ط
مسابقة القصة

المصب ..مسابقة الرواية بقلم / شادية قاسمي – تونس

مشاركة رقم 1 في الرواية
شادية قاسمي – تونس

لم تجمعنا أخوة فحسب…أشياء كثيرة نمت بيننا….من نظرة واحدة كنت أفهم ما يريد…
ننظر بأسف لهذه الأسرة التّي منها نكون كيف ننتشلها مما هي فيها…؟
و لا نقدر و هل يمكن أن نقدر يوما ما و نحن لا نملك سوى أحلامنا…
نتبارى أحيانا في ليالي الشتاء الباردة من يقدر أن يُنِيمَ إخوتنا كنا نختلف فأنا أستعمل معهم اللّين و هو يخيفهم و يرعبهم فينامون…

-“ألا اشمخي و كونِي قوّتك الفاخرة… كوني أكبر من الخنْجر أحدًّ من الألم”

هكذا كان يردد دائما …
لكنني لم أكن سوى أنثى هشّة قشّة تطوحني الرّياح فلا أقدر أن أرتاح إلا على صدر يحميني و لا أجد…
لم أجد
أوَ لنْ أجِدَ….؟؟؟
و تظل فيّ هذه الغربة تحوطني من كل مكان لا تمثل سوى حدودا ساخنة…
في برودة و برد يتسلل إلى العظام ينخر ترانيم الفجر فيّ…
فلا أصل إلا منهكة القلب و الوجدان و أجزاء من جسدي كثيرة لم تعد تحتمل البقاء و لا الرحيل
و يستمر صوت دقات حذائي على الإسفلت…
تماما مثل صوت دقّات الرّوح و هي تنهال و تنهار على الأرض بلا لطف
تتكسر فتضحي شظاياها حادة جارحة…
و روحي انهارت و تكسرت لكن هل كانت كمَا الزجاج لا أدري ِ هل جَرَحَت أم جُرِحت…
وحده قاتلي” قردي الأزرق” الذّي عَرَف متَى يمُدّ يده ليقطف العُمر
حين رفَضْته كنت قبِلْتُ
قبلت أن أكون له في يوم بلا لون إنه اليوم الأقتم في حياتي …
يوم استفقت و يدي مخضّبة بدماء الحناء كرهتها جريت إلى الماء
غسلتها وغسلت لكن اللّون لم يسقط عنها… بل ازداد التصاقا…
بكت أمي و هي تشدني و تمنع هيجاني الهستيري…
أكسر ما كان أمامي…
بعد سويعات سيكون هنا مع شاهدين ليكتب العقد و أي أحبُولة قد شُدّت على رقبتي …
حين رفضت كنت قبلت
قلت في سري لا…
ترجمها الواقفون نعم و انهرت من داخلي…
و لم أجرؤ أن أعارض وحدها ضلوعي هبّت في ثورة عارمة اهتزت انتفضت أسكتَتْها أمي بحضن كبيرو أطفأت جمرها بدمعاتها المعتادة…
أيام فقط….مرت كحزن كبير عليّ كنت جثّة بَاردة يصْنَعون بها ما يشاؤون
أبي يدخل و يخرج حاملا أشياء قيلت لي…
أمي تنظف هنا و هناك و تنثر الحزن كلما أرادت أن تبثّ فرحا و الوَجَعُ وراءهَا ينْبُتُ كالصّبار
تنظر لي من وراء جفنين متفقدة جنوني خوفا أن يثور…
و هي لا تعلم أنني مُتّ و ليْسَ أمامَها سِوَى جُثّة باردة …
إخوتي يرقصون رقصتهم الأخيرة
كرقصة موت…
أراهم يتمايلون أمامي تتراقص ظلالهم و تتفتت خيالاتهم و يتشَظّون إلى قطع صغيرة….
بين دموعي يدخل الرّجل يحمل محفظة يجلسونه أمامي
يبدأ في كتابة تلك السطور…
يكتبها و الحبر دمّ و الحِكاية قتيل و بعض …نُوَاح
تعلو الزّغاريد في أنْحَاء الحَيّ فالكل يفرح لي و لو يعلمون لترجموا زغاريدهم حشرجات…
كنت بلا صوت لأتكلم ….
و لا عين لأرى ما يراه غيري…
لمع نابه
برقت عيناه و هو يراني أرسم تلك الخربشة الحزينة …

******
من يتجول في الحي يلمح فتاة شاردة تضرب في الفضاء و تصرخ في حنق تلعن…
كنا نلاحقها أينما ذَهَبَت لا ندري ما تفعل لتزرَع أقاليم حُزْن في أسْرَة حزينة أصْلا…
تلك الفتاة كانت أختي
تهمهم و تلتقط الحَصَى لعَلّهَا تَرْجُمُ الأيام السّود التّي لمْ تلاطِفْ طفولتها…
ترجم شياطين الإنس التي مرت على جسد هوى و أصبح سَبّة في تعاريج المكان وصمة عارية و عارا لا أحد يغفره كالإثم الغريب في أرض مقدسة و كأن أفواج الملائكة لا تنقطع عن صنع الحسنات و نحن فقط من شوّه الوجود بذنوب لا تغتفر فقاطعنا الكل و أرسل الأعمام مكاتيب لأبي يحذرونه من العودة إلى تلك القرية الكئيبة التي هربنا من قتامه أرواح الناس فيها ذات ليلة شتوية حين عاد أبي من عمله بعد أشهر فوجدنا نكاد نموت جوعا..و لم تستطع الأعشاب التي تلتقطها أم مسكينة أن تُقِيت عددا كبيرا من أطفال هزلت الأجساد فيهم و الصبا و حبا أصغرهم يلتقط قطع الطين و أجساما غريبة يسد بها الرّمق …يااااااا كم أنتم قادرون على تنصيب أنفسكم قضاة و أربابا يا حزمة الشياطين الورعين ..
ها هي لعابها يسيل و عيناها زائغة و أطفال يهرعون كلّما لمحوها تمُرّ عبْرَ الدّرُوب تجْمَع “البلاستيك”
هم يعرفون مسبقا أنّ جنونها شجرة تتسامق سريعا و يُتَرْجَم غضَبها إلى عُري…
سريعا ما تبدأ في نزع ثيابها و هي تكْشِط بأظافرها الحَمقاء الجِلْدَ….
تتَمَلّكُها حَالَة من الألم و الساديّة…
فلا نصل إلا و قد كادت تكون أو كانت بلا ثوب يقيها خناجر عيون وقحة لا تشفق على العقل الذّي ذوى
عيون مِشرط تفك للجلد أزراره….
و تقف وسَط السّاحة و الأطفال يترنّمُون و يصفّقُون وهي بلا وعي
تشدّ شعرها…
تتطاير الأثواب…
يتغامز الأنذال…
يستغفر البعض…
لا يطأطئون عينا و لا يتحرّكون بعيدا عن مشهد القتيل الراقص…
تخفي بعضهن عينا و بالأخرى تجلد الجسد الغضّ….
يتَعَالى العُوَاء…
تَكِثر الذئاب
تتلاحق الأنفاس
يسيل لعابها من الغضب…
يسيل لعابهم من لذّة…
يتراقص النهدان المقطوفان على نقرات الأكفّ…
يضْحك الصّغار…
تبكي عيْن…
تلْمَع أخْرَى …
تُرْسِلُ عيون سياطا على مناطق كانت لها و أسْتُبِيحت…
تَجري أمي و هي تلعن حين تَصِلُ تغَطّي بلِحَافها مَا تَعَرّي…
و تسقط الفتاة وسط حلقة كبيرة من المتفرجين…
تتخبط طائرا جريحا لا أحد يستل السّهم المسْموم الذّي غرزوه في الجناح….
تبكي أمي حين لا تجد غطاء يخفي ثمارا استلذّت رؤيتَها الذئابُ
و بعيونهم قطفوها….
تمضي الأيام و نحن وراء هذا الجسد الغاضب يبحث في قلق عن نفْسِه…
تلك الفتاة النضرة كبسمة تداعت كأجمل نورس طائر في الفضاء الرّحب أقبلت على الحياة تخبّطت جرت.لهثت وراء حياة أجْمَل
التصقت بمن هم من غصْن أعلى منها
جربت أن تكون غير ما نحن
فلم تجد الجناح فلم تجد القوّة…
لم تجد نفسها…
يوم ألقيت كالنفاية القَذرة على الطّريق و قد جربوا فيها كل ما يمكن أن يكْسِرَ أنثى…..
ما أبشع ما حصل لها…
يوما…كنا نبحث عنها اختفت عنا لم يرها أحد…
سألنا
و تساءلنا
قصدنا كل تجمّع ربما تكون هي حطب و قُودِه ربّما أردوا أن يحوّلُوا هذه الدمية الجامحة ملهاة عبث صبياني يريده الأشقياء مسلاتهم ربّمَا ألفَت العُيُون تُفّاحَها و تضاريسها و جنونها الذي لا حد له و لا عقل يكبله ..
بكت أمي و مسحت دمعها و همّها وما نزل من منخريها في طرف غطاء رأسها….
جرّت نعلها و هي تعود لتتهالك أمام بيتنا على حجر كبير….
في صمت جنائزي و كم اجتمعنا إلى أن غدا الانتظار وليفنا و الهَمّ رُوحا تهَيْمِن علَى المَكَان و أبي بسنواته الخَمسين مومياء التفّت حوْل نفسها و تعالى من فمها دخان محموم هو اختناق القلب الحزين .
كم كان كتوما…همّه و دخان فقط…ألمه يتطاير مع ثاني أكسيد الحزن
غابت و لم نجدها
و مرّت الساعات كَلَوْعة..
سألنا عنها في كل الدّرُوب و لم نجدها و أين نجد الضياع لو هام على وجه التيه
و إخوتي هاموا في كل طريق يذرعون الدّروب لعَلّها في مكان ما
بحثوا
سألوا
بكوا
زاروا المستشفيات و المسالك و الأزقة و أينما يمكن لعقل مفقود أن يقود صاحبه…
لم نجدها….
غابت كشَمْس محترقة….
******
خربشتي اللّعِينَة قادتني إليه مثل دجاجة مشتهاة..
جهزوني….
نظفوني…
زيّنُونِي…
وضعوا البهارات اللازمة لأستوي شهوة رجل.. و لأكون أنثى يمكن أن تثير عيونه و هم لا يعلمون أن كلي و بعضي و أجزائي و أطرافي و ثناياي كلّها غائبة عن الإحساس خارجة عن كل مناطق الشعور…
و أن هذا ليس إلا جسدا مهشّما تصادف في لقائه شظاياه وقد تغرز في صدره أو في جسده تدميه و قد يتحول هذا الجسد إلى رماد بلا معنى بلا روح تنفعل أو تتفاعل
زجوا بي في سيارة تحملني و الأم ذات العين المدرار لا تدري أتبكي أم تزغرد ام تنسى شتائم أمه ذات اللحم الذي لا روابط بين كتله …تحولت شتائمها المسعورة أوامر لنا “افعلي لا تفعلي و اختلطت روائح عرقها الغريب برائحة خضاب و عطر رخيص و بصل و صيف و احتراق ربما في غرابته شبيه برائحة احتراقي أنا ربما حريق غابة الروح تعالى أو انطلق من حجر هذه اللحمة المترجرجة كهلام
أبي يخنق حزنه في سيجارة.
و يمتص قلقه في أعقاب سجائر لا يرميها سوى لما تحرق السبابة و الوسطى و تحترق لحمه ربما و هو يلقيني كعقب سيجارة مسكينة يحس بألم الاحتراق ربما …لم اسأله و كلام قليل منه لم يش أبدا بما كان يفكر .
لا أحب أن أذكر ذلك اليوم يوم من قَرْنِ الشّيْطَان من لُعَاب الأصْنام من قلق الدّمّ …
الكلّ ينتظر الانْتِصَار اللّعِين و أنا الهزيمة الملعونة التي تندلع وسَط أحشائها حرائق و في ذاكرتها نزيف قاتل.
خطوة
خطوة
خطوة
خطوات العروس المتأنّية خطوات الميّت الكئيبة … أسير بتلك الخطوات أفتعلها و
لا أدري أين طريقي لأن الدمع انهمر و انهمر و انهمر…
سال على تضاريس الخدّ بلا رُقْيَة بِلَا رَقِيب ليَمْنَع هذا الدّمْع …
أمّي فقط منْ كانت تحَاول أن تَثْنِي السّيل عن الانْهمار.
تشرح للأخريات تعلّقي بأسْرَتي
تعلقي بأخوتي….
تعَلّقِي بأبِي…
و تغُصّ حِينَ تُبَرّرُ لُهُنّ تعلقي بها لأنها كانت إلى حدّ القلب الموجوع صادقة…
الكل يتهامس عن كمّ الدّموع التّي سكبتها…
همسات أسمع أطرافها كنت كالقتيل /الحَيّ….
لا أسْتَطيع الرّدّ…..
لا أستطيع الرّدّ…
لا أستطيع الكلام…
حتى عينايّ لا أقوَى عَلَى تَوْجِيهِهَا نَحْوَ الهَامِسَات….

-“ابتَعَدْن عنّي عن هذا الجسد الأحمق…”
غمّسْنَ لحْمِي في مشروبات الحفل و تعالت زغاريد تُخْفِي أنِينِي و تعَالت ضَربَات الطبْل تسابق دقّات قلْب مَوْجُوعْ
و بدأت رحْلَتِي نحوه حين دخل يلبس طقْم الزّفاف الأسْوَد بابتسامة النّصْر اللّعِينَة يحلّي وجْهَهُ…
ذلك “المشموم الأبيض “(باقة من زهر الفل يحملها العريس )الذّي يحْمِله في يَده لم أرَه سِوَى خِنْجر يقْطُر دَمًا حين مدّه لي لم أمدّ يَدِي لآخذِه مِنْه…
جحظت عيناه و هو يرى تجاهلي لمشْمُوم العُرْس و لقَطَرات الدّمْع التّي تتقَاطَر
الدّموع تتقاطر…و تتقاطر
مدّ يده و ضغط بعنف على أصَابِعِي و وضع البَاقة الصّغيرة بيْنَها و بعنف أكْبَر أغْلَقَ راحَتِي عليها .

شادية قاسمي
– جزء من رواية بعنوان المصب (الفصل 13/14/15)

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى