة ماطرة.
الرجال عادة لا يذرفون الدموع، لكنه لم يستطع أن يقاوم دمعة عصية غادرت مقلتيه بعد أن تحجرت في المآقي، عاد و فكر و هو ينظر حوله و قد عرت نظراته الشوارع الفارغة ، كل الفنادق محجوزة ، إنها رأس السنة ، فلن يؤيه أي بيت هنا، و هو لا يعرف أحدا في هذه المدينة التي بدت غريبة عنه ، كما كان هو غريب عنها.
تردد و هو يقف أمام الباب، قبل أن يمد يده و يدق الجرس، بعد أن وضع حقيبة سفره جانبا، عادت تلك الأفكار السوداوية لتساوره، لكنه في الأخير قرر التحلي برباطة الجأش و المواجهة، فامتدت يده مجددا و دق الجرس، و ما هي إلا لحظات حتى فتح الباب قليلا، و طلت من ورائه امرأة حسناء جميلة، وجهها الملائكي يشع نورا و ضياء، وأبصر خلفها وجه طفل صغير ، عيناه حدقات زرقاء لامعة.
رسمت تلك السيدة ابتسامة غامضة على شفتيها و كأنها تطرح ألف سؤال عن هوية هذا الزائر الوافد إليها في هذا الوقت المتأخر من الليل، و ما إن كادت تبادر بسؤاله ، حتى خلع نظاراته السوداء التي غطت عينيه المتعبتين، و أجابها بلهجة متحشرجة تخفي الكثير من الحزن و الأسى.
“هذا أنا هل تغيرت ملامحي لهذه الدرجة حتى أنك لم تتعرفي علي؟؟”
“من تكون؟؟”، أجابت وهي ترسم نصف ابتسامة على وجهها الحائر القسمات.
” أنا ذلك الذي غادر بيتكم ذات يوم إلى غير رجعة، ا،ا من داس والدك باقات الورود التي حملتها إليك طالبا يدك منه، أم تراكي نسيتي ؟”
تسمرت مكانها و كان الدم تجمد في عروقها ، و كسا الشحوب ملامح وجهها، لم تدر لحظتها ان كانت ستعاتبه أم ترحب به، و قد هربت منها الكلمات، حتى سحبها صوت الطفل الصغير، و هو ينظر إليها تارة و تارة أخرى إلى ذلك الرجل الغريب، و صاح مبتهجا
أمي…أمي هل عاد أبي …؟؟”
اخترقت تلك الكلمات مسمعها كسهام غادرة، و سحبتها من شرودها، كانت كالغريق تبحث عن مساحة هواء نقي لتستعيد أنفاسها مجددا.
ظل سؤال ذلك الطفل معلقا في الهواء، مدت يدها مصافحة ذلك الزائر الغير متوقع، و دعته للدخول
” كل هذه السنوات من الغياب……………. ،تغيرت ملامحك كثيرا، و تغير العالم من حولي، توفي والدي من كان سببا في تعاستنا، و غادر إخوتي البيت مع زوجاتهم، فيما اختار زوجي معاشرة غيري، ….. جدران وحدتي باردة ن لا شمس فيها سوى النظرات البريئة لهذا الطفل الصغير، لكم شدني الحنين إليك، لكنني لم أكن أدري أين رست بك سفينة الأقدار”.
تأمل وجهها بضع لحظات ، ليردف قائلا : ” رست بي في عوالم الضياع، البرودة ، و الأحلام المدمرة ، حاولت أن اطوي الصفحة و أن أمزقها ، لكن ثمة شيء ما ظل يشدني إليك، ظلت نظراتك تلاحقني، و دموعك التي انسابت يومها و قلبك الذي انكسر ، لا زلت اذكر تلك التفاصيل جيدا”.
أحست برغبة في احتضانه علها تعيد إحياء ذلك الماضي الذي توقف لكنها تراجعت، خانتها الشجاعة كما فعلت معها أول مرة و سمحت لغيرها أن يقرر مكانها، و عاشت تقاوم الندم و الحزن طوال حياتها.
” ما الذي حل بك منذ ذلك الوقت؟”، سألها و هو يستقرأ نظرات عينيها اللتان امتلاءتا حزنا، و عكستا فراغا رهيبا وباهتا
تنهدت بعمق و ردت بنبرة تعلوها الحسرة و الحزن : ” أجبرت على الزواج و خضعت لرغبة والدي، فكانت حياتي جحيما لا يطاق، و نلت من الحزن و الدموع ما جعلني افقد الرغبة في العيش لولا وجود طفلي الذي ملئ عليا حياتي ببعض من قبسات السعادة ما كنت لأجد طعما للحياة و الاستمرار، لقد قررت أن أغلق سرداب قلبي إلى الأبد ، و عشت فقط لأجل ابني ”
دعته للدخول، البيت كان واسعا و لكنه كان فارغا، كانت جدرانه تختزل ساعات حزنها و ترويها ألوانه الباهتة، و تعكسه صورتها مع زوجها و هي بفستان الزفاف الأبيض، و التي احتلت زاوية معتمة في ركن من أركان البيت.
دعته للجلوس ، فقلبت نظراته جدران الغرفة الحزينة الباردة، و أحس بشعور غريب يختلجه و يحرك أحاسيسه.
اختفت المرأة و بقي الطفل ينظر اليه بعينين حائرتين، و كان يسأله ببراءة الأطفال المعهودة و يكرر السؤال لمرات متتالية : ” هل عدت أخيرا يا بابا ، أين كنت ؟”
لم يدر بما يجيبه سوى بابتسامة هادئة ، حاول بواسطتها
إخفاء توتره، في لحظة اختلطت في أعماقه المشاعر و الأحاسيس، و عادت به الذكريات إلى جدران ذلك البيت الذي طرد منه بعنف في تلك الليلة من قبل عمه المتعجرف، عم ظل قاسيا معهم، و استخدمه كوسيلة للانتقام من شقيقه الأكبر، حيث جمعتهم علاقة الدم و فرق بينهم الميراث.
وهي “نائلة” التي دافعت عن حبها له، و لكنهم في النهاية تمكن جميعهم تحطيم قصة حبها الجميلة له، و وئد مشاعرها إلى الأبد، مشاعر ظلت حية في أعماقها حتى وهي في عصمة رجل ، اختارته لها العائلة طمعا في مركزه الاجتماعي.
عادت بعدما اختفت للحظة و بيدها صينية القهوة ، في الخارج اهتزت أوراق الأشجار بجنون، و ولولت الريح، وضعت نائلة الصينية على الطاولة، و اتخذت مكان لها في محاذاة ابن عمها “عمر، الذي عادت نظراته لتتأملها من جديد.
“لم تتغيري نائلة، نظراتك، ابتسامتك الهاربة منك كالعادة ، لم يستطع الحزن أن يحكم سطوته على قلبك المليء و المفعم بالحب….”
” الحب؟؟…………، نسيته منذ تلك الليلة حين أجبرت أنت على مغادرة بيتنا بعد تصرف والدي المهين معك، ظل يضمر لك حقدا دفينا، لذا قرر ليلتها الانتقام مني و منك،وحطم علاقتنا ، و طعننا بسكين كرهه الغادر، لم يجف نزيف جرحي منذ ذلك اليوم ، لا لم يجف ”
وقفت في حركة واحدة ، و اتجهت صوب النافذة ، وهمت بفتحها على مصراعيها، فتراقصت الحجب الأرجوانية اللون، على وقع الرياح و عانقت في تطايرها سقف الغرفة، و تسلل هواء بارد لف جسدها الممشوق ، في حين تطايرت خصلات شعرها الغجري الذي غازل دموعها المنسابة.
أسرع نحوها “عمر” محاولا استقراء نظراتها الحائرة، الهاربة من وهج الذكريات و ندوب الزمن، وكأن بهذه الذكريات عزمت في تلك اللحظة أن تقتص منها استسلامها و ضعفها و تهاونها في الدفاع عن حبها له.
جثمت على ركبتيها و قد خبأت وجهها بين كفيها، انحنى محاولا مساعدتها على الوقوف ،وجهها كان كضياء القمر في ليلة اكتماله ، حدقات عينيها كانتا تعكسان خوفا مبهم، و غير مبرر، نظرت إلى ابنها الصغير و كأنها تراه لأول مرة في حياتها
“كم اشعر بالوحدة، بالندم، بالحزن يا ابني الصغير….”
كانت كالغريق الذي يبحث عن طوق نجاة، و في قمة الانهيار و الخوف من الموت، ليس الموت الجسدي بل الموت الروحي، و هي التي خالت نفسها جسدا بلا روح، فروحها سافرت معه……
كم كانت ضعيفة، و حبها له أقوى ما في الوجود، التقت نظراتهما بعد خمسة عشرة سنة من الفراق و الدموع و الحزن، خمسة عشرة سنة من أقدام أدماها المسير على درب الأشواك و الآلام.
نظرت إليه مليا، تحسست وجهه الأسمر،ثم شعره الأسود الذي غزاه الشيب، قفزت إليها صورته، و قالت في حوار سري دار في أعماقها “كم تغير ، و كم فعل الدهر فعلته به و بي…..”.
ترددت قبل أن تمتلك الشجاعة و تضمه إلى صدرها، حينها فقط تمكنت من البكاء بين أحضانه بحرارة ، بكت استسلامها، ضعفها ، وقلة حيلتها، بكت غيابه عنها و البعد .
تمعن في عمق بريق عينيها، و ألف سؤال و سؤال يدور في أعماق نفسه، عن سبب تلك الدموع، كان فرحا لأنها كانت تحفظ حبه بين جوارحها، و في فؤادها المكسور، فؤاد عاد للحياة، و للنبض من جديد.
مسح دموعها، و قال بصوت مطمئن ليهدأ من روعها
” لا تفكري في الماضي، رافقيني على درب الحياة، فاليوم ولدنا من جديد، هل توافقين السير إلى جانبي في مشوار حياتنا لنعوض و نضمد جراح ماض فاتنا ، و نلحق به ؟”.
أومأت برأسها بالإيجاب، و هي تشد على يديه بحرارة، و عيناها ترقصان فرحا و قد عاد إليهما بريقهما المتوهج، و لسانها يلهج بالحمد و التسبيح، و قد أزهر درب الأمل بين راحتيها من جديد بعد سنوات ألم عجاف.
بقلم / بوخلاط نادية
الجزائر

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى