الهروب إلى المستقبل
مسابقة القصة القصيرة بقلم .محمد نجيب مطر
مصر
يتلفت حوله خائفاً يترقب، في كل مرة يخرج فيها إلى الشارع، كأنهم يحاسبون الحمل على تعكير ماء الجدول الذي شرب منه جده، مطلوب في قضية ثأر قديمة لا شأن له بها، خصومه يجدون في البحث عنه للفوز بحياته عقاباً على قتل شخص في زمن لم يكن موجوداً فيه، وقتها كان في بطن أمه.
لم يكد يشب عن الطوق حتى دفعوه دفعاً للغربة القسرية، نصحوه أن ينساهم، ولا يتصل بهم أو يتتبع أخبارهم، حدث ذلك منذ ثلاثين عاماً، عود لسانه ألا يذكرهم بخير أو شر، منع عقله أن يفكر فيهم، قطع كل صلته بالماضي حتى لا يعرف أعداؤه مكانه أو يتوصلوا إليه.
هجروه من محافظته البعيدة في صعيد مصر إلى القاهرة الواسعة كالدنيا، بملايينها الكثيرة، وحاراتها وعشوائياتها التي لا تنتهي، غير اسمه وبدل سمته، بعد سنوات صار شاباً وأصبح من المستحيل التعرف عليه، تقدم للزواج من قاهرية لا تدري عن ماضيه شيئاً، أقنع أهلها أنه مقطوع من شجرة، لا أهل و لا معارف، وافقت العروس وسعدت به واعتبرتها ميزة كبيرة، فلا حماة تتدخل في حياتها، و لا حما يطلب زوجها، و لا أخوة يتولى مسئوليتهم، موقوف عليها وعلى أهلها الذين اعتبرهم أهله.
أنجب ولدين وبنتاً قام بتعليمهم وتأديبهم على أحسن وجه، تفرغ لرعاية أهله والاهتمام بكل تفلضيل حياتهم حتى تعودوا الاتكال عليه في كل شئونهم.
اليوم تأكد أنهم وصلوا لبداية الخيط للوصول إليه، سألوا عنه جيرانه، كما استفسروا عن أحواله من زملائه في العمل، لا سبيل للهرب هذه المرة، لابد أنهم في النهاية سيصطادونه كحيوان وحيد ضل عن قطيعه، وإذا أفلت منهم سيأخذون الثأر من أحد ابنائه.
سمع عن مراكز التبريد التي تجمد العميل فترة من الزمن يبقى فيها الجسد على قيد الحياة في أدنى حدودها، تنخفض درجة حرارته، وينخفض ضغط دمه، تقل سرعة قلبه، ويتباطأ تنفسه.
سيعيش فترة الخفوت الحيوي مثل الحيوانات التي تعيش فترة البيات الشتوي، سيعود بعد نهايتها نشيطاً متجدداً بفضل فترة الراحة الإجبارية.
هذا الحل سيمكنه من الهرب من كل مشاكله دفعة واحدة، سيسقط أوزاره ويعيش بعيداً عن تبعاتها الظالمة، سيتخلص من الثأر القديم الذي يطارده والذي يسعى إليه ويتبعه كظله أينما حل وارتحل، ومن الزوجة المتسلطة المتعجرفة بعصبتها وأهلها، ومن أولاده العاقين المستغلين لحبه، ومن زملائه المنافسين الحاقدين عليه لتميزه بينهم، سيعود أكثر شباباً وحيوية بعد مئة سنة، كأنه غير جلده، سيخرج من دائرة الموت الذي يجد في البحث عنه منذ ولادته.
دخل إلى إناء التبريد بلا خوف، صبوا عليه سائلاً بارداً، بدأ بالتجمد ببطء، أحس بالخدر التدريجي يسري بين جوانحه حتى فقد الإحساس بالحياة.
مرت المدة وكأنه في حلم قصير، قام يتمطى من رقدته التي طالت، خرج من جهاز التبريد وحمد الله على نعمة العودة إلى الحياة.
وجد حوله أجهزة تبريد كثيرة، أصيب بالصدمة عندما قرأ أسماء شاغليها، هرول بسرعة خارج المركز، وحجز تذكرة سفر لدولة بعيدة، ليدخل في مرحلة جديدة للتبريد بعد أن غير اسمه ودينه.
لقد وجد أن زوجته وأولاده وزملاءه قد جمدوا أنفسهم لفترة مماثلة حزناً على فراقة بعد علمهم بما فعل، كتبوا على أوعية التبريد اعتذاراً لأنهم لم يشعروه بمقدار حبهم له، و أنهم لم يتحملوا الحياة بدونه، وتركوا له رسالة في خزانة أماناته لم يقرأها لتعجله، أخبروه فيها أن من يسألون عنه كانوا يطلبون ابنته للزواج من ابنهم الذي كان زميلاً لها في الكلية.