ط
مسابقة القصة القصيرة

جريمة على جدار الرحم .مسابقة القصة القصيرة بقلم / العيد ميلودي- الجزائر

خاص بالمسابقة
فئة: القصة القصيرة
بعنوان: جريمة على جدار الرحم
بقلم / العيد ميلودي- الجزائر
هاتف: 213.0698.640.246+
البريد الالكتروني: [email protected]
انفجرت فجأة بالبكاء و الدموع تنهمر انهارا على الخدين الشاحبين من ألام المخاض و الولادة، تركت أخاديدا محفورة بالألم ، مليئة بالأحزان و الترقب و الانتظار ، صرخت بأعلى صوتها، وصل صوتها عنان السماء، لقد اخترق الآفاق، نداء الوجود، نداء الكبد، كان قد أوشك الفجر على البزوغ لعله يلمّح إلى أمل جديد ، لالّة فاطمة أم الأولاد و البنات ، تسمعهم يتهامسون إنه ولد ، إنه ذكر ، و كأنهم يتركون أثرا عن جريمتهم ، – تصيح – لقد أخذوه مني ، من رحمي مازال يتقطر دما ، مازال يلعب بحبل أمه السُّرِّي، مازال في اللمحة الأولى من الدنيا، أخذته أيادي الغدر، تخطفته قلوب قاسية لا تراعي حنان الأمومة، لم تؤثر فيهم الدماء و لا عواطف قطعة من لحم لم يضم حضن أمه لحظة من عمره، من صورة ملاك طهر يحن إلى روح أمه، يضع انفه على صدرها يتحسس بفطرته نهدها يلتمس رشفة من حنان، و هي بين الحياة و الموت تصارع الردى ، النزيف يمزق أحشائها، لا تبالي بذلك ، تحاول النهوض بحرارة الكبد الضائعة، تصيح في وجوههم أين فلذة كبدي ؟، أين تأخذونه؟ أنا من ولدته، أنا أمه ، كيف تأخذونه؟ بأي حق ؟، سمعت صوتا من بعيد و قد قاربت أن تفقد وعيها- يقول لها : أنت واهمة يا امرأة ، أنت لم تلدي بعد، إنها آلام الولادة، إنها دماء فقط ، إنها أحقاد فقط ، رددت تقول بصوت بقي يحوم حول شفتيها، هل يعقل أن أُمًّا ولدت أكثر من عشر مرات أن تجهل أنها ولدت أم لا ؟، هل يعقل هذا ؟، – يائسة تقول – استودعك الله ثم غابت عن الوعي، و في ملامحها الجميلة المتعبة بتقاسيم حنان الأمومة، في كل انحناء حكاية لا تنتهي، تعابيرها من خلطة غريبة بنكهة الأقدار الجارية على الخلائق، رسالة مكتوبة في لوح محفوظ، لقد سرقوك مني جسدا، لكن لن يستطيعوا أن يسرقوا مني حناني و مشاعر الأمومة اتجاهك يا بني، سيضل طيفك في خيالي، و سأعيش طول عمري أنتظر عودتك بلوعة تلتهب في فؤادي، تلك اللحظة التي احتضنك فيها و تعود لمهدك الأول، أمسح بيدي على وجهك الطري، أقبلك بين عينيك، أُشْبِعُ ناظري من محياك الجميل ، من هول شوقي الذي يكوي كبدي كل صباح و مساء، يؤرقني في ليلي الطويل ، فيصبح فؤادي فارغا لولا ألطاف الله و نجدة الدموع التي أغسل بها بعضا من جروحي التي لا تندمل ، و تعاودها الآلام كسهام تُرْمَى بها فتتقلب على فراش اللظى ، جمرات تتجرعها تترا، حسرة على ما فقدت سالفا، و توجسا على المولود الذي يطرق رحمها يستأذن الخروج قادما ، إنه توأم الضياع، لقد ولدت بنتا كالقمر تنير بضيائها غرفة الولادة، في حيرتها الأولى في دنيا الغدر تتساءل في لحظات عمرها الأولى كيف حرموها من أخيها، أرادت أن تقاسمه فرح الوجود، أرادت أن تشاركه فرحه وسروره، يقبلان يدا أمهما، يشكرانها على متعة الألم الجميل، تبكي بحرقة حيرت الطبيب، لم يعرف سبب صراخها كالكبار، رفضت نهد أمها، لقد رفضت أن تكون أنانية كالبشر، مازالت متمسكة بفطرتها، فهذا من حق أخيها أيضا، لكنها ما زالت تصرخ تنتظر صرخته الغائبة، لقد ابتعد أنينه، و غاب طيفه، لكن رائحته أبت أن ترحل، ظلت تحوم حول أمه و أخته، لتكشف حقد الغمام الحالك في القلوب، حجارة صماء خاوية من الإحساس، إلا أشواك تبثها في طريق البراءة، على بعد زفرات قليلة من جدار الرحم، رحم لم يرحموا تعبه و ألمه و حنينه لقطعة منه، ثم فجأة تبتسم الطفلة البنت البريئة، ابتسامة تأبى التفسير، لم تفصح عن خباياها، لعلها اشتمت رائحة من طيف أخيها، أرجع لها فرحتها المسلوبة ، و راحت تضرب برأسها الهش صدر أمها و كأنها تبشرها بخبر جميل، تطمئنها عن فلذة كبدها، الآن أقبل بجزء من نهدك أمّاه، الآن أرتشف من صدرك بعضا من ألم حرقة أخي، حتى يسري حبه في أعضائي و كياني الطري، ابشري أمّاه لقد عاد طيفه يحوم حولنا، إنه أسير الجسد فقط، لكن روحه الملائكية تأبى الأسر، إنها عصية على الحقد و سراديب الظلام، تطير في الأجواء تعانق النور لا تدركها الأبصار الخسيسة الباهتة، و هناك حيث يتعصب الشر الدفين، عجوز شمطاء تفوق السبعين من عمر غدرها، تضع الولد المسكين في قفة مصنوعة من سعف النخيل، ملفوف في خرقته الأولى، خرقة بيضاء في لونها ،لكنها تستحي من لون قلوب البشر الداكنة السواد كقطع الليل البهيم، تمسح على جسد الملاك الجريح بلطف، تتحصر من غدر الأيام، و من مصير مجهول، نفق مخيف، لا تعرف أين يؤدي، كانت تضعه بجانبها في المقعد الخلفي للسيارة، و امرأة أمامها ترمقها و في عينيها بهجة و سرور لا ينتهي ، و أخيرا ضفرت بولد جميل، لقد تحققت أمنيتها الخبيثة، أحلام ماكرة تخنق متعة النوم، تؤرقه ، تهد مضجعه فيكره مخدة الآلام، تخيفه من انسدال الليل، فيأبى الانصياع لسكرات الغفوة، و يغادر أحداق امتلأت بالدموع، كره من طعم مرارتها ، مرارة ممزوجة بأحزان الليل العابس على بسمة بريئة ضلت طريقها في تشتت الأقدار، و مضوا بالولد حيث فصول من الأيام تنتظره، هناك حيث منزله الجديد، منزل سيأوي قصة العمر الغريبة، سيروي تفاصيلها يوما ما، لكنه ينتظر الساعة الملائمة، الحيطان، الحجارة، كلها في إصغاء عجيب لهذا الملاك الجريح، تحاول استقباله و التخفيف من هول فاجعته، تبتسم له و في داخلها دموع تخفيها من شدة أسفها على حاله البائس، و الجدران تصارع أشجانها ،دخلت الأم الغادرة و هي تمسك بيد زوجها، تدخله إلى غرفة المولود الجديد، أنظر إنه ولد كالقمر، و هي تغازله تنسيه فقر رحمها من قدرته على صنع الفرحة على شفتيه اليائسة، يبتسم على مضض، يسألها ما اسمه ؟، تطرق برهة من الزمن، ثم تقول له:صحيح لم نسميه لحد الآن، اختر له اسما جميلا يا حبيبي، يصمت و في صدره زفرات تشتعل من الحرمان، يقول لها : اختاري أنت له اسما ، تفكر قليلا ثم تقول: لقد وجدت اسما جميلا له، سأسميه: وسيم، إنها الأقدار شاءت هذا الاسم، و احتار الرضيع من اسمه الجديد و أغمض عينيه و غط في نوم عميق .
هناك حيث لالّة فاطمة تصارع ذاتها ، لقد تمزقت نفسها إلى أنفس شتى ، ضميرها و نفسها المطمئنة الخيرة ترشدها إلى الطريق الصواب ، إياك أن تخفي هذا الأمر الجلل عن زوجك و شريك حياتك، إنها خيانة زوجية ، سي أحمد لن يغفر لك ، كيف لك أن يطاوعكِ قلبكِ طمس حقيقة كهذه ؟، هو جزء منه أيضا ، الأم يشرد خيالها برهة و تنفث النفس الشريرة في روعها ، يختلجها الخوف و تنتابها هواجس المصير ، يا حمقاء أتبدين سرا كهذا ؟ ، أصمتي لا تخبري زوجك بأنهم أخذوا طفلك ، أنتِ لم تستطيعي أن تفعلي شيئا ، فلماذا تفتحين عن نفسكِ جبهة خاسرة قد تعكر صفو حياتك ؟ ، و إذا أخبرته أنكِ أضعتِ ابنكِ سوف يغضب عليكِ و يطلقكِ و ينسى كل سنين العشرة و يرميكِ وراء ظهره ، ثم يحمِّلكِ المسؤولية على كل ما جرى ، و كأنَّكِ أنتِ المجرمة التي اقترفت هذه الجريمة الشنعاء، تمر السنين مر السحاب مسرعة ، و تكبر الطفلة الصغيرة ” عويشة ” شطر التوأم المشتت بأيادي الغدر الماكر ، تصبح فتاة جميلة فاتنة ، و لكن ريب السنين لا يبرح أن يرمي هاته الأم المسكينة التي عانت من ضنك الشقاء و آلام الجفاء و كابدت من ويلات الانتظار عواصفا هوجاء، و تجرعت من صنوفه كؤوسا مر مذاقها كطعم العلقم ، كيف لا و هي تدس سرا يهد الجبال أثقالا ، و يخرق الأرض فتعجز عن حمله أحزانا ، لا يشاركها سرّها إلا مقل مثقلة بالعبرات و سهر يؤرق الأحداق و ليل طويل أرخى سدوله يبث خوفه قطعا من سواده أسى و لوعة ، طيفه لا ينفك أن يرتسم بين عينيها ، خياله يطاردها فتغوص في أغوار الذكريات فتنسى كل الوجود، و تهمس بكلمات الحنين ، ترنيمة عذبة تستدعي بها شآبيب الرحمة و مكامن العطف الذي يتأجج بين جوانحها ، يهد صدرها و يدك فؤادها ، ترد عليه و كأنها تسمعه و هو يناغي في حجرها يتربع على عرشه الملكي، حضن أمه الدافئ ، كأنها تطبطب على كتفه اللين الصغير ، هذا الملاك الذي أدارت الدنيا له ظهرها يوما ما، ولم تبرح لحظة أن تتذكره ، فهو يخفق مع كل نبضة من قلبها ، مع كل نفس تستنشقه ممزوجا برائحته التي مازالت تعبق بها ذاكرتها التي لا تنضب ، و لكن هيهات هيهات أن تفلت من تبعات الأسى ، و تترصَّدها الأمراض و تنهكها الأسقام ، و تنخرها خطوب شتى تهيمن على جسد مزقته سهام الزمن بطعان أصابتها في مقتل ، آه يا صبري كيف أشتكي ، و قد عَجِزْتَ عن حمل أثقالي ، كيف تضِجُّ مني و أنت مؤنسي الوحيد، ألا أيها الصبر الجميل لا ترتحل ، فهذا الجسد الحقير أنهكته الجراح ، و لعق من كيد الأيام أقداحا من سم زعاف ، لا يغمض لي جفن أحتضن الليل أشواطا حتى الصباح ، و أي صباح و هو يجدد نكأ الذكرى ككل الصباحات الخاليات، و تقبل نسائمه – قرة عيني- تستفزني ككل المساءات ، لعلني أبني آمالي أبراجا من رمل فتلطمه الأمواج فينهار عدما و جحودا ، أرى طيفه يتدلى على رمشي يتراقص بين أحداقي، فأهفو فجأة من غير وعي مني كالتي تسمع صراخ النجدة ، حتى إذا ما وقفت أجد سرابا و خرابا يهدم كل جبال الشوق ، و يبني سورا من الطوق ، إنه السجن الذي يأسرني ، يخنق حريتي و يضعضع راحتي، و تظل على هذا الحال و تقعد على فراش المرض لا تبارحه تحتضن بثها ، و أحست بدنو الأجل ، و بدأت تتلاشى عناقيد الأمل ، شجرة تذروها رياح الخريف تطايرت أوراقها اليابسة فَتَشَتّتَتْ كأيام العمر، أيعقل أن أموت قبل أن أكحّل عينيّ بنظرة منه و أنا أنتظره كل هذه السنين!، هل يَخِيبُ ظنِّي هكذا!؟ زفراتها و أنفاسها المتقطعة أصبحت تخنق الكلمات في حلقها، لقد استحوذ عليها مرض عضال، يئست من حالها ، و تعاظم السر الذي يسكنها ينخر جسمها و يضج صدرها ، فتضيق نفسها و تخر قواها ، لم تعد قادرة على كتمانه ، إنها تخاف أن تردمه للمرة الثانية التي لا نجاة فيها ، لقد دفنت سرها طول حياتها بين جوانحها ، و ها هي اليوم على شفا حفرة الموت ، إنها تخشى أن تطمس الحقيقة للأبد، يجب أن أخبرهم تقول في نفسها ، يجب أن أبرئ ذمتي أمام الله ، لا أدري متى تنقطع أنفاسي ، و ترتقي روحي للملك الجبار، ماذا أقول لربي حينما يسألني عن فلذة كبدي ؟ ، رحماك ربي ، لم يكن باليد حيلة، أنت أعلم بحالي، لقد قرَّرتْ كشف الحقيقة و إخراج السر الذي دُفِن لسنوات طويلة ، أومأت لابنتها ” عويشة ” أن اقبلي إليَّ، انحنت البنتُ البارَّة على أمها ، و جعلت أذنها عند شفتيها، فهمست إليها أن تستدعي كل الأهل، لم تتمالك عويشة نفسها و عرفت أنها وصية الوداع، أجهشت بالبكاء و ارتمت على صدر أمها تضمه ، لعله حضن الفراق ، لا عليكِ يا ابنتي ،لا تخافي أنا بخير ، تحاول أن ترفع من معنويات ابنتها ، تلح عليها أن أخبريهم بالحضور حالا ، تذهب مسرعة إلى أبيها المتعب الذي اختار أن يقعد في حَوِشِ المنزل بعيدا عن ضجيج الأنين الذي لم يعد قادرا على تحمله ، أنيسه الوحيد إبريق الشاي الذي لا يفارقه، تقطع عليه ابنته خلوته ، أمّي تطلب منك الحضور بسرعة ، يبدو أنها تريد أن تخبركم عن أمر ما ، يتأوه سي أحمد طويلا ، فلتسامحني حقا إنها تعاني من الوحدة، أعرف أني مقصر معها ، رغم مرضها إلا أني لا أقعد معها أخفف عنها بعضا من معاناتها ، اعذريني فضغطي لا يحتمل ، فقط أنينك من بعيد يسرّع من نبضات قلبي و يربكني ، تطوف عويشة على الجميع تخبرهم الخطب ، لا يفرط الأب أن يكمل الرشفات المتبقية من كأسه، ينهض متثاقلا نحو زوجته التي يكن لها حبا كبيرا ، لقد اسودت الدنيا في وجهه منذ أن سقطت طريحة الفراش ، الكل حول لالة فاطمة في ترقب ، أنظار شاخصة و آذان صاغية ، كأن قلوبهم نبضة واحدة أهبة و رهبة ، تتكئ على يديها ترجع إلى الوراء تستند على السرير، سأقول لكم سرا لكن عدني يا زوجي أن لا تغضب عنّي، سي أحمد – حائرا- أي سر يا أمرأة ، تعيد مرة أخرى عدني أولا ، لا حول و لا قوة إلا بالله – يردد سي أحمد- ، إني أسامحك دنيا و آخرة ، فلطالما تحملتِ اعوجاجي و غضبي ، لن أنسى كل سنين العشرة ، ترتعش لالة فاطمة قائلة : أريد أن أكلمكم في أمر جلل ، لقد أضعت ابني يوم ولدت عويشة ، نعم ولدت توأما، وُلِدَ هو الأول ، لقد سمعتهم بأذني ، إنه ولد، لقد سرقوه ، استغلوا ضعفي و حالتي العسيرة و طمسوا الحقيقة و كذَّبوني كلهم ، لم أستطع فعل شيء،إني متأكدة أني وضعته قبل عويشة ، لقد صرخت كثيرا لكن لم يسمعني أحد ، ثم أُغمي عليّ و أفقت فلم أجد إلا بنيتي بجانبي ، فسلمت أمري إلى الله ، لماذا لم تخبريني في حينها – يصرخ – سي أحمد ، تجهش بالبكاء الأم المسكينة ، يحن الكل لحالها المتأزم ، هذه سنين طويلة مرت و لن تعود ، ماذا عسانا أن نفعل – يتأفف سي أحمد- إذا كان حيا ربما سيعود يوما ما ، لا عليكِ ، قدر الله و ما شاء فعل ، كأنها غُصّة تخنق لالة فاطمة ، الكل يظن أنها من جرّاء البكاء، صدرها يهتز هزا ثم يسكن ، تناديها عويشة لكنها لا تجيب ، يجسها سي أحمد ينظر في عينيها ، يلتفت إلى الجميع و يضع يديه على رأسه ، ترتمي عليها عويشة و تصرخ بأعلى صوتها زعزعت عبرات كل الحاضرين ، رحلت لالة فاطمة ، كيف لقلب أم أن يحمل ثقلا كهذا ؟ ، كيف حبست قصة إنسان كل هذا العمر ؟ ، لتبقى لحظات الاحتضار أثمن أنفاس الحياة، لأنها قد تكشف خبايا ، و تجيب عن تساؤلات بحجم السنين الطوال.

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى