ط
مسابقة القصة القصيرة

جي بي إس.مسابقة القصة القصيرة بقلم / إيهاب بديوى .مصر


مسابقة القصة القصيرة
إيهاب بديوي
مصر
……
جي بي إس
على أعتاب أسوار المدينة المضيئة في عتمة الليل والمظلمة تحت أشعة الشمس وقف يعدل جلبابه الجديد. طلب من حماره برفق ألا ينثر فضلاته في الشوارع النظيفة وألا يزعج الأكابر بصوته المنكر. هز الحمار رأسه معترضا. لكنه رضخ للتحرك تحت تهديد العصا البيضاء التي كان شاهدا على تجهيزها من شجرة التوت التي تتوسط حقل صاحبه الشاب شرنوبي الذي أخذ نفسا ملوثا بعوادم المدينة كاد أن يصرعه وسار على ظهر حماره حتى وصل إلى وجهته بعد أسئلة كثيرة وتندرات مستفزة من شباب ذو شعر كبير غير مستو وكأنه لم يذهب إلى الحلاق طوال عمره يكاد شرنوبي يقسم أنه لابد يحتوي على جميع أنواع الحشرات الزاحفة والطائرة غير أنه ملجأ مثالي للزواحف الكبيرة في النهار الحار. أكثر ما أغضبه ضحكة مائعة من فتاة ترتدي جينز المدينة الضيق كحياتهم وهي تطلب منه أن يُفعّل الجي بي إس في حماره ليصل سريعا. يعرف تماما ما تتحدث عنه بحكم تعليمه المتوسط لكنها لا تعرف أن حماره بالفعل يمتلك جي بي إس طبيعي يتم تفعيله بعد يوم واحد من السير في أي طريق ذهابا وعودة. وهي لا تعلم بجهلها أنه طالما عاد به وبأي من عائلته إلى البيت نائما أو غائبا عن الوعي. لم تحسن المدينة الكبيرة استقباله كما حذره البعض. لكنه مصمم على إكمال رحلته وتوصيل الرسالة الأخيرة للعم نجيب إلى ابنته قبل أن يسقط ضحية مرض غامض غير لونه وجعله يمتنع عن الطعام واحتار اطباء المركز فيه حتى مات وحيدا في المستشفى المتهالك للمدينة الصغيرة القريبة من قريته المنعزلة وترك خلفه بقرة حاملا وجديا شقيا وبيتا حجريا يتوسط فدانا قرب الطريق العام كان يعيش فيه تشير الأنباء الأخيرة أنه دخل في كردون المدينة وسيدر ثروة كبرى. وصل إلى العنوان الذي أعطاه له العم نجيب بعد أن انقطعت ابنته عنه إثر سفرها مع زوجها إلى مكان لا يعلمه منذ سنوات طويلة. أحد المتنورين من أبناء القرية القابعة في وسط النسيان رغم قربها النسبي من المدينة الكبيرة مسافة لا تزيد على ربع يوم مختصر وسط الزراعات بالحمار، أخبره ان ابنته موجودة في المدينة الكبيرة وقد شاهدها بنفسه وتتبعها إلى بيتها الفاخر وعرف عنوانها. لكن كرامة وصدمة العم نجيب منعتاه من التواصل معها رغم حاجته الشديدة إلى من يسامره في نهاية أيامه وهو المقطوع الجذور والأطراف اليابس الأرض كما كانت تحب زوجته عديلة ان تناديه. لم يسألها أبدا إن كانت قدرية هي ابنته في الحقيقة. حقا كانت تشبه كثيرا جارهم مدبولي. لكنه لم يشك يوما في إخلاص عديلة حتى ماتت في ظروف غامضة وأعلن الخبر مدبولي حين وجدها غارقة قي الترعة الصغيرة التي بالكاد تصل إلى ركبة من ينزل بها. ولم يأبه للشائعات التي تناثرت حول طلبها من مدبولي أن يقتله ويتزوجها لأنها لا تطيقه وتهديدها بفضح العلاقة فلم يجد بدا من قتلها. حتى عندما واجهته قدرية بالإشاعات بعد سنوات كان لها فيها نعم الأب لم يؤكد ولم ينفي. كان هروبها وإعلانها التبرء منه طعنة قاتلة في قلبه..
لا يهم. حدث شرنوبي نفسه وهو يطرق على الباب بعد أن تابع حماره وهو يلقي بمخلفاته على جانب الطريق فيحدث موجة من الروائح والأصوات والأشكال الدائرية الخضراء.. فتحت له مباشرة قدرية. عرفها من وصف والدها لها وكأنه يراها، توقع حتى التغيرات العمرية في وجهها، سيدة في منتصف الأربعينات متوسطة الطول والجمال. لكنها مختلفة تماما عن بنات قريته. سلمها خطابا من نجيب فأغلقت الباب في وجهه فورا. عاد شرنوبي إلى حماره يعتذر له أن لا وقت للراحة ولابد من ترك هذه المدينة المتوحشة قبل أن يبتلعهم الليل بكل مخاطره وأشباحه كما يحذرونه دوما. لكن قبل أن يتحرك فُتح الباب وخرجت قدرية وهي منهارة في البكاء. وطلبت منه أن يصف لها بالضبط عنوان القرية التي ضاعت من ذاكرتها على نظام المواقع الجي بي إس حتى تستطيع التصرف في البقرة والفدان…
إيهاب بديوي

admin

فتحى الحصرى كاتب صحفى عمل بالعديد من المجلات الفنية العربية . الشبكة .ألوان . نادين . وصاحب مجلة همسة وناشر صاحب دار همسة للنشر ورئيس مهرجان همسة للآداب والفنون

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى